إن كنت أنسى فلا أنسى ذلك اليوم المشهود حينما عادت ابنتي الصغيرة (شهد) من روضتها في اليوم الأول من بداية العام الدراسي في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة قبل خمس سنوات وهي تنشد السلام الوطني الإماراتي بفرح (عيشي بلادي.. عاش اتحاد إماراتنا)، أذكر جيداً أنني حزنت وأخذت عهداً على نفسي أن لا ينتهي ذلك اليوم إلا وقد تعلمت نشيد وطننا السعودي (سارعي للمجد والعليا) أمام راية التوحيد الخضراء، فأحسست بسمو المواطن مع نشيد الإنسانية العظيم في ظل قيم السلام الخضراء وحروف التسامح والكبرياء حتى يكاد يلمس الثريا قاعداً غير قائم كما قال إسحاق الموصلي ذات يوم. لا زال يثيرني كل من يدخل الوطن وأدواته وشواهده في سباق مع الدين وكأنهما ضدان لا يجتمعان بحجج سد الذرائع التي توسعوا فيها حتى أفسدوا على الناس تنظيم حياتهم وشؤونهم الدنيوية تحقيقاً لأهداف حركية تحاول نزع حب الوطن والمواطنة من صدور الناس ليسهل بعد ذلك تدميره وتخريبه بأيدي أهله قبل الآخرين.. ومن الحرب على الوطنية تشويه رموزه وأدواته كاحترام الراية (العلم) والنشيد الوطني ومحاولة تجريم كل من يقف احتراماً لهما حتى عاشت بعض المدارس والمؤسسات إرهاباً ومواجهة لكل من يؤمن بذلك، فكم من مدير مدرسة عانى من زملائه في تطبيق قرار وزارة التربية، وكم من طالب غرسوا في ذهنه حرمة الوقوف للعلم في (طابور الصباح) والأدهى والأمر انتشار بعض الفتاوى التي ركز عليها الحركيون لنزع هيبة الوطن من نفوس المواطنين كالجواب على السؤال: - هل يجوز الوقوف تعظيماً لأي سلام وطني أو علم وطني؟ الجواب: لا يجوز للمسلم القيام إعظاماً لأي علم وطني أو سلام وطني بل هو من البدع المنكرة التي لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وهي منافية لكمال التوحيد الواجب، وإخلاص التعظيم لله وحده، وذريعة إلى الشرك، وفيها مشابهة للكفار وتقليد لهم في عاداتهم القبيحة ومجاراة لهم في غلوهم في رؤسائهم ومراسيمهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهتهم أو التشبه بهم وبالله التوفيق. .. سبحان الله العظيم، أي تقليد للكفار في اتخاذ الرايات التي هي عادة من عادات العرب والمسلمين، وأية ذريعة للشرك في احترام قطعة قماش ترمز للمنهج والدولة منسوج عليها كلمة التوحيد التي ترد أصلاً تلك الذريعة، والرد على هذا بأدلة كثيرة منها: 1- الوقوف احتراماً في حق الجنائز أولى بالذريعة من القماش، لأن بعضها جنائز أولياء صالحين، والشرك والتوسل بهم أقرب من قطعة قماش تبلى ولا تتخذ شاهداً مادياً في الأرض كالقبور، ولم يعهد من الأمم أن عبدت أرضاً أو تراباً من دون الله والدليل على أن الوقوف احتراماً للجنائز مستحب ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقف كلما مرت عليه جنازة، حتى تجاوزه، ومُرّ عليه بجنازة يهودي فوقف، فقالوا له: إنها جنازة يهودي، فقال (أوليست نفساً!؟ إن للموت فزعاً) وكان القيام أولاً وصل إلى حد الوجوب، ثم نسخ الوجوب، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام وقعد، فدل على أنه لا يجب، ولكنه يستحب كما ذكر علماء السلف الصالح. 2- من عادة العرب عقد الألوية والرايات وأقر ذلك المصطفى في الإسلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية) (رواه مسلم)، قال النووي: قالوا: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه كذا قال أحمد بن حنبل والجمهور شرح مسلم 12-441. قال ابن تيمية: (وسمى الراية عمية لأنه الأمر الذي لا يدرى وجهه) الاقتضاء 1-249. ويتبين من هذا أن المقصد من الراية هي الوضوح والتمايز بحيث يدري الإنسان من يقاتل.. ولِمَ يقاتل، قال ابن سحاق: - في معركة مؤتة - لما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً، قال ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً. وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فأعطاها علياً، وعن يزيد بن جابر الغفري عند ابن السكن قال: (عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات الأنصار وجعلهن صفرا)، وعن أنس عند النسائي أن ابن أم مكتوم كانت معه راية سوداء في بعض مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حديث كرز بن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عقد راية بني سليم حمراء، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض.. وقال ابن حجر: (وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحروب وأن اللواء يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب) الفتح (6-155) وكانت راية بني العباس سوداء.. ولم ينكر علماء السلف عليهم ذلك بما فيهم الأئمة الأربعة. 3 تقتضي البروتوكولات الدولية العلم والنشيد الوطني ولا يمكن الخروج عن هذا المسار دوليا هيبة للدولة المسلمة ولا زالت كلمات معاوية رضي الله عنه لسيدي عمر بن الخطاب حينما قدِم الشام على حِمار ومعه عبدالرحمن بن عوف على حِمار فتلقاهما معاوية في موكب نبيل فجاوز عمر إلى جنبه راجلاً. فقال له عبدالرحمن بن عوف: أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية أنت صاحبُ الموكب آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولمَ ذلك؟ قال: لأنا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدو فلابد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان فإن أمرتني بذلك أقمتُ عليه وإن نهيتني عنه انتهيت. قال: لئن كان الذي قلت حقا فإنه رأيُ أريب ولئن كان باطلا فإنها خدعة ولا أمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبدالرحمن بن عوف: لحسن ما صدر من هذا الفتى عما أوردته فيه. قال: لحسن مصادرِه ومواردِه جشمناه ما جشمناه ويتضح على أقل الأحوال أن هناك فسحة في الأمر لا تستحق التكفير والفتنة والشك في الدين وبخاصة أن الوقوف عند سماع السلام الوطني أو الرئاسي المصاحب للموسيقى التي في حكم طبول الحرب بنشيد أو بغير نشيد يتخلله عادة دخول الملك أو من في مقامه من رئيس أو أمير من القيام الجائز المستحب عند جمهور العلماء لحديث أبي سعيد الخدري: (أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيد الأوس - فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا من المسجد، قال للأنصار: قوموا إلى سيدكم أو خيركم) قال النووي في شرح صحيح مسلم معلقاً على هذا الحديث: فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا، واحتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام، قال القاضي عياض: وليس هذا من القيام المنهي عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياماً طوال جلوسه. وأضاف النووي: قلت: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. ويستحب القيام لأهل الفضل كالوالد والحاكم، لأن احترام هؤلاء مطلوب شرعا وأدباً. وقال الشيخ وجيه الدين أبو المعالي في شرح الهداية: وإكرام العلماء وأشراف القوم بالقيام سنة مستحبة. فما بالك بالقيام لجامد من قماش يرمز لهيبة الدولة المسلمة. قال ابن القيم: وقد قال العلماء: يستحب القيام للوالدين والإمام العادل وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل، فإذا تركه الإنسان في حق من يصلح أن يفعل في حقه لم يأمن أن ينسبه إلى الإهانة والتقصير في حقه، فيوجب ذلك حقداً، وقد ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت فاطمة عليه قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها) وورد عن محمد بن هلال عن أبيه أنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج قمنا له حتى يدخل بيته). 4 لا يجد الحركيون حرجاً من الوقوف لعلم الكشافة العالمي وتحيته بثلاثة أصابع، ولم نسمع أي فتوى تحرم ذلك مع أن العلم الوطني المطرز بكلمة التوحيد ونشيده المضمخ بتمجيد خالق السماء ورفع الصوت في المحافل الدولية (الله أكبر) مهما صاحب ذلك.. والله من وراء القصد.