يا طير يا طاير على أطراف الدني روح احكي للحبايب شو بِني يا طير ماذا تراه سيحكي الطائر المهاجر من فلسطين.. المعفَّر برماد الحرب والحرائق.. الهارب من شبح الموت المتربص بالحياة هناك، الحامل في عيونه مشاهد الدمار والفزع بدلا من أغصان الزيتون وأجنحة السلام!! أين ستقوده بوصلته! وماذا سيحمل من رسائل عاجلة واستغاثات! لمن ومن سيلبي! قبل سنوات قدم الأكاديمي المبدع وليد سيف (التغريبة الفلسطينية) في مسلسل درامي مبدع تنافست على عرضه الفضائيات العربية لتثبت حينها أن الإعلام العربي مازال بخير، وأن قضية فلسطين هي قضية عربية لها حضورها في وسائل الإعلام برغم انشغال الأخير في بث الفيديو كليب والبرامج الترفيهية (مرَّة) وبرامج تلفزيون الواقع التي ترصد أنفاس وأفعال المشاركين فيه لاستقطاب أكبر عدد من المشاهدين، أثبت رغم كل ذلك إعلامنا حضور فلسطين. في زمن كنا نستعير فيه ذاكرة التاريخ.. أو ذاكرة من حضر من أجدادنا أحداث النكبة 48.. ما قبلها وما بعدها.. فقد نجح مسلسل التغريبة الفلسطينية أن يستحضر ذاكرة الألم بشفافية وصدق ما استطاع إلى ذلك سبيلا. اللهجة الفلسطينية التي أتقنها تماما أبطال المسلسل المختارون بعناية، كذلك تنوعت متناسبة مع المناطق الفلسطينية التي تتميز بها من الخليل لنابلس لجنين لعكا وغزة، الزي الفلسطيني الذي يختلف قليلا في تفاصيله ويتشابه كثيرا.. العقود (المنازل الفلسطينية) تضم حوشا (باحة) كبيرا يعتبر موزعا لغرف المنزل ومضافة لأهل البيت وزوارهم في جلسة أرضية تحت شجرة تين معمرة أو دالية عنب.. الطابون الذي تصنع النساء أرغفة الخبز على جمره في ساعات الصباح الباكر في حجرة صغيرة بالكاد تتسع لها.. الحقول وكروم العنب وبيارات البرتقال وحقول الزيتون ومعاصر الزيت.. البحر والمقاهي الممتدة على شواطئه.. والبحارة العائدون من الموت برائحة البحر وصيده، وكل تلك الكوابيس التي حملها المُحتلّ إلى غرف نومهم.. كل ذلك أتقن المسلسل في تجسيده ونقل الصورة صادقة للمشاهد الذي استعار من مشاهده ذاكرة نقلت بعض الذي كان. وتأتي التغريبة حيث النجاة من فوهة الدبابات والبنادق إلى جحيم الغربة والتشرد في المخيمات وعلى حدود بلاد الله، من شدة الفزع والرهبة تخطئ النساء أطفالهن الرضع في (الكوفليات) فيحملن الوسائد بدلا منهم، آه لتلك القلوب التي فطرها الحزن والألم وتلك الوجوه التي أكل البؤس عليها وشرب، ولأسراب البشر المغادرة أرضها لتكون الخيام مستقرها.. السماء سقفها وألواح الزينكو جدرانها أو حتى العراء أحيانا سكنها، في زحام الرحيل تتفرق الأجساد، وتضل بهم الجهات وتصبح منازلهم أطلال ذكريات وقنابل حنين موقوتة. الاجتياح.. مسلسل يعيد للإعلام دوره في مواكبة الألم والقهر والتواجد في مكانه الصحيح في الحياة، ويعيد للتغريبة سيرتها حيث استطاع باقتدار أن يجسد لحظات الموت والرعب ولحظات السطو على الحياة ليقطف زهرتها ويودي بها في مهاوي الردى. من الفن ما يدهش ومن الحقيقة ما يجسدها هذا الفن بعينها ذاتها وإن كان تمثيلا إلاّ أن الإحساس بألم شعب ما عاناها عبر عقود من الزمن يمكن أن تجسده روح هاوية ومشاعر جياشة متعاطفة. بين الفينة والأخرى لا بد من إعادة اجترار لمقدار ولو ضئيلا من الحقيقة لتبقى ذاكرة الألم نابضة بألمها وفجيعتها. مادامت النكبة الفلسطينية مستمرة والاحتلال قائما لا بد أن نشهد فنا راقيا يمثل هذه المأساة ويعبر عنها ويوثقها. آخر البحر لمحمود فلسطين (محمود درويش) أيها المارون بين الكلمات العابرة.. احملوا أسماءكم، وانصرفوا واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا واسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة.. وخذوا ما شئتم من صورٍ، كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجرٌ من أرضنا سقف السماء... أيها المارون بين الكلمات العابرة.. منكم السيف.. ومنا دمنا منكم الفولاذ والنار.. ومنا لحمنا منكم دبابةٌ أخرى.. ومنا حجر منكم قنبلة الغاز.. ومنا المطر وعلينا ما عليكم من سماءٍ وهواء فخذوا حصتكم من دمنا، وانصرفوا وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء.. وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء!! [email protected]