بلغ الابن سن الزواج، كان لا بد من البحث عن عروسة جميلة تحقق حلمه وترضي طموحه، فتم الاختيار له من قبل الوالدين اللذين لا يخرج عن طوعهما، ثم عُقد القران، والتقى العريسان في «مسكن الزوجية»، لكنهما ليسا لوحدهما، بل شركاء مع من هم موجودون في المنزل، حيث الوالدان والإخوة، إضافةً إلى زوجة أخيه الأكبر..! هكذا كان «بيت العائلة» فيما مضى يجمع الكل على الحب والوفاء والتقدير، يجتمعون على «سُفرة» طعام واحدة في «بطن الحوي» وسط البيت، يبث من خلالها الجميع همومهم، ويتناقشون في حل مشكلاتهم، لا أسرار بينهم، فالكل متعاون ويسعى لما فيه مصلحة الجميع. كان المنزل يُبنى فيما مضى يستوعب الجميع من أب وأم وأولاد وكذلك أحفاد، تحفه المحبة وتسوده الألفة، فكيف استطاع أن يحتضن هؤلاء جميعاً؟ قد يتصور البعض أنه عبارة عن قصر كبير تتوفر به جميع الخدمات، لكن الحقيقة على عكس ذلك، فهو عبارة عن مساحة صغيرة، كان أكثر ما يُميزه هو أن «القلوب عند بعضها»، لا حسد، لا كُره، لا امتعاض، الكل على قلب واحد، سعادة واحدة، حزن واحد، إنها حياة جميلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وما أدل على ذلك إلاّ تمنّي البعض أن تعود به الأيام إلى ذلك القلب، عفواً إلى ذلك البيت. مجلس القهوة وتتكون المنازل قديماً من طابقين، حيث يخصص الأول للحيوانات «الدبش» وهي المواشي التي يستغلها أصحابها في المنتجات الضرورية، فيشربون حليبها وألبانها، ويستخرجون «الزبد» و»الاقط»، بل ويستغلون «روثها» كسماد، ولحمها كطعام، وقد يشارك تلك «الدبش» عدد من الحيوانات الأليفة، كالأرانب وبعض الطيور الداجنة، كما تستغل بعض غرف الطابق الأول كمستودعات للأعلاف والحطب. والدور الثاني مُخصص للمعيشة ففيه «مجلس القهوة» و»المشب»، وهو محل استقبال الضيوف وعناية صاحب المنزل، حيث يحتوي على «الكمار» الذي يوضع فيه «الدلال» و»الأباريق»، ويحتوي أيضاً على «الوجار»، وهو المكان الذي تشب فيه النار لإعداد القهوة والشاي، وعادةً الرجال هم الذين يتولون مهمة عمل القهوة للضيوف. غرفة الروشن ويوجد في المنزل «الروشن» وهي غرفة واحدة في سطح المنزل ولها مجموعة من النوافذ، وتستخدم كمسكن خاصة للفتيات المقبلات على الزواج، حيث يهتم بهن من الناحية الجمالية، وذلك بكثرة ألوانه المتعددة من الداخل، وغالباً ما يكون هناك أكثر من غرفة «روشن» التي يتقاسمها سكان البيت، فغرفة مُخصصة للأب والأم، وأخرى للابن الأكبر وأبنائه، وغرفة للأخ الثاني ترتيباً في العمر وزوجته أيضاً وأبنائه، وغرفة أخرى لبقية الأبناء والبنات فقط. ويضم الدور الثاني غرفة حفظ الطعام كالحبوب و»جصة التمر» و»القفر» وغيرها، أما سطح الدار فيكون عادة ذا جدار مرتفع لاستخدامه في المبيت ليلاً وقت الصيف. مطبخ المنزل يضم أدوات متواضعة إرضاء الأم وتكون القيادة في منزل العائلة طبعاً للوالد، الذي يعطي زوجته صلاحيات مطلقة للتعامل مع الأولاد والبنات، ولها السيطرة على الكل، فكلمتها مسموعة خاصةً من زوجات الأولاد، كما أن الكل يتسابق لارضائها، فهي الآمر الناهي في البيت، وبيدها زمام الأمور، ويكاد يكون الحمل مقصوراً على زوجة الابن، فهي التي تطبخ و»تنفخ» و»تكنس» و»تطحن» على «الرحى» بعد أن تنقيه، ومع عملها الأساسي وهو خدمة زوجها والاهتمام بشؤون أطفالها، فإن زوجة الابن صبورة لا تكل ولا تمل ولا تتشكى، فهذا حالها وحال قريناتها من بني جنسها من النساء، فقد فرضت الحياة العصيبة والحاجة ذلك، إلاّ أنه مع ذلك كان السرور يملأ المنزل والمحبة تحف الجميع. بيت العائلة كان شاهداً على قوة العلاقة بين أفراد الأسرة «غطوة الزوجة» ومع وجود أخوة الزوج البالغين، فإنه يُفرض على الزوجة التستر، حيث تجد «غطوتها» لا تفارقها إلاّ وقت النوم إذا خلت في غرفتها، ومع ذلك تستمر الحياة جميلة، فقد تجتمع زوجتان من زوجات الأبناء وأكثر فتتقاسمان العمل بينهما، بينما تبقى ربة المنزل -الأم- كالملكة في بيتها، وقد تبتلى بعض زوجات الأولاد بأمهات أولاد متسلطات خاصةً اذا لم توافق هذه الزوجة هوى إحداهن، فتبدأ مسلسلات التسلط والتضييق عليها، بتحميلها كل أعباء وأعمال المنزل من الطبخ والتنظيف والاهتمام بالحيوانات وغيرها من الأعمال الشاقة الأخرى، فتصبح كالخادمة، وينتج عن ذلك أحد أمرين إمّا الصبر واستمالة قلب والدة الزوج بالطاعة، وإمّا أن يطفح بها الكيل، فتنتهي هذه الحالة بطلب الطلاق وإن كان نادراً ما يحصل ذلك. «الرحى» من أهم أدوات البيت ومُتعبة لنساء الماضي صبر واحترام ومن صور معاناة زوجات الأبناء وصبرهن مع أمهات أزواجهن أن احدى النساء ذهبت في الضُحى لزيارة جارتها وأغلقت باب المنزل على زوجة ابنها، وأخذت المفتاح معها، وبينما بقيت زوجة الابن تشقى بأعمال المنزل من طبخ وتنظيف واعتناء حتى جاء موعد صلاة الظهر، فجاءت أم الزوج وفتحت الباب ثم قالت: «هل عندك أحد؟»، مع علمها أنها تركتها لوحدها وقد أغلقت الباب عليها، في إشارة إلى أنها لم تقصد قفل الباب كي لا تذهب هذه الزوجة لتزور أمها في غيابها، أو تزور جارتها وتترك أعمال المنزل! «غرفة الروشن» توجد في سطح المنزل مُخصصة للفتيات المقبلات على الزواج «زوجة الأخ» أكثر من يواجه الأشغال الشاقة «تطبخ» و«تنفخ» و«تكنس» و«تطحن».. و«الغطوة» لا تفارقها إلاّ عند النوم زوج صغير وفي قصة أخرى، كانت زوجة الابن هي من تتحمل أعباء العمل الشاق في المنزل، وتؤدي جميع شؤونه تقريباً، فحدث ذات مرة أن مرض الولد الأكبر مرضاً شديداً أدى الى موته، وبقيت زوجته في الحداد مع أبنائها الصغار في بيت والد زوجها وأمه، وبعد تفكير من الأم صارحتها أنها في حاجة الى خدمات هذه الزوجة الطائعة الصبورة، فمن سيتحمل أعباء المنزل بعد رحيلها إلى بيت أهلها، وليس من حل سوى أن نزوجها ابننا الآخر بعد انقضاء عدتها، وإن كان لم يكد يبلغ الحلم وهي تكبره بعشرة أعوام فلا عيب في ذلك، فاقتنع الأب وبعد انقضاء العدة تم بالفعل خطبتها لولدهم الصغير وتم الزواج. مواقف كثيرة مازالت عالقة في الذاكرة عن البيت الأول كان الزوج صغيراً وجسمه نحيلا ولم يكن يعرف بعد معنى الزواج، وكان يسمر مع أهله ليلاً فينام قبلها فتحمله وهو نائم الى غرفة النوم مع صغارها، واستمر الوضع لبضع سنين حتى كبر الولد واشتد، ثم رزقه الله عدداً من الأبناء والبنات. جلسة «رحى» وتتنوع الأعمال في بيت العائلة بحسب طبيعة العيش وعدد أفراد الأسرة وطريقة التعامل، فإذا كانت الأسرة صغيرة كأن يكون الزوج وحيد والديه فإن العمل يكون ميسراً ومريحاً، أما إذا كان عدد سكان المنزل كبيراً كوجود عدد من الأبناء مع الوالدين وتزوج الابن الأكبر فإن مهمة زوجة الابن هذه تكون كبيرة في الخدمة، أما اذا كان يضم أخوات للزوج فإن العمل يخف على الزوجة، فتجد من يشاطرها هموم العمل. ومن أشق الأعمال التي تواجهها زوجة الابن هي مهمة إعداد الطعام، حيث تُنقي العيش -القمح- ومن ثم طحنه على «الرحى»، الذي قد يأكل نصف نهارها، فهو عمل يدوي شاق، الأمر الذي تجدها تسلي نفسها بالغناء، وقد تتقابل أكثر من امرأة على «الرحى»، حيث يكون في مكان واحد أكثر من رحى فيتجاذبن أطراف الحديث، ومن أشهر الاغاني التي تصاحب العمل على الرحى هي هذا البيت: تكفون يا جن الرحى عاونوني ما عندي إلاّ وحدة تلهم العيش ذكريات بيت العائلة لا يمكن أن تُنسى تعب ونوم ولهذا البيت قصة طريفة يتناقلها الرواة ملخصها أن امرأة كانت تطحن على «الرحى»، فتعبت من الطحن، حيث خارت قواها من كثر تحريك الحجر الذي يدور ليطحن القمح، ولخشيتها من فوات الوقت ومجيء زوجها قبل أن تكمل الطحن وإعداد الطعام قالت هذا البيت مستنجدة بالجن في مساعدتها في طحن قمحها! فغلبها النعاس ونامت بجانب «الرحى» بعد أن خارت قواها من التعب -وما أطيب النوم وألذه بعد التعب-، وبعد فترة استيقظت مذعورة لخشيتها من فوات الوقت دون أن تكمل الطحن، ففوجئت أن القمح الذي معها كله مطحون ومكوم بجانبها دون أن تدري من طحنه، وقد بدا لها أن الجن قد سمعوا استنجادها بهم فساعدوها!!، ومن ثم صار من يطحن على الرحى من النساء يرددن هذا البيت بالغناء تقطيعاً للوقت وتسلية لهن لإتمام هذا العمل الشاق. وضُرب بالرحى المثل حيث يقولون: «من جا على الرحى غنا»، أي أن من عمل على الرحى في طحن الحبوب لابد أن يغني تقطيعاً للوقت وللتسلية، ويضرب هذا المثل لمن يلوم غيره على فعل شيء معين، فيقال: «لعلك تلومه ولو كنت مكانه لفعلت مثل ما يعمل، فمن جا على الرحى غنا». بيوت الحارة واجهة للحب والطيبة والتسامح قدوم مولود ومن يوميات بيت العائلة المفرحة لجميع ساكنيه، هي يوم ولادة طفل جديد في المنزل، فإذا ما شعرت المرأة ب «المخاض» فإنها تخرج أولادها إلى الحوش أو الطريق ليلعبوا بعيداً عن أمهم التي هي في شغل شاغل من آلام المخاض، حيث يحضر لها تراب تفرش به أرض الغرفة التي تنام فيها مع زوجها وأولادها حتى لا تتسخ أرضيتها بعد الولادة، ويتم كنسه لاحقاً مع مخلفات الولادة، فتواجه المرأة آلام الوضع وتحظى بمساعدة من في البيت من النساء كأم الزوج أو زوجة الأخ، وقد يدلى حبل من سقف الغرفة تتمسك المرأة به ليساعدها على اتمام عملية الولادة، وتتضاعف المشقة اذا كان الوقت ليلاً حيث يتطلب الأمر استخدام النور من «السراج» -مصدر الضوء الوحيد-، حيث لم تكن الكهرباء متوفرة أو معروفة. وليس الجميع يملك سراجاً، فقد يذهب الزوج إلى المسجد لإحضار سراجه ليضيء الغرفة لتتم عملية الولادة، وقد يعمد البعض بإشعال النار في «سعف النخيل»، ومن ثم بعد الولادة يتم قطع الحبل السري للطفل، ليملأ هذا الضيف القادم البيت بصياحه الذي يزيد من سعادة والديه وكذلك كل من هم موجودين في المنزل، خاصةً من أخوته الصغار الذين يقبلون من الشارع لمشاهدة أخيهم الجديد. الأطفال كانوا لا يبتعدون عن منزلهم تجاذب الحديث البيوت كما يقولون أسرار، إلاّ أن بيت العائلة لا يوجد به أسرار، فرب الأسرة يعلم عن كل ما يدور في بيته، وكذلك الأم فهي قريبة من الجميع وهي قلب مفتوح يستقبل كل مشاكله فيحلها، كما أن الأبناء يعرفون ما يدور بينهم، فالأخ يعلم بكل ما يفكر به أخيه، فهو يبث همومه ويشاركه في حل ما يتعرض له من مشكلات، وكذلك يعلم بما يخطط له، وإلى أين يذهب ويجيء. وينبض «منزل الأسرة» بالحياة، فهو مبني على التفاهم والحب والخير، لذلك تجد أفراده دوماً يجتمعون وكأنهم أصدقاء، فتحلو لهم ليالي السمر، فيتجاذبون أطراف الحديث خلال اجتماعهم على وجبات الطعام، وعند تناول القهوة والشاي في مجلس القهوة، أو في بطن المنزل «الحوي»، أو تحت مصابيحه بين الشرفات و»السواري»، أو في سطح المنزل مع نسمات الليل العليلة حينما يضع الجميع فرشهم للنوم. لا تهدمونه ولا يزال البعض ممن عاش في بيت العائلة الذي كان يضم الجميع من أفراد الأسرة على المحبة والوفاء وصفاء النفوس يتحسر على تلك الأيام الخالية، ويتمنى عودتها في ظل التباعد الذي يعيشه البعض حالياً، بل ويردد هذه القصيدة التي أبدع قائلها في الحنين إلى بيت الطين الذي ضمهم، وهي من قول الشاعر «سعد عبدالرحمن الخريجي» حيث يقول فيها: يا ناس ذاك البيت لا تهدمونه خلّوه يبقى للمحبين تذكار خلّوه حب سنين خلفه ودونه في داخله قصة مواليف وأسرار من يعشق الأطفال دمعه يخونه لا صارت أقدامه على سكة الدار عش الحمام اللي بعالي ركونه رمز الوفا رمز المحبة والإصرار إن جا اقبال البيت لا تعذلونه خلّوه يبري علته لو من أشعار راعي الهوى لا حب تبكي عيونه لا هاجت الذكرى على ماضي صار يا ما حلى الأيام كانت حنونه ويا ما حلى في مجلسه شبة النار كم عاشق صابر وحرق شجونه عجايب الدنيا وميلات الأقدار جيل السبعينيات هجرية عاش أجمل ذكرياته رغم قسوة الحياة