قد يختلف الناس في بعض الامور او حتى كلها فمنهم القادر على ضبط نفسه عند الصدمة ومنهم مالا يقدر على ذلك، ومن المعلوم ان كل ذلك بحسب قوة ايمانه او ضعفه، والذي ينظر الى حالنا في هذا الزمان يتعجب كل العجب، وذلك بسبب عدم ملك الانسان نفسه حتى عند اتفه الاسباب الدنيوية الا من رحم الله تعالى، ولاهمية هذا الموضوع ولما فيه من خير للامة، وكذلك لانه شاق وجهاد مع النفس ولا يقدر عليه الا فئة من الناس، فقد جعل الله تعالى ثوابه عظيما، وقد يحصل بسببه الدخول الى الجنة. وقد عرف الصبر: الصبر هو مشتق من صبر اذا حبس ومنع، وهو حبس النفس على الجزع، وحملها على ما يقتضيه الشرع والعقل، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها. والصبر انواع هي: 1 الصبر على ما امر الله به, 2 الصبر عما نهى عنه, 3 الصبر على ما قدره الله من المصائب. وقد قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين), البقرة 45، وقال تعالى (يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون), آل عمران 200, وعن انس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان الله عز وجل قال: اذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة (رواه البخاري)، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: وجدت الخير مجموعاً في اربعة: اولها التحبب الى الله تعالى بالنوافل، والثاني الصبر على احكام الله تعالى والثالث الرضاء بتقدير الله عز وجل والرابع الحياء من نظر الله عز وجل ، وعن علي رضي الله عنه قال: اعلموا ان الصبر من الامور بمنزلة الراس من الجسد، اذا فارق الراس الجسد فسد الجسد، واذا فارق الصبر الامور فسدت الامور, وقال ابو حاتم رحمه الله : الصبر جماع الامر ونظام الحزم، ودعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له. وفي هذا السياق سوف نتكلم عن نوع من انواع الصبر وهو الصبر على الابتلاء حيث يمتحن الله عباده ويختبرهم، ويكون بالخير والشر، والابتلاء من سنن الله، جارية على حملة الدعوات منذ فجر التاريخ، وقد يكون صعباً على النفوس، ولكن يرفع الله به درجة الانبياء، ويحمو الله به خطايا الصالحين, والمؤمن يرجو الا يتعرض لبلاء الله وامتحانه، بل يتطلع الى عافيته ورحمته, قال تعالى: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ان الله سميع عليم) الانفال 17 وقال تعالى:(كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون) الانبياء 35 وقال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصبرين ونبلوا اخباركم) محمد 31، وعن ابي سعيد وابي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب ولاهم، ولا حزن ولا اذى، ولا غم حتى الشوكة يشكاها الا كفر الله بها من خطاياه (متفق عليه), والكل يعلم ما حصل للنبي صلى الله وسلم من اذى وهم وغم، بأبي وامي عليه الصلاة والسلام ، فقد قيل عنه بانه ساحر وقيل بانه كاهن وكذاب وغيرها من التهم الشنيعة, وكذلك من ما جاء من الاذى من كفار قريش وهم من اقرب الناس له ومن حيث النسب والرحم ورغم هذا كله فقد اخذوا يلقون عليه القذارة وهو ساجد يصلي في مكة، ومع هذا صبر واحتسب من اجل تبليغ رسالته الى هذه الامة عليه افضل الصلاة والتسليم وعن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يرد الله به خيراً، يصب منه (رواه مالك والبخاري) وعن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الرياح تفيئه، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الارز لا تهتز حتى تستحصد (رواه مسلم والترمذي) وعن أنس رضي الله عنه قال: ذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم له ابنه ابراهيم ونفسه تقعقع، فاخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم واختضنه وهو في سكرات الموت، ويبكي عليه الصلاة والسلام وهو يقول:انا لله وانا اليه راجعون، تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول الا ما يرضي ربنا وانا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون وعن ابي سعيد رضي الله عنه انه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك (محموم) عليه قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة فقال: ما اشد حماك يا رسول الله قال: انا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر ، ثم قال: يا رسول الله من اشد الناس بلاء؟ قال: الانبياء ، قال: ثم من؟ قال: العلماء قال ثم من؟ قال: الصالحون ، كان احدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله ويبتلى احدهم بالفقر حتى ما يجد الا العباءة يلبسها، ولاحدهم كان اشد فرحا بالبلاء من احدكم بالعطاء, ويحكى ان عيسى عليه وعلى نبينا افضل الصلاة واتم التسليم ، مر برجل اعمى ابرص، مقعد، مضروب الجنبين بفالج، وقد تناثر لحمه من الجذام، وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه، فقال له عيسى عليه وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام : يا هذا، اي شيء من البلاء اراه مصروفاً عنك؟ فقال: يا روح الله!! انا خير ممن لم يجعل الله في قلبه ما جعله في قلبي من معرفته، الم يترك لي لساناً احمده، وقلباً اشكره؟ فقال له عيسى: صدقت، هات يدك، فناوله يده، فاذا هو احسن الناس وجهاً وافضلهم هيئة، وقد اذهب الله عنه ما كان به، فصحب عيسى عليه وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام وتعبد معه, ومنه، احد فقهاء التابعين في الاسلام عروة بن الزبير الذي اجمع مثلاً صالحاً للمؤمن الصابر الراضي، المقدر لنعم الله، فقد روى ان رجله وقعت فيها الاكلة، فقرر الاطباء قطعها حتى لا تسري الى ساقه كلها ثم الى فخذه، وربما ترقت الى جسده فاكلته، فطابت نفسه بنشرها، فعرضوا عليه ان يشرب شيئاً يغيب عقله حتى لا يحس بالالم ويتمكنوا من قطعها، فقال: ما ظننت ان احداً يؤمن بالله يشرب شيئا يغيب عقله حتى لا يعرف ربه عز وجل، ولكن دعوني اصلي الله ركعتين وفي آخر صلاتي اقطعوها، فقطعوها في آخر صلاته وهو صامت لا يدري ولا يحس ولا يتكلم، ولا يعرف انه (اشتكى)، وشاءت ارادة الله ان يبتلى الرجل على قدر ايمانه، ففي الليلة التي قطعت رجله سقط ابن له كان احب ابنائه اليه، من سطح فمات، فدخلوا عليه فعزوه فيه، فقال: اللهم لك الحمد، كانوا سبعة فاخذت واحداً وابقيت ستة، وكان لي اربعة اطراف فاخذت واحداً وابقيت ثلاثة، فإن كنت اخذت فلقد اعطيت، ولئن كنت قد ابتليت فقد عافيت, ويروى ان ابا طلحة الانصاري رضي الله عنه اراد ان يسافر وكان له غلام وحيد, ومرض الغلام وذهب ابوه متاجراً واحضر الغلام فقبله وذهب وراء تجارته، وفي اثناء غياب الاب مات الولد، فقامت ام سليم رضي الله عنها تغسله وتكفنه وتصلي عليه وتدفنه، ورجع ابو طلحة الى بيته بعد انقضاء مدة سفره، فاستقبلته زوجته وباتا ليلتهما معاً، ولم تخبره بامر ابنيهما حتى الصباح، فذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واخبره بما حدث، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في ليلتكما , هذه حال الصادقين مع الله تعالى يبتلى احدهم ويصبر ويحمد الله تعالى على هذا البلاء وقد كان احدهم اذا لم يبتلى شك في ايمانه مع الله تعالى وعلم انه مقصر في حقوق الله، هذا حال العرفين لله تعالى، اما حالنا فالله المشتكى، وكل منا يعلم بحاله وليراجع حساباته مع نفسه، وقد قال حكيم: البلاء سراج العارفين، ويقظة المريدين، وهلاك الغافلين, وقد قيل: اربع من كنوز الجنة: كتمان المصيبة، وكتمان الصدقة، وكتمان الفاقة، وكتمان الوجع,هذا وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه اجمعين. عبدالاله بن محمد الوهيبي الرياض