الحرب في العراق أين تنتهي؟ بعد نهايتها كيف يحيا الناس؟ المهم الآن أن يسكت الرصاص. أن تصمت المدافع. أن يتوقف هدر الدم. "هدر الدم"؟ هذه العبارات التي تفقد معناها بتكرارها، كانت - قبل زمن بعيد - عبارات بليغة. البلاغة تُقتل بالتكرار. لكن ماذا يصنع الكائن أمام حروبٍ تظل تتكرر؟ هدر الدم عبارة تصف جسماً مكسوراً كالجرّة، ومن الجسم المحطم، من أنابيب العروق والشرايين، يسيل السائل الثمين. يُسفح خارج مكانه الطبيعي. خارج جسم الانسان يتدفق هذا الدم... فيضيع ويُهدر. الدورة الدموية - التي تحفظ الروح في جسمنا - تنقطع: بنصلٍ أو بصاعقٍ أو بشظيةٍ تنقطع... وما يضخه القلب من دمٍ الآن، لا يبلغ الدماغ ورؤوس الأنامل، بل يشخط في الفضاء وينشر بخاراً حاراً أمام الوجوه. الحرب دمار. قد تدوم 15 سنة وتُمزق بلداً أشلاء. القتل والخطف والسيارات الملغومة. الخوف والعيش في الملاجئ وفقدان المواد الغذائية. نرجع بين ليلة وضحاها الى زمن الكهوف. بلا طحين وماء ومازوت. بلا كهرباء. بلا طرقات تربط البيوت بالدكاكين. المدارس تُقفل. والدخان الأسود يخنق الأنفاس. اذا كانت مدينتك على البحر احترق المرفأ في شهور الحرب الأولى. هذا شرط من شروط الحرب. أن تقف النار سوراً بينك وبين العالم. سور النار يرتفع على حافة البحر كأنه يرتفع على حقل من الوقود. وحين تمطر بعد الحرائق يسيل العالم كله، يصير لونه أسود. المطر الأسود عرفته هيروشيما المدمرة عند نهاية الحرب العالمية الثانية. عرفته أيضاً مدن ألمانيا في الحقبة ذاتها. قبل ذلك بزمنٍ قصير عرفته لندن. الخليج أيضاً رأى هذا المطر قبل أعوام، بعد احتراق آبار نفط. في الأعالي الغيوم بيضاء ورمادية. لكن المطر، بينما ينهمر منها، يُدبغ بلونٍ قاتم. الجو مملوء دخاناً وقطرات المطر تفقد صفاءها القديم. السائل ينزل أسود على الدروب، على السطوح، على الملابس المنشورة، وعلى العابرين. كأننا في جنازة. بعد الحرب تنتهي الحرب الطويلة وندخل عصر السلم. بعد الحرب لا تسكن النفوس. نرتاح ولا نرتاح. نحسب أننا انتهينا من الفزع لكن الفزع نزل كالماء الى الأعماق. توغل في تربة دلغانية مشققة تُجبل منها أجسامنا. الفزع كامن الآن. كامن مثل فيروس. لنقلْ اننا نجونا من الحرب وبقينا أحياء. نجونا بجلدنا إذاً. لم يُثقب هذا الجلد بالثقوب. ما زال صالحاً مشدوداً يحفظ في داخله لحمنا وعظمنا وأعصابنا. نجونا بجلدنا. وبنينا ما تهدم. أصلحنا النوافذ وأنابيب الماء وأعمدة الكهرباء. أصلحنا شبكة الهاتف. رفعنا عمارات جديدة. وبينما الأعوام تكرّ وتتعاقب على أجسامنا تعلّمنا أن نحيا كما يحيا البشر في أزمنة السلم، كما يحيا البشر هناك، وراء البحر. الأعوام تتوالى ونحن نتقدم الى أمام وندخل قرناً جديداً. دوستويفسكي سخر من النهضة والتنوير والتقدم. الظلمة في أعماقه، ثراء أعماقه، تشابك أعماقه، كل هذا منع عنه نظرة ساذجة التفاؤل الى الحياة. لم يكن أسود النظرة. لكنه أيضاً لم يكن مقيداً بالبلاهة. الرجل الذي عاش تحت الأرض أربعين عاماً تحت بطرسبورغ، أو في أطراف سيبيريا يعرف ما لا يعرفه الناس الذين أعطاهم حسن حظهم ان يحيوا الحياة كلها "فوق": حيث الألم قليل، والذعر قليل، والفهم قليل أيضاً. الروسي الذي أقام في القرن التاسع عشر ساخراً من "روح الفأرة" التي هي روحه أيضاً، يعرف ان الانسان معقد متشابك، وانه حتى لو اختار العزلة يظل في قلب العالم. يعرف، مثل كافكا، أن الواحد ساحة صراع دائمة لنوازع وميول ومخاوف وآمال وشخصيات لا تُعد. نحسب اننا ارتحنا، نحسب ان الوقت نهر هيراقليطس وماركوس أوريليوس قد حمل إلينا أخيراً الأمن والهدوء والطمأنينة. لا ننتبه الى ان هذا الوقت ذاته قد يحمل الينا - بعد لحظة - الكارثة. أو ننتبه ونصرف الذهن عن ذلك لئلا يتعب الذهن، ونقع. سيارة تنفجر شركات الأدوية تحبّ الشرق الأوسط. أميركا وأوروبا تعثران هنا، في بلادنا الطيبة، على سوقٍ استهلاكية أولى للأدوية المهدئة للأعصاب والمضادة للاكتئاب. تستطيع وزارة صحة في بلدٍ من بلدان الشرق الأوسط أن تمنع الصيدليات من بيع هذه الأدوية "النفسية"، اذا كان الزبون لا يحمل وصفة من طبيب. لكن الوزارة لا تستطيع أن تمنع الطبيب من اعطاء هذه الوصفة لكل من يطلبها. الأطباء، منذ أبقراط، لا يطلبون إلا صحتنا. إذا كنا نريد هذا الدواء، كيف يمنعونه عنا؟ بالطعام والشراب، بالخروج الى الأسواق، بالعمل والنزهة والقراءة والسينما، بتربية الأولاد وسماع الموسيقى، بالدواء اذا لزم الأمر، بقوة الإرادة وبالطاقة الجسمانية المحضة، نتعلم - وقد مرت أعوام على الحرب المشؤومة - نتعلم ان نحيا حياة طبيعية. نقول اننا انتهينا من الحرب، تعبنا من الحروب، الكلّ تعبوا، والحرب لن تأتي الى هذه البلاد مرة أخرى. على الأقل ليس في هذا الزمن، ليس في أيامنا. ربما رجعت بعد قرن، هذا ممكن، التاريخ غامض، والمستقبل لا يعرفه انسان. الانسان لا يعرف ماذا سيأكل بعد يومين وهذا قرار بسيط ،فكيف يعرف هل ستقع الحرب - هنا أو هناك - بعد خمسين سنة؟ ثم أن عليك ألا تفكر في هذه الأمور. من عاش حرباً يعرف أنها ليست لعبة. ليست سلوى. الحرب نهاية الأشياء. الحرب هي الوقت وقد أفلت من عقاله: الوقت وقد جرى خطفاً فسرق في دقائق سنوات كاملة. البناية التي تحتاج الى قرن كاملٍ كي تتصدع أساساتها وتنهار، تسقط في الحرب خلال ساعة. الواحد الذي عمّر أسلافه مئة سنة، والذي طالما حسب انه سيرى منتصف القرن الحادي والعشرين، يقضي نحبه برصاصة قناص بينما يعبر صباحاً مشمساً من ربيع 1976. لكن الحرب انتهت قبل سنوات. قبل 14 سنة أو 15 سنة انتهت، والآن نحيا في سلام. نخطط للمستقبل وننظر الى حروب في أماكن قريبة، ومرات لا ننتبه كم هي قريبة لأننا نشاهدها على التلفزيون. التلفزيون لا يُقرب الأشياء منا، بل يُبعدها. ما يحدث في الضفة الغربية يبدو - بعد أن تعالجه وسائل الاعلام - بعيداً، كأنه يحدث على كوكب آخر. وهذا صحيح. أبناء الضفة الغربية، أو غزة، أو المدن التي تحترق في العراق، ليسوا على هذا الكوكب. انهم يحيون على كوكب آخر: فقط في المنامات يقدر الواحد منهم أن ينتقل الى كوكبنا الأزرق السابح بسكينة في الفضاء. فقط في الخيال يقدر الواحد منهم أن يتخيل كوكباً لا يُدمر بالقنابل، لا يُحرق بعواصف النار، ولا تتساقط الرؤوس فيه عن الأبدان، وتتدحرج. لكننا لسنا على كوكب آخر. إذا انفجرت سيارة الآن اهتز العالم كله. اهتزت نجوم السماء. من الأعماق يخرج الذعر القديم. ها هم الناس في الصيدليات يشترون أدوية كفّوا وبينهم من لم يكف أبداً عن شرائها. يرجعون الى الدواء لأن نوبات الذعر تقوى على الإنسان. لا يضعف إيمانهم. بل العكس: يضاعفون وقت الصلاة، ويضاعفون وقت الدعاء، ولا يفقدون الأمل. لكنهم مع هذا يشعرون بالتعب. تسمع الواحد منهم في الطريق يقول لصاحبه بلا انتباه انه تعبان. تعبان ولا يعرف ماذا به، يقول. وتنتبه الى ارتفاع مستوى العصبية في حركاتهم وايماءاتهم وأصواتهم. هذا يحدث في الطرقات، في السيارات، في الباصات، في مكاتب العمل، في المدارس، في المطاعم، أينما ذهبت. يخرجون الى المطاعم أكثر الآن. يميلون الى الإنفاق، مع أنهم يحسبون مدخراتهم، ويقلبونها الى العملة الصعبة، ويتساءلون هل يقدرون على الهجرة الى وراء البحر؟ هل يملكون ما يكفي؟ الذعر يطفو كالوسخ من الأعماق. والعيون تظلم. اذا ضحكوا رفعوا الضحكة عالياً، مثل نداء. المخيلة والخوف... والصلاة جوزف كونراد اكتشف بينما يكتب "قلب الظلام" ان الانسان لا يخاف شيئاً مقدار ما يخاف من مخيلته. لا شيء يخيفنا كما تفعل مخيلتنا. لا شيء يُرعبنا كما يفعل كابوس أو وسواس. ما الأصعب، الكارثة أم "توقع الكارثة" في كل لحظة؟ أليس "توقُع الكارثة" كارثة؟ القلق يهدّ البشري هدّاً. يورثه قرحة في المعدة. كيف يتحول القلق الى سكين يشق غشاء المعدة ويجرحها؟ عجيب ابن آدم. المخيلة تقتلك اذا أظلمت. لكنها تعطيك أملاً أيضاً: ألا تقدر وأنت محبط أن تتخيل أياماً أفضل آتية؟ النمر المحبوس في قفص يعجز عن رؤية سهول المستقبل الشاسعة. لكن الإنسان ليس نمراً. الإنسان عنده ذاكرة. عنده مخيلة. الإنسان يذكر انه عَبَرَ ساعة صعبة من قبل ثم خرج منها. كما حدث هذا مرة قد يحدث مرة أخرى. كالنهر يقلب الوقت أجسامنا على هذه الجهة، على تلك الجهة. التيار يغمرنا، أعشاب الماء تلتف برؤوسنا، والموج ينزل في العيون. نوشك أن نختنق. الطبيب يخبرك أن نوبة الذعر تُعالج بتمارين التنفس. هل أنت خائف؟ عليك بالشهيق والزفير. أنت لا تخاف أبداً؟ جلدك كجلد تمساح؟ هذا من حُسن حظك. لكننا نحكي الآن عن بشرٍ لم تعطهم الأعوام جلد تمساح. بلا جلد تمساح نخاف. نخاف على من نحب، ونخاف على جلدنا. ولد صغير في المدرسة يسأل المعلمة عن الخطف، ما هو هذا "الخطف" الذي يحكون عنه؟ يقول الولد انه يخاف أن ترجع الحرب لأنه يخاف من هذا الخطف الذي يسمعهم يحكون عنه! هل أنت خائف؟ عليك بالشهيق والزفير. بتنظيم الأنفاس المتدافعة في صدرك. لا تمكث جامداً. الرياضة تنفع. هورمون السعادة Endorphin ينشط. تنفسْ. اقطعْ الدروب مشياً. هكذا تتذكر أن جسمك من عظم ولحم وأعضاء داخلية. هكذا يجري الدم في دماغك. ترتعش التلافيف والسحايا والمادة الرمادية. أنت معجزة. تذكر هذا. الآن تقدر أن تُصلي. الصلاة باب خلاص. الرازي والكندي وساسكند يكتب أبو بكر الرازي قبل عشرة قرون وهو يكتب "الحاوي في الطب": "...إن الطحال إذا صبَّ الى فم المعدة فضلاً سوداوياً أورت كآبة والوسواس السوداوي. وربما يهيج الشهوة. وربما لم تهج به. وأفسد الهضم في الحالين جميعاً... ولا علاج أبلغ في رفع الماليخوليا من الأشغال الاضطرارية التي فيها منافع. أو مخافة عظيمة تملأ النفس وتشغلها جداً. والأسفار والنقلة. فإني رأيت الفراغ أعظم شيء في توليد الكآبة والفكر في ما كان ومضى... يعالج هذا الداء بالانشغال وبالصيد والشطرنج وشرب الشراب والغناء... مما يجعل للنفس شغلاً عن الأفكار العميقة. لأن النفس إذا تفرغت تفكرت في الأشياء العميقة البعيدة. واذا فكرت فيها فلم تقدر على بلوغ عللها حزنت واغتمت واتهمت عقلها، فإذا زاد وقوي فيها هذا العرض كان ماليخوليا... وأصحاب الماليخوليا لا يخلون ان يفزعوا من شيء ما، لأن هذه العلة انما هي الفزع من شيء ما... الطبري قال الوسواس يكون من الحر واليبس... بولس قال الماليخوليا إما لغلبة السوداء على الدماغ وحده، وإما لأن البدن كله سوداوي. الاسكندر الأفروديسي قال ليدع أصحاب السوداء الكرنب والجرجير والخردل والثوم ولحوم البقر الغليظة واليابسة والحريفة والحامضة... وليلزموا اللهو الدائم واللذات والحمام والصيد وأشغال الفكر والانتقال... شمعون قال أعراض الماليخوليا الكآبة والحزن والخوف والضجر وبغض الناس وحب الخلوة... الاسكندر قال اسرع بعلاج الماليخوليا فإنه إن طال سبّب للدماغ سوء مزاج لابثاً يصير له شبه بالحال الطبيعي لا يبرأ البتة... ومما يسهل السوداء مرق الديك العتيق المطبوخ باللبلاب...". أما الكنْدي فيكتب عن "دفع الأحزان": "... وإن من حزن من الناس وجلب لنفسه هذا العارض فهو لا محالة سيسلو ويعود الى حاله الطبيعي. فقد شاهدنا قوماً فقدوا من الأولاد والأعزة والأصدقاء والأحبة ما اشتد حزنهم عليه، ثم لا يلبثون أن يعودوا الى حال المسرة والضحك والغبطة، ويصيروا الى حال من لم يحزن قط. وكذلك حال من يفقد المال والضياع وجميع ما يقتنيه الإنسان مما يعز عليه ويحزن فإنه لا محالة يتسلى ويزول حزنه ويعاود أنسه واغتباطه...". وفي عصورنا الحديثة يكتب باتريك ساكند في روايته القصيرة "الحمامة" عن أفضل علاج لنوبات الفزع: الطعام والمشي الطويل في الشوارع. فبطل "الحمامة" الذي يوشك على الانتحار بعد نوبة ذعر سببها حمامة ظهرت على باب شقته، يُنقذه طعام العشاء وينقذه مطر الليل وتنقذه رحلة سير طويلة في دروب باريس: بينما يمشي تكبر روحه المنكمشة المخبوطة من جديد وتملأ جسمه.