لقد سبق أن كتبنا في جريدة الجزيرة في عددها 12935 وتاريخ 20 صفر 1429ه مقالاً مختصراً تطرقنا به إلى فيلسوف العرب (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي). والمتوفى في أرجح الآراء في سنة 260ه والذي لم نذكره في ذلك المقال لقصره ولاختصاره، أن الكندي مع إبداعاته في مجال الفلسفة كانت له رسالة تنبض بأفكار فلسفية وأدبية متنوعة وموضوعها الأساسي هو في كيفية دفع الأحزان، وقد كتبها عندما طلب منه ذلك، ونحن هنا نجتزئ منها أهم الأمور التي وردت فيها ولها علاقة في دفع الأحزان. بدأ الكندي رسالته بأن بين أن كل ألم لا يعرف سببه لا يرجى شفاؤه. ولهذا ينبغي بيان سبب الحزن، ليمكن وصف الدواء منه. ولهذا يعرف الحزن بأنه ألم نفساني ناتج عن فقد أشياء محبوبة أو عن عدم تحقق رغبات مقصودة.. فلننظر هل يمكن لإنسان من الناس التخلص من هذين السببين. من الواضح أن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على كل ما يرغب فيه.. لأنه لا دوام لشيء في هذا العالم، عالم الكون والفساد الذي نعيش فيه. أما البقاء فيوجد بالضرورة في العالم المعقول الذي نستطيع أن نستشرف بأبصارنا إليه (يقصد الكندي عالم ما بعد الموت).. أما القنيات الحسية (في عالم الكون والفساد - الحياة الدنيوية) فمبذولة لجميع الناس، ومعرضة للضياع، وليست بمأمن من الفساد والتغير... وعلينا ألا نأسف على ما يفلت منا. وعلينا أن نطلب إذن ما هو ممكن، إذا لم نجد ما نرغب فيه، ومن يحزن لافتقاره إلى ما هو هالك، لن يفني حزنه أبداً، إذ سيجد دائماً أنه سيفقد صديقاً، أو محبوباً، وسيفوته مطلوب.. ثم يأخذ الكندي في رسالته في بيان العلاجات التي بفضلها يمكن دفع الأحزان، فقال: أول الأدوية وأسهلها أن يعتبر المرء الحزن ويقسمه إلى نوعين: حزن ناشئ عن شيء يتوقف أمره على إرادتنا، وحزن ناشئ عن شيء يتوقف أمره على إرادة الغير. فإذا كان الأمر رادعاً إلينا، فليس لنا أن نحزن، لأننا نستطيع أن نتمنع من السبب في هذا الحزن ونزهد فيه. وإن كان راجعاً إلى الغير، فإما أن نستطع التوقي منه، أو لا نستطيع. فإن استطعنا فعلينا أن نحمي منه ولا نحزن. وإن لم نستطع، فليس لنا أن نحزن قبل أن يقع، لأنه قد يحدث ألا يقع من فاعل سببه. أما إذا كان حزننا من أمر لم يصبنا بعد، فنحن نجلب على أنفسنا حزناً لم يدع إليه داع. ومن يحزن يؤذ نفسه، ومن يؤذ نفسه يكن أحمق ظالماً.. وثاني الأدوية أن نتذكر الأمور المحزنة التي تعزينا عنها منذ وقت طويل، والأمور التي عاناها الآخرون تعزوا عنها. ثم نعد حالة الحزن الماثلة مشابهة لتلك الأحوال المحزنة الماضية والتي تعزينا عنها. وبهذا نستمد قوة وصبراً.. إن الرغبة في ألا نصاب بشقاء هو كالرغبة في عدم الوجود، لأن المصائب تأتي من كوننا كائنات فانية هالكة.. فإن أردنا أن ننجو من المصائب، فإننا نريد بذلك ألا يكون هناك كون ولا فساد، وهذا محال. وعلينا أن نتذكر أيضاً أن ما بين أيدينا مشترك بين الناس جميعاً.. وليس لنا من الحق فيه أكثر مما لغيرنا، ومن يملكه إنما يملكه طالما كان في حوزته فقط. ما هو في حوزتنا هو الخيرات الروحية وحدها، وهي التي يحق للإنسان أن يحزن لفقدها. إن ما نملكه هو لدينا بمثابة عارية ممن أعاره وهو الخالق.. ولو لم يعطه لمن شاء لما وصل إلينا أبداً... وعلينا أن نفهم جيداً أنه إذا كان ينبغي الحزن على المفقودات وما لم نحصله، فينبغي أن نحزن أبداً، وفي الوقت نفسه ألا نحزن أبداً. وهذا تناقض فاضح، فإنه إذا كان سبب الحزن هو فقد القنيات الخارجة عنا، فإنه إذا لم تكن لنا قنيات خارجية لن نحزن لأننا لن نفقدها ما دمنا نملكها. وإذن علينا ألا نملك شيئاً حتى لا نفقده فيكون فقدانه سبباً للحزن. لكن ألا نملك شيئاً هو مصدر دائم للحزن. ولهذا ينبغي أن نحزن دائماً سواء اقتنينا أو لم نقتن. إذن يجب ألا نحزن أبداً، وأن نحزن أبداً! وهذا محال. لكن علينا أن نقلل من قنياتنا، لنقلل من أحزاننا، ما دام فقدها يولد الحزن. إن الله لم يخلق مخلوقاً دون أن يزوده بما يحتاج إليه إلا الإنسان، لأنه وقد زود بالقوة -وبالعقل- التي بها يسيطر على الحيوان ويحكمه ويوجهه، فإنه يجهل أن يحكم نفسه، وهذا دليل على نقص العقل. وحاجة الإنسان لا تنقضي، مما ينشأ عنه الحزن والهم. ولهذا فإن من يهتم باقتناء ما لا يملك من الأشياء الخارجة عنه لا تنقضي غمومه وأحزانه. وحال الناس في عبورهم في هذا العالم الفاني حال خداعة (ضرب الكندي المثل في ركاب سفينة خرجوا منها بعدما رست في مرفأ للتزود بالمؤونة، فبعضهم اشترى وعاد إلى السفينة، والبعض بقي بجوار السفينة، ثم عادوا إلى السفينة، وفريق ثالث انصرف إلى جمع الأصداف والأحجار وعادوا مثقلين بها، وفريق توغلوا في المروج والغابات ونسوا السفينة (الفريق الأول وجد مكاناً مريحاً في السفينة، وكذلك حال من بقي بجوار السفينة، أم الفريق الثالث فقد اضطروا إلى شغل أماكن ضيقة على ظهر السفينة، أما الفريق الرابع فقد هلكوا لأن السفينة غادرت وتركتهم، وهذا المثل ضربه الكندي على أحوال الناس في الدنيا). وعلينا -يقول الكندي- أن نتذكر أنه ينبغي علينا ألا نكره ما ليس رديئاً، وأن نكره ما هو رديء. فهذا من شأنه أن يحمينا من كثير من الأشياء الحسية المحزنة.. وأخيراً يجب أن نتذكر إذا أحسسنا بفقد شيء ما بقي لنا من قنيات مادية وعقلية، ناسين مفقوداتنا الماضية، لأن تذكر ما يبقى لنا يعزينا عما فقدناه.. **** المرجع: موسوعة الفلسفة لعبدالرحمن بدوي الرياض: 11642 ص ب 87416