إذا كانت النفس خيِّرة فاضلة تحب نيل الفضائل وتحرص على إصابتها، وتشتاق الى العلوم الحقيقية والمعارف الصحيحة، فيجب على صاحبها ان يعاشر من يجانسه ويطلب من يشاكله، ولا يأنس بغيرهم ولا يجالس سواهم، ويحذر كل الحذر من معاشرة أهل الشر والنقص من المجان والمجاهرين باصابة اللذات القبيحة وركوب الفواحش والمفتخرين بها المنهمكين فيها، ولا يصغي الى أخبارهم مستطيباً ولا يروي أشعارهم مستحسناً ولا يحضر مجالسهم مبتهجاً. وذلك ان حضور مجلس واحد من مجالسهم وسماع خبر واحد من أخبارهم، ورواية بيت واحد من أشعارهم، يعلق من وضره ووسخه بالنفس ما لا يغسل عنها إلا بالزمان الطويل والعلاجات الصعبة ... دفع الأحزان الحزن ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوت مطلوب وسببه الحرص على القنيات الجسمانية ... وقال الكندي في كتاب "دفع الأحزان" ما يدلك دلالة واضحة ان الحزن شيء يجتلبه الانسان ويضعه وضعاً وليس هو من الاشياء الطبيعية: ان من فقد مُلكاً أو طلب أمراً فلم يجده ولحقه حزن ثم نظر في حزنه ذلك نظراً حكمياً وعرف ان اسباب حزنه هي اسباب غير ضرورية، وان كثيراً من الناس ليس لهم ذلك الملك وهم غير محزونين بل فرحون مغبطون، علم علماً لا ريب فيه ان الحزن ليس بضروري ولا طبيعي، وأن من حزن من الناس وجلب لنفسه هذا العارض فهو لا محالة سيسلو ويعود الى حاله الطبيعي. فقد شاهدنا قوماً فقدوا من الأولاد والأعزة والأصدقاء والأحبة ما اشتد حزنهم عليه، ثم لا يلبثون ان يعودوا الى حال المسرة والضحك والغبطة، ويصيروا الى حال من لم يحزن قط. وكذلك حال من يفقد المال والضياع وجميع ما يقتنيه الانسان مما يعز عليه ويحزن فانه لا محالة يتسلى ويزول حزنه ويعاود انسه واغتباطه .... مفارقة الفخر ... الفخر هو المباهاة بالاشياء الخارجة عنا. ومن باهى بما هو خارج عنه فقد باهى بما لا يملكه. وكيف يملك ما هو معرض للآفات والزوال في كل ساعة ولحظة ولسنا على ثقة منه في شيء من الأوقات .... الخوف من الموت ... فهذه جملة الكلام على الخوف المطلق. ولما كان أعظم ما يلحق الانسان منه الخوف من الموت، وكان هذا الخوف عاماً وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف وجب ان نستوفي الكلام فيه. فنقول: ان الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة او لا يعلم الى اين تصير نفسه، او لانه يظن ان بدنه اذا انحل وبطل تركيبه فقد انحل ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور وان العالم سيبقى بعده موجوداً وليس هو بموجود فيه ... أو لأنه يظن ان للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت اليه وكانت سبب حلوله، او لانه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، او لانه متحير لا يدري على اي شيء يقدم بعد الموت، او لانه يأسف على ما يخلِّفه من المال والقنيات .... ... الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس وانما الرديء هو الخوف منه .... عَلِمنا ... وقد علمنا ان الانسان من بين جميع الحيوان يتصنع حتى يظهر للناس منه ما لا حقيقة له ... نعمة الإكتفاء ... فأما تلك النعم التي هي في ذواتنا فانها موجودة عندنا وفينا، وهي غير مفارقة لنا لأنها موهبة الله الخالق عز وجل. وقد أمرنا باستثمارها والترقي فيها، فاذا قبلنا أمره اثمرت لنا نعماً بعد نعم، ورقينا في درجة فوق درجة حتى تؤدينا الى النعيم الأبدي ... فلذلك قلنا ينبغي لمن رزق الكفاية ووجد القصد من السعادة الخارجة ان لا يشتغل بفضول العيش فانها بلا نهاية، ومن طلبها اوقعته في مكاره لا نهاية لها ... وأما من لم يرزق الكفاية واحتاج الى السعي والاضطراب في تحصيلها فيجب عليه ان لا يتجاوز القصد وقدر حاجته منها الى ما يضطر معه الى السعي الحثيث والحرص الشديد والتعرض لقبيح المكاسب وضروب المهالك والمعاطب بل يجمل في طلبها اجمال العارف بخساستها وانه يضطر اليها لنقصانه ... حلم مسكويه ... غرضنا في هذا الكتاب أن نحصل لأنفسنا خلقاً تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي ... من "تهذيب الأخلاق" لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه المتوفى في 1030م. نشر الجامعة الأميركية في بيروت، 1966.