البترول سلعة استراتيجية، تخضع لحركة السوق وتحرك بشكل رئيس الدورة الاقتصادية العالمية، لذا تتشابك في البترول السياسة مع الاقتصاد على نحو مركب وفريد. إن البعض يتساءل، إذا كان البترول مجرد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب فمن البدهي ان يكون سعر السلعة محكوما بقوانين السوق، أي أن يحرص المنتج للسلعة على حصول معدلات مرتفعة في الأسعار وذلك من خلال خفض الانتاج, وإذا كانت الدول الصناعية تفرض ضرائب مرتفعة على البترول في بلادها، فإن ذلك يؤكد بأن الأسعار الحالية تعتبر منخفضة, فلماذا تصر دول الأوبك، ومعهم المكسيك والنرويج وروسيا وغيرهم من الدول المنتجة على تحديد سقف أعلى للسعر أو زيادة المعروض؟ إن التعامل مع هذه الاسئلة يقتضي فهم الطبيعة الخاصة للبترول وحجم تأثيره، والمنظور الاستراتيجي الذي يفترض ان يحكم كيفية التعامل مع معطيات واقع اقتصادي معقد. ان البترول موجود في الكرة الارضية بكميات كبيرة، وفي كل عام تأتي اكتشافات جديدة في أماكن متفرقة من العالم، كما يتم اكتشاف زيادة مطردة في الاحتياط نتيجة لتقدم وسائل التقنية الحديثة في اعمال الحفر والتنقيب,, ولكن ليس كل الاكتشافات مجدية اقتصاديا في الاسعار الحالية، وقدرة الدول المنتجة الآن على زيادة المعروض وخفض الاسعار، فالبعض من هذه الاكتشافات يوجد في أعماق المحيطات والبعض الآخر يوجد في تضاريس صعبة، أو ضمن سياق مشكلات سياسية معقدة كما هي الحال في بحر قزوين, إن تكلفة انتاج البرميل الواحد في بحر الشمال تساوي خمسة أضعاف تكلفته في المملكة بما يعني ان تكلفة الانتاج تختلف من دولة إلى أخرى لظروف فنية معروفة, ولو لجأت الشركات العملاقة الى مغامرة الاستثمار في حقول جديدة، فإن عليها ان تستثمر مليارات الدولارات في أعمال الحفر والتنقيب، وبناء نظام للانتاج وقيمة الامتياز، وإذا كانت هذه الحقول تقع في دائرة الحقول مرتفعة التكلفة فإنها لا تستطيع ان تنافس دول أوبك وغيرها من الدول المنتجة الآن ضمن الاسعار الحالية، غير ان ارتفاع الأسعار سيغري الشركات بالمغامرة بما يترتب عليه دخول منافسين جدد، وتنخفض الاسعار إلى شكل متدنٍ جداً وربما لعقود طويلة، فالشركات او الدول عندما تضع مليارات من الدولارات في أعمال حفر وتنقيب ونظام للانتاج فإنها لن تهدر هذه المليارات وتتوقف عن الانتاج لمجرد وجود هامش من الربح ضئيل. والبترول مادة أساسية تتقاطع مع كل دورات الانتاج الصناعي والتقني، والارتفاع في الاسعار يؤثر على الدورة الاقتصادية، إذ يؤدي إلى التضخم, والتضخم ينشأ عنه انكماش، والانكماش يقود إلى الكساد كما يقول علماء الاقتصاد, وبمقاييس اقتصادية بحتة فإن الكساد يقلل الطلب على البترول وينتج عنه انخفاض تلقائي للأسعار وضحايا التضخم من دول العالم الثالث يتعرضون لدفع فواتير باهظة لأن الدول الصناعية ستحدد القيمة الحقيقية لأسعار المنتوجات بما ينسجم مع ما يمليه التضخم، وهذه قوة يملكها العالم الصناعي بمفرده، والعالم النامي مجرد مستهلك، إنه ليس شريكاً في انتاج ولا قدرة له على التأثير في الاقتصاد الجديد، وما يسمى عصر العولمة. السياسة النفطية ذات طبيعة خاصة وهي لا تبنى على مطالب آنية وإنما من خلال إدراك عميق لآلية السوق، والقوى الفعالة والمؤثرة في الاقتصاد الجديد، لكي تكون سياسة متوازنة مرتكزة على واقع وليس مجرد خيالات او أمنيات، والمملكة كانت مدركة ومنذ وقت مبكر ضرورة التوازن في الاسعار وهو ما أكدت عليه يوم امس في اجتماع المجلس الأعلى لشؤون البترول برئاسة خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله في إقرار الاستراتيجية البترولية للمملكة والتي نصت بوضوح على ضرورة مراعاة مصالح الدول المصدرة واستمرار النمو الاقتصادي العالمي وكذلك استقرار امدادات البترول وأسعاره عند مستويات معقولة وفي الوقت نفسه بناء صناعة بترولية متكاملة ذات كفاءة عالية تساهم في نمو الاقتصاد الوطني وتسعى إلى تحقيق أعلى دخل ممكن من البترول على المدى الزمني الطويل.