تحجرت الدموع في العيون رافضة ان تزول وافترش الحزن الشوارع وتواصلت الآهات بين كل محافظات مصر تحمل في طياتها قصصاً إنسانية مروعة لكل ضحية من ضحايا طائرة طيران الخليج حين تحولت الأفراح الى مآتم وامتدت السرادقات بطول الشوارع وارتدت مئات الأسر ثياب الحداد. جالت الجزيرة على أقارب وأصدقاء وأسر الضحايا ورصدت من خلف عيونهم المكلومة بالدمع القصص الحزينة والاحلام والطموحات التي قضت عليها كارثة الطائرة. افترش الحزن الطريق المؤدي الى منزل الفقيدة تغريد عبدالعزيز وساد الوجوم والحزن كل أهالي الشارع والجيران وفي مدخل المنزل أطبق صمت رهيب مغلف بالحزن والأسى حتى قفص طيور الزينة التي كانت تحتفظ بها تغريد صمت عن التغريد, كانت تغريد مثل طيورها تحلم بالتحليق والطيران في الهواء وبالفعل تحقق حلمها في أن تصبح مضيفة جوية والتحقت بالعمل في طيران الخليج منذ عام ونصف العام وكانت حياتها تسير في سعادة لا يقلقها شيء غير حب شقيقتها التوأم تراجي ذلك الحب الذي كان ينازعها حب الطيران حيث كانت مرتبطة بتوأمها أشد الارتباط وما بين التحليق في الهواء وحب شقيقتها سارت حياة تغريد غير أن حب شقيقتها تغلب عليها في الفترة الأخيرة وفكرت جدياً في الاستقالة من العمل، ويقول احمد البرماوي زوج عمة الشهيدة انه قبل السفر الأخير الى البحرين كانت مترددة جداً لدرجة أن شقيقتها تراجي كانت متمسكة بها وتطلب منها عدم السفر ولكنها إرادة الله، والآن فقدت تراجي توأم روحها وأصبحت في حالة يرثى لها ونطلب من الله أن يلهمنا جميعاً الصبر والسلوان. وفي القاهرة أيضاً ظلت الصرخات ملتاعة والدموع تنسكب بغزارة في منزل الفقيد سعيد أنطون الذي التهمه الحادث مع زوجته وولديه وقضى على حلم الأسرة بالسفر والهجرة الى استراليا بحثاً عن فرص العمل الواسعة فالأب يعمل مهندساً للاتصالات ولكن أموره الحياتية تسير بالكاد وفكر طويلاً في الهجرة غير أنه في كل مرة ينوي الاقدام على ذلك تراجعه زوجته وتطلب منه الصبر والتمهل ومنذ عدة أشهر سنحت له الفرصة للهجرة الى استراليا واستطاع اقناع زوجته وأولاده وبالفعل سعي لإنهاء الاجراءات اللازمة وتم الحجز على الطائرة المنكوبة للنزول ترانزيت في البحرين, ولكن الحادث اضاع حلم الأسرة التي تناثرت هناك واختفت معالمها فقد تسلمت سيدة بحرينية جثة الزوجة على أنها جثة ابنتها وتم دفنها بالفعل ثم أخرجت مرة أخرى بعدما وجدت السيدة جثة فقيدتها وأعادوا التعرف على الجثة وتأكدوا أنها لزوجة الفقيد لتتشح الأسرة بالسواد وبدلاً من تلقي الرسائل تتلقى العزاء. دمع القلوب ومن القاهرة الى محافظة الشرقية التي ارتدت ثوب الحداد على ابنائها يلف الحزن بيوت الضحايا، ويتداول الناس في أسى ذكريات وقصصا تدمع لها القلوب، ففي منزل حديث مكون من طابق واحد سمعنا الآهات المكلومة وبكاء طفلة صغيرة لا يتعدى عمرها اربعة اشهر هي ابنة الضحية ياسر عبد الحميد محمد الذي كان قبل عام واحد فقط حديث أهل القرية وقصة حبه وسفره وزواجه على كل لسان فأصبح الآن حديث الدموع والآهات والموت. تتحدث عنه خالته وداد أحمد 45 سنة وكأنه بطل تراجيدي وتقول: كان ابن موت، رغم أنه كان محباً للحياة في كل لحظة كان عطوفاً وطيباً كما كان جسوراً في اتخاذ قراراته سواء في زواجه من أحب أو سفره للعمل في الكويت منذ عامين . حصل ياسر على دبلوم الثانوية الصناعية منذ اربعة أعوام وعمل في العديد من المهن الحرة واثناء مروره في أحد الشوارع القريبة من منطقته بمحافظة الشرقية شاهد فتاته وكأنه كان على موعد معها وذهب ليتحدث عنها مع والدته فأشارت عليه بزيادة العمل لادخار ثمن الشبكة حتى تتقدم لخطبتها له وبالفعل تمت الخطوبة ولكن الزواج يحتاج الى أموال كثيرة وبناء بيت خاص به وياسر لا يكف عن العمل، وطالت فترة الخطوبة حتى أصبحت قصة ياسر مع محبوبته التي يريد الزواج منها حديث أهل المنطقة وكان قرار السفر الذي سعى اليه ياسر فكان السفر الى الكويت, واستطاع ياسر بعد عام ان يبني بيت الزوجية وفي العام الثاني كان الزواج ورزق بطفلة أسماها ندى وكان كل عام يأتي لقضاء اجازته السنوية ويسافر، وقد ولدت ندى أثناء عمله بالكويت وبعد أربعة اشهر من ولادتها جاء خصيصاً لرؤيتها وليضمها الى احضانه وقبل سفر ياسر الأخير احتضن طفلته بقوة وبكى بشدة مما أثر في نفوس كل أفراد عائلته وبكى الجميع لبكائه وكأنه كان يشعر بدنو أجله ففي كل عام كانت عائلته وزوجته تنتظره بفارغ الصبر، وها هو يودعهم جميعاً ويحتضن طفلته بقوة ويبكي الجميع تأثراً ولم تمر ساعات على هذا الوداع حتى عادت الدموع للعيون ولكن هذه المرة على الرحيل الفاجع والمصير المجهول. ومن أسرة ياسر الى أقارب وأسرة الفقيد جمعة رمضان السيد الذي كان يعمل إماماً وخطيباً بمديرية أوقاف الشرقية وهو متزوج وله أربع بنات أكبرهن اسماء 13 سنة ومنى 12 سنة وسماح 4 سنوات وفاطمة 6 سنوات ويعمل مدرساً بالسعودية أوصى جمعة شقيقه قبل السفر بساعات على بناته وقام بتوديع أصدقائه وأهله بطريقة حميمة وكان يوصي كل من يقابله على بناته وكأنه كان يشعر أن هذه الرحلة هي الأخيرة في حياته. لم يكن جمعة يرغب السفر منذ البداية ولكن مطالب بناته وتجهيزهن ومطالب حياته تحتاج الى الأموال الكثيرة ولكن منّ الله عليه بوظيفة مدرس في المملكة العربية السعودية ولأنه رجل دين وخطيب مسجد قال: إن الخيرة فيما اختاره الله وبالفعل سافر الى السعودية. يقول شقيقه الأكبر الحاج محمد 63 سنة كان جمعة اصغر اشقائي وتكفلت بتربيته بعد وفاة الوالد حتى تخرج من كلية أصول الدين وعندما تعاقد للسفر الى السعودية والعمل هناك فرحت له خاصة انه رزق بأربع بنات يحتجن لمطالب كثيرة وقبل السفر كان يفكر في عمل مشروع صغير ليؤمن لهن مستقبلهن واستكمال بناء منزله الخاص فقد كانت كل حياته تدور حول مستقبل بناته, أما هو فقد كان قنوعاً الى اقصى درجة وقبل السفر أمتعنا بخطبة الجمعة الماضية والتي كان موضوعها يدور حول القناعة، بعدها قال لي بالحرف الواحد، أوصيك ببناتي لأن كل إنسان يخرج من منزله لا يعرف إذا كان سيعود اليه مرة أخرى أم لا,وهكذا كان الفقيد، وكانت دموع شقيقه تنساب وتركناه وسط همومه وأحزانه وتفكيره في بنات الشهيد جمعة, سرادقات ممتدة وفي محافظة القليوبية وتحديداً في منية شبين القناطر تحولت شوارع وحواري القرية الى سرادق كبير وتدفق مئات الأسر لتلقي العزاء في الأسر المفقودة عادل وزوجته وفاء وأطفالهم محمد وعلياء وأحمد, كان الزوجان حديث القرية في الكفاح والعمل من أجل لقمة العيش لهما ولأولادهما, عاشت الأسرة فترة طويلة تصارع من أجل الحياة وتحاول توفير مستلزمات الأولاد من امكاناتها البسيطة حيث يعمل عادل موظفاً بسيطاً وبعد فترة كفاح منّ الله عليهم بالسفر الى البحرين وذلك منذ عام مضى استطاع خلاله عادل ان يوفر من قوت يومه ليبدأ في تشييد منزل خاص به بدلاً من العيش في بيت الوالد الضيق وفي العام التالي حرص على أن تأتي معه زوجته وأولاده وبالفعل حصل على اجازة ونزل القاهرة لينهي إجراءات السفر لزوجته وأولاده وسط فرحة الجميع وخاصة الزوجة والأولاد لأنهم سيصحبون الزوج الحبيب الى مقر عمله، وفي الاجازة أيضاً قام عادل بمساعدة شقيقه الأصغر للاستعداد لزواجه على أن يتم الزواج الاجازة القادمة في حضور عادل ولكن حدثت الكارثة وبدلاً من الاستعداد لتعليق الزينات أقيمت السرادقات والأحزان. وتتواصل الأحزان وتربط الدموع القصص والذكريات التي خلفها ضحايا الطائرة في كل محافظات مصر، ففي محافظة الدقهلية امتدت السرادقات بطول الطريق المؤدي الى منزل الفقيد رضا حسن أحمد بقرية برهام مركز بلقاس وقد خيم الحزن على أرجاء القرية وخاصة ان رضا يرتبط مع أهالي وأبناء قريته بعلاقات وطيدة ويعد أحدث عريس من بين ضحايا الطائرة حيث تزوج قبل شهرين فقط من السفر ومنذ عامين سافر رضا للعمل في إحدى الشركات الخاصة بالكويت وفي العام الأول قرر خطبة ابنة عمه وفي العام الثاني أخذ إجازة من الشركة في الكويت وجاء ليتزوج وأقام مع زوجته لمدة شهرين فقط بعدها سافر في تلك الرحلة المشؤومة, يقول محمد سيد حسن عم الفقيد ووالد زوجته في نفس الوقت: عاش رضا طيلة حياته يحلم بالاستقرار والزواج في منزل خاص به، وعندما سافر للعمل في الكويت شعرنا جميعاً ان الدنيا فتحت له ذراعيها، لأن حياته قبل السفر كانت تسير بالكاد فهو حاصل على بكالوريوس خدمة اجتماعية وذاق الامرّين في الحصول على وظيفة مناسبة في مصر ولم يجدها حتى قرر السفر ولأنه شخص جاد وطموح استطاع خلال عام واحد ان يبني مسكناً خاصاً به وأن يساعد والدته المسنة وفي العام التالي جاء للزواج من ابنتي عبير . ويستطرد عم الفقيد قائلاً: ان الموعد المحدد لسفره الى الكويت كان في 29 أغسطس إلا أن الأسرة فوجئت به يقرر قطع الإجازة وانهاء إجراءات السفر واضطر للحجز على الرحلة المشئومة وقضاء يوم ترانزيت في البحرين واستكمال رحلته الى الكويت في اليوم التالي وقد أشارت عليه الأسرة وزوجته بتأجيل سفره إلا أنه كان مصراً بشكل غريب على اللحاق بتلك الرحلة وكأنه كان يسابق الزمن من أجل اللحاق بموعده مع الموت . وتتواصل الدموع في الانهيار حيث افترشت الاحزان الشارع المؤدي الى منزل الفقيدة هدى بمحافظة الغربية وامتلأت عيون اسرتها بالدموع والنحيب المتواصل حيث فقدت الأسرة هدى عبدالخالق عبدالحفيظ وابنيها ياسر ومحمد محمود خلف في تلك الرحلة المشئومة, كانت حياة هدى تسير على حد الكفاف في مدينة بلقاس قبل الزواج مع أسرة كبيرة العدد وانتقلت للإقامة في مدينة طنطا بعد الزواج من محمود خلف وانجبت ولديها ياسر ومحمد 15،10 سنوات وسافر زوجها للعمل في المملكة العربية السعودية وبعد عام ارسل لها لحج بيت الله، وفي العام الثاني أرسل لها كي تلحق به مع الأولاد ولكن لم تنته إجراءات السفر قبل انتهاء إجازته فقرر تأجيل سفرها للعام التالي وبالفعل استطاع انهاء كافة الأوراق الخاصة بها وبالأولاد استعداداً للسفر وقرر أن يسبقها الى السعودية على أن تلحق به في الطائرة المنكوبة وقبل السفر بثلاثة أيام كانت هدى توزع ابتساماتها على الجميع وتضحك مع جيرانها من أعماق قلبها وهي لا تدري أن هذه الابتسامات والضحكات هي اخر ما تتركه لأسرتها وجيرانها. وفي محافظة المنوفية تختلط الدموع بالذكريات حول حياة الفقيد صلاح محد عباس دياب مدرس الرياضيات والمتعاقد مع دولة البحرين منذ 12 عاماً وزوجته ممتازة رشاد وانجالهما محمد واحمد وسارة, يقول ابن عم الفقيد ورفيق طفولته ودراسته وسفره ان الفقيد صاحب مشوار طويل زاخر بالمعاناة والالم تحمل الكثير من الصعاب من أجل أسرته وأولاده حتى تعاقد مع دولة البحرين وكان طوال عمره يتمتع بخلق رفيع وحب الناس له وبأعماله الخيرية التي كان يقوم بها في السر ولا يعلمها أحد وكنت برفقته قبل السفر بيوم واحد حيث أبلغني أنه لن يجدد عقده مرة أخرى لكي يستريح ويستقر في بلده، قمت بالحجز له على طائرة مصر للطيران إلا أنه قام بتغيير الحجز على طائرة الخليج ليلحق بحفل تكريم نجله محمد بالبحرين لحصوله على المركز الأول، وكان رحمه الله يقضي كل اجازاته وسط الأسرة ويقضي معظم الوقت بالحقول لارتباطه بها كما كان شارد التفكير وملتزما بالصمت ليلة السفر وكأن شيئاً كبيراً يشغله وقد علم بتجديد عقده تلفونياً بعد عودته للقاهرة عن طريق صديق له بعد أن أنهت سلطات البحرين عقود 150 مدرساً ثم قامت بالتجديد مرة أخرى لثلاثين منهم كان هو في أول القائمة وسافر وكانت مشيئة الله قبل أن يشهد تكريم نجله في البحرين.