المنظر يتكرر عبر شوارع مدينة الرياض.. سيارات الداتسون أو النقل المتآكلة تمخر عباب الشارع غير آبهة بمن حولها وفي الصندوق تتكوركومة (أو أكوام) من اللحم البشري تلتف حول نفسها لتتقي رياح ليالي يناير القارسة البرودة أو لهيب أشهر الصيف التي لا تطاق. هذه الأكوام هي في العادة من العمالة الرخيصة داخل مؤسسات الصيانة او الإنشاءات أو ما شابهها ممن قدر لهم أن يعملوا تحت رحمة من لا يرحم. يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام نقلا عن أنس بن مالك:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهو الذي قال:( اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فهل هناك أكثر وضوحا وشفافية من هذه المبادئ ؟؟ وهل يتخيل أي من ملاك هذه المؤسسات او المشرفين عليها ان يكون هو أو ابن له او قريب في مثل هذا الوضع اللاإنساني وكيف وصل بنا الأمر نحن الذين نزهو بانتشار مفاهيم الرحمة والتعاطف والتواد بين ظهرانينا الى هذه المرحلة من انعدام حتى الحد الأدنى الإنساني في التعامل مع العمالة الأجنبية وغير الماهرة على وجه التحديد. في السادس من هذا الشهر (أي إنه كان البارحة) تعرضت المملكة للمساءلة من قبل لجان حقوق الإنسان في الأممالمتحدة بجنيف للتعرف على مدى التزام المملكة بالاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها في ما يتعلق بحقوق الانسان!! وقد قدمت المملكة تقارير مفصلة مبنية على دراسات وإحصاءات حول ماتم إنجازه في مختلف الحقول فيما له علاقة بهذا الموضوع وأكدت على رفضها لكل أشكال التمييز الجنسي او العنصري سواء تعلق الأمر بالعمالة الوافدة او المرأة أو الأطفال.. أكثر المواضيع حساسية في الواقع السعودي. و قد تكون الوفد السعودي من عددكبير من ممثلي مختلف القطاعات الحكومية وممثلي بعض مؤسسات المجتمع المدني للتعبير عن وجهة نظر اللممكة التي تعي من خلال التزامها بالمواثيق والمعاهدات الدولية أنها حين وقعت على هذه الاتفاقيات وحين تحضر هذه الاجتماعات إنما تفعل ذلك إيمانا منها بأهميتها وإيمانا منها بضرورة الالتزام بهذه الأعراف التي تعارف عليها البشر في وقتنا الحاضر وفي ظل حضارتنا الانسانية التي تقيم كل الوزن لمفاهيم حقوق الانسان بغض النظر عن جنس من نتحدث عنهم أو لونهم أومعتقدهم أومهنهم او أصلهم ولذا تأتي مثل هذه الظروف المعيشية الصعبة للكثير من هذه العمالة وغيرها (مثل العمالة المنزلية) لتقلب الطاولة في وجوهنا وتذكرنا بما يعيشه هؤلاء (البشر!!) من ظروف قاسية وأحيانا مريعة لا تتلاءم ولا توفر الحد الادنى للاحتياجات الانسانية. هنا يأتي دور الدولة في وضع قوانين صارمة يرغم فيها أصحاب العمل على تطبيق البنود المتعلقة بالحقوق الشخصية والمالية وبالظروف المعيشية وبالتعاملات الانسانية للعمالة غير الماهرة مع تحديد واضح للمعاني داخل هذه القوانين فما قد يراه احدهم عدلا قد أراه أنا إجحافا سواء تعلق الأمربأسلوب التعامل او الخدمات المقدمة أو نوع السكن أوالخدمات الصحية المقدمة ووسائل النقل والسكن والكثير من التفاصيل الكثيرة التي (تصدمنا) يوميا في التعامل مع هذه العمالة ومن ثم كان واجبا تحديد المعايير المعيشية على أساس المعايير المقبولة على المستوى العالمي التي لابد من الالتزام بها لتحقيق شروط الاتفاقات الدولية التي التزمنا بها. أثق ان هناك الكثير من القوانين المكتوبة فيما يخص هذه القضايا لكن أهم(عقب) حقيقية تواجهنا في سبيل تطبيق هذه القوانين هي في التهيئة الذهنية المصاحبة لهذه لها، فالمؤسسة الحكومية أو صاحب العمل قد يتغاضى عن تطبيق الكثير لأنه لا يؤمن بها أصلا ولا يرى أن ما يفعله يتنافى مع الممارسات السائدة بين المؤسسات المماثلة كما أن القيم الاجتماعية السائدة في ما يخص تقدير المجتمع وموقفه العام من هذه العمالة لا يتعارض مع ممارساته بل يؤيدها، ولذا فإن أي عمالة رخيصة تأتي هنا وهي تعرف سلفا انها ربما تتعرض للإهانة وأن الكثير من حقوقها ربما يستباح ليس فقط من رب العمل بل من كل مواطن يقع العامل المسكين في طريقه سواء كان رجل شرطة او موظفا حكوميا او مواطنا في الشارع أو مراهقا في الحارات او أطفالا في الشارع.. كل هذه الفئات تتزاحم لتفريغ تناقضاتها وأساليب عيشها غير المستقرة بفعل ظاهرة التغير الاجتماعي في هذا العامل المسكين الذي لا يملك إلا أن يقبل فالفقر قتال. حملة (الرفق بالإنسان) التي ظهرت في مدينة جدة ( وكتبت عنها في مقالة سابقة) هي إحدى وسائل بعض من يخاف الله في هذا المجتمع للرفق بالعمالة ونشر قيم مضادة لأساليب الاستغلال اللاإنسانية التي تقع عليهم لكنها وحدها لا تكفي فالمساءلة متجذرة كنماذج سلوكية يتبعها الجميع دون أن يروا غضاضة في ذلك فأنت تقف في محطة البنزين لتسمع السعودي (أكثرهم حتى نكون اكثر دقة) يسب ويستهزئ بعمال المحطة غير السعوديين دون سبب وهو ينزل متجهما غاضبا ومقطبا ويصرخ في الغالب دون مبرر وأنت ترى ان رجال الشرطة لا يتوقفون عن اضطهاد السائقين واللموزين لمجرد انهم عمالة غير سعودية والأمر نفسه حتى على خطوط الطيران السعودية حيث يعامل هؤلاء وبدون ادنى سبب وكأنهم لا يفهمون (وكأنما يفترض بهم أن يفهموا اللغة العربية ويتمكنوا من التعبير بها عن احتياجاتهم من أول يوم يصلون فيه المملكة) وحتى بين أوساط المتعلمين تبدو السخرية والتحقير من شأن العمالة غير السعودية صارخة فالنكات على الجوال حول العمالة كذا والعمالة كذا لا تتوقف والقسوة في المعاملة وإلقاء الأوامر والنواهي وكأنهم يتعاملون مع عبيد مملوكين هي نماذج متكررة نراها كل يوم والأمر كما أتوقع أسوأ بكثير في المناطق والأرياف من حيث حظ هذه العمالة في قليل من الرأفة فهل نتوقف ؟؟ مالذي نحتاجه كمجتمع لإيقاظنا من سبات عميق تخدرنا فيه لقرون واستيقظنا على مفاهيم جديدة مبنية على تساوي القيمة الانسانية للجميع نساء ورجالا، صغارا وكبارا ألوانا وأجناسا وأديانا ومعتقدات حتى لو اختلفنا في الواجبات المسندة الينا ومهما تفاوتت الصلاحيات المعطاة لنا.. لكن تبقى القيمة الإنسانية واحدة لا تتغير في كل الحالات.. ماهي الوسائل القانونية والاعلامية التي ستساعدنا وتساعد حكومتنا على الالتزام ببنود القوانين الدولية وتحقيق العيش الآمن والانتاج والولاء لهذه العمالة. أفيدونا فنحن في حالة تعلم مستمرة لكن يجب أن يدخل الجميع فصل التمهيدي في فهم وتطبيق مفاهيم حقوق الانسان كي نتعلم ونتوقف! في الحق يجب أن نتوقف!!