على رغم مرور أشهر على عثور عمال في إحدى الشركات على زميلهم الهندي منتحراً في غرفته الصغيرة في مقر سكنهم في حي الخليج في الدمام، إلا أنهم لم يحددوا سبباً دقيقاً لإقدامه على الانتحار. ويرجح زميله في الشركة، الذي وجده معلقاً في سلك طويل وقدماه النحيلتان تتدليان من سقف الغرفة، ان يكون السبب"نقاشاً حاداً جرى بين العامل المنتحر وكفيله بشأن أمر ما". بيد أنه يضيف"ربما وصلته أنباء غير سارة عن عائلته في الهند". ويتذكر سكان مدينة الدمام صورة نشرتها الصحف لعاملة منزلية، تقف على نافذة منزل، مهددة بالانتحار، فيما وقف رجال الدفاع المدني أسفل المبنى، وأمامهم بالون كبير حتى تسقط العاملة عليه، لو نفذت تهديدها وألقت بنفسها. وانتهت الحادثة بإقناع الخادمة بالعدول عن فكرة الانتحار. بيد ان سجلات الشرطة تحوي حالات انتحار عاملات منازل، ومحاولات لم يكتب لها النجاح، بعد ان تداركت الأسر التي تعمل لديها الخادمات الأمر، ونقلوهن إلى المستشفيات، لإنقاذهن، بعد ان أقدمن على قطع أوردتهن أو تناولن كميات كبيرة من الأدوية أو مساحيق التنظيف. واستبعد مدير شرطة المنطقة الشرقية اللواء عبد العزيز البعادي، ارتفاع حالات الانتحار في منطقته. وقال:"هي نادرة جداً"، مؤكداً ان"الشرطة لا تتدخل إلا في حالات تصل إلى حد الجناية، وهي لا تصل إلى حد الظاهرة"، مبيناً ان"قضايا الانتحار التي تصلنا ترجع في معظمها إلى مشكلات عائلية لدى الوافد، وليست بسبب سوء المعاملة". تفعيل الأنظمة لحماية العمال ربما لا يتفق الكثيرون مع ما ذهب إليه اللواء البعادي، إذ يعتقدون ان"قضية العمالة الأجنبية في السعودية من أكثر القضايا الشائكة خارجياً وداخلياً"، مطالبين وزارة العمل ب"إيجاد آليات رقابية لتفعيل حقوق الوافدين المنصوص عليها في نظام العمل". وفي هذا الصدد، عزا المستشار القانوني بندر المخرج مشكلات العمالة الأجنبية إلى"غياب آلية لتفعيل الأنظمة". وقال:"لدينا مشكلات عدة، أبسطها دفع أجر العامل، فلا يوجد ضمان حقيقي لتسليم العامل راتبه، فهناك العقد والجهات المختصة التنفيذية، ولكنهما لا يؤديان إلى حصول العامل على حقوقه"، مبيناً ان"حالات إقامة الدعاوى ضد المكفولين تتطلب وقتاً طويلاً". وأكد المخرج ان"طلبات الاستقدام في الغالب لا تقوم بناء على الحاجة أو تحقيق الهدف لناحية الكفاءة والقدرة، ولكن بسبب رخص تلك العمالة، فيتم الاستعاضة بفني تقني من بنغلاديش، بدلاً من الفليبيني، نظراً لتدني راتبه، إضافة إلى قبول العامل البنغالي شراء تأشيرة الاستقدام، أي ان جميع تكاليف التأشيرة من معاملات حكومية وتذاكر السفر التي يدفعها العمال، مقابل الحصول على التأشيرة، ما يتطلب إحضار الأقل كفاءة لتغطية المصاريف الموقتة". 8.8 مليون عامل يتطلعون إلى تطبيق النظام الجديد قدر وزير العمل الدكتور غازي القصيبي العام الماضي عدد العمال الأجانب في السعودية بنحو 8.8 مليون عامل، ما يعني أن نسبتهم تعادل واحد إلى اثنين، مقارنة مع عدد السعوديين، الذين يقدرون بنحو 17 مليوناً. وتشير تقديرات غير رسمية إلى ان في السعودية نحو مليون ونصف المليون عامل من كل من بنغلاديشوالهند وباكستان، إضافة إلى 900 ألف من كل من مصر والسودان والفليبين. و500 ألف من إندونيسيا، و350 ألفاً آخرين من سريلانكا، معظمهم من النساء. وتضمن نظام العمل الجديد، الذي أصدرته الوزارة خلال رمضان الماضي، فصلاً كاملاً يتضمن شروط العمل وظروفه. ومن بين الشروط في الفصل الثالث"فترات الراحة والراحة الأسبوعية"، وتنظيم ساعات العمل وفترات الراحة خلال اليوم، بحيث لا يعمل العامل أكثر من خمس ساعات متتالية، من دون فترة راحة ووقت مستقطع للصلاة والأكل لا يقل عن نصف ساعة في المرة الواحدة، خلال مجموع ساعات العمل، مشدداً على"ان لا تتجاوز ساعات العمل عشر ساعات في اليوم". وخصص النظام يوم الجمعة عطلة رسمية للعاملين، لكنه لم يفصل في بنوده بين العمالة المنزلية والعاملين في قطاعات أخرى، وتلك من المآخذ التي يرى متخصصون أنها"ثغرة في النظام الجديد". ويعلق السائق السوداني سيف محمد بمرارة"ذلك ما يفترض من النظام". يعمل سيف في إحدى شركات تأجير السيارات، وهو لا يتوقف عن العمل، بغية جني الإيراد اليومي، الذي تطالب به الشركة، وهو 170 ريالاً يومياً، إضافة إلى ان تكلفة الوقود وصيانة السيارة التي يتحملها. ويشير إلى اضطراره إعادة عائلته في موطنه بسبب التكاليف العالية للمعيشة، حيث لا يلتزم رب عمله بمصاريف السكن أو العلاج أو التذاكر السنوية أو حتى تجديد الإقامة، مبيناً ان غالبية العقود"شكلية وغير ملزمة". إلى ذلك أكد النظام ان من حق مفتشي العمل مراقبة تنفيذ أحكام النظام، كما يحق لهم دخول المنشأة في أي وقت من دون إشعار سابق. ويظل السؤال ماثلاً"ماذا عن مراقبة أوضاع العمالة المنزلية؟". إنشاء النقابات لمواجهة أرباب العمل واستجابة لتداعيات "منظمة التجارة" أكد الدكتور صالح الخثلان، الحاجة الماسة إلى تفعيل قرار إنشاء نقابات عمالية، الذي أطلق منذ نحو ثلاثة أعوام. وقال:"لا نستطيع في الجمعية البت في كل تلك القضايا، وبخاصة العمالية منها". وطالب وزير العمل ب"تفعيل القرار لإيقاف الضغوط أو الحملة الشعواء التي تمارس ضده من جانب القطاع الخاص في تطبيق نظام العمل، واحترام حقوق الوافدين"، موضحاً ان ذلك"سيعطي الحق للعمالة لمعرفة الطريق نحو حقوقهم وواجباتهم، في ما يتعلق بالعقود أو الحقوق المالية". من جهته تحدث المستشار بندر المخرج عن تأثير عدم تطبيق تلك الأنظمة العمالية على انضمام السعودية أخيراً إلى منظمة التجارة الدولية، موضحاً ان"هناك دولاً منعت تصدير العمالة إلى السعودية، بسبب حوادث سوء المعاملة، وآخر تلك الدول اندونيسيا"، مبيناً ان"الشركات الأجنبية ذات القدرات المالية والخدمية المتقدمة لن ترضى بعمالة متدنية، وستبحث عن كفاءات وحقوق وجهات تتكفل بحفظ الحقوق، ولن تكتفي بالنظام المكتوب". وطالب ب"إيجاد نقابات عمالية تعنى بحقوق العمال الأجانب"، معتبراً ذلك"من الأمور التي ستأتي بها المنظمة، فحينما تأتي شركة فرنسية مثل"رينو"لفتح فرع لها في السعودية، ستصر على وجود نقابات، كونه اتفاق"بروتوكول"في ما يخص النقابات". وأوضح ان"العامل الأقل كفاءة يجد معاملة سيئة وغير لائقة، ولكنه غالباً ما يقبل بها، كون إمكاناته الأساس سيئة، وبالتالي المنتج المحصل يكون سيئاً". وعن عدم تحديد أوقات العمل للعمالة المنزلية ومنح إجازة أسبوعية، كما تنص على ذلك الأنظمة العمالية في السعودية، أشار المخرج إلى ان"المشكلة الرئيسة تكمن في وعي المجتمع، الذي يتجاذبه الطرح الديني الحاث على الرأفة بالعمالة، وفي المقابل هناك العامل الاقتصادي، الذي يؤكد انحراف العامل أو العاملة سلوكياً جراء الظلم، فهو إما يقدم على الأذية من خلال السرقة أو القتل"، مبيناً ان"تطور الإساءة إلى العمالة تصل إلى ابتزازهم". وينتقد نظام العمل والعمال"الذي لا يفصل بين حقوق العمالة المنزلية والمزارعين والرعاة"، مضيفاً ان"الرعاة يلتزمون بعقد مدته سنتان، ولكنه من دون إجازات أو رواتب أو سكن لائق". ويشير إلى أحد بنود نظام العمل الجديد، الذي ينص"التزام صاحب العمل بعدم تشغيل العمال سخرة، والامتناع عن كل ما يمس كرامتهم ودينهم". وقال:"إن عدم وجود آلية رقابية لتنفيذ النظام تؤدي إلى عدم تطبيق أرباب العمل له إلا ابراء للذمة، أو من باب الحلال والحرام، فالنظام لا يشمل آلية لمتابعة تفعيله". ويثني على"صرامة وزير العمل الدكتور غازي القصيبي في تطبيق مبدأ السعودة، الذي كان نظرياً في البداية، ثم تحول إلى آلية عمل"، مضيفاً"هذا ما أعنيه بالرقابة"، مشيراً إلى ان"اللجان العمالية سواءً الابتدائية أو العليا، لتسوية الخلافات العمالية تحتاج إلى وقت طويل، يمتد أعواماً لحل أي خلاف عمالي، وهذه مشكلة في حد ذاتها". الحقوق المالية وحجز الأوراق الثبوتية من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية عضو لجنة الرصد والمتابعة في الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتور صالح الخثلان:"إن الجمعية بدأت تتلقى الشكاوى من العمالة الأجنبية منذ إنشائها، وغالبية الشكاوى تتركز على الحقوق المالية وحجز الأوراق الثبوتية من إقامة أو جواز سفر، لمنعهم من الانتقال إلى كفيل آخر للعمل أو السفر"، معتبراً ذلك"من المخالفات النظامية وانتهاكاً لحق العامل". ويعد هذا الإجراء"مخالفة صريحة للقوانين والمواثيق الدولية، التي تحظر فرض قيود وإجراءات من شأنها منع الأشخاص من التنقل والسفر". وعن آلية التعاطي مع تلك الشكاوى، أضاف ان"الجمعية تقوم بإحالتها إلى مكاتب العمل وانتظار النتيجة"، منتقداً"تأخر مكاتب العمل في حل النزاعات، ما يتسبب في الإضرار بالعامل". ويأتي دور الجمعية في حالات رفض تنفيذ الكفيل الحكم لصالح مكفوله، من خلال مخاطبة الإمارة أو الجهة المسؤولة للتدخل في تطبيق الحكم. وأوضح الخثلان ان"بعض المتقدمين بالشكاوى عرب ومن دول شرق آسيا، تعرفوا بالجمعية من خلال قراءتهم الصحف السعودية بالإنكليزية، كما ان بعضهم من الأطباء أو المهندسين الذين لديهم معرفة بحقوقهم". ويتفق الخثلان مع المخرج في"عدم وجود آلية لمتابعة تطبيق نظام العمل في ما يتعلق بالعمالة"، مضيفاً"نحن لا نكتفي بالشكاوى الفردية، بل نقوم بالتأكد من الأوضاع المعيشية، وأحياناً نجد تكديس العمالة في غرف غير مناسبة وصغيرة ومزدحمة"، مطالباً وزارة العمل ب"إيجاد رقابة واسعة وشاملة على مثل تلك الأمور، فما تفعله الوزارة جيد، ولكن عدد المؤسسات وشركات المقاولات كبير". وحول خطط الجمعية لرفع الوعي الحقوقي في ما يخص العمالة الأجنبية، أوضح ان"الجمعية وضعت خطة وطنية شاملة في ما يتعلق بمفهوم حقوق الإنسان، التي تتضمن حقوق العمالة الأجنبية من خلال الكتيبات والنشرات والمحاضرات، لكن ظهور نتائج ملموسة يستغرق وقتاً". وعلق على تقرير منظمة"الرقابة على حقوق الإنسان"، الذي وصف وضع العمالة الأجنبية في السعودية ب"المزري"، بالقول:"إن الجمعية تتابع ما ينشر من تقارير عن وضع العمالة، للتأكد من صحتها ورفع المظلمة، ونحرص على معالجة التجاوزات، ولكن ليس من حقنا الرد على تلك التقارير"، مؤكداً تلقي الجمعية طلبات من منظمات دولية، بشأن مواطنين أو مقيمين لمعالجتها، مضيفاً"هناك تواصل وعلاقة جيدة مع تلك المنظمات، ونحن ندعو لفتح الباب لهم من دون أي قيود". وتناول البيان الختامي للقاء الوطني الخامس الذي عقد أخيراً، تحديد الرؤية الوطنية للتعامل مع الثقافات العالمية على أهمية التعامل الإيجابي مع الوافدين، وتفعيل الأنظمة الوطنية التي تحمي حقوقهم مع دعوة الدول إلى الالتزام بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني تجاه مواطنيها والمقيمين على أراضيها ومعاملتهم معاملة إنسانية تحفظ لهم إنسانيتهم وحقوقهم، إلا ان الكثير من المحللين تساءلوا عن كيفية تفعيل مثل تلك التوصيات على أرض الواقع. ويقول الخثلان:"الكثير من المشاركين اتفقوا على ان الجهة المسؤولة عن الإساءة للسعودية في الخارج، هي القطاع الخاص"، معلقاً"كنت أتمنى وضع توصية تلزم القطاع الخاص بوضع ضوابط لاحترام حقوق العمالة وتفعيل آليات مراقبة الالتزام بهذه الضوابط القانونية". منع الاستقدام معاقبة للمسيء من جهته، أكد مدير العلاقات العامة والإعلام في وزارة العمل ضحوي العنزي، ان"من تثبت إساءته للعمالة يمنع من الاستقدام في شكل نهائي". وقلل من أهمية تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، مؤكداً ان"حالات الإساءة للعمالة نادرة". وقال:"إنها حالات فردية، ليس إلا"، مبيناً ان"النظام الجديد يحوي باباً كاملاً في ما يخص حقوق العمالة الأجنبية"، كاشفاً ان هناك"نظاماً تفصيلياً في ما يخص الباب المذكور".