لعل من أشهر المقامات الأدبية في الأدب التهامي عبر القرون الاسلامية الوسيطة : مقامة الفقيه علي بن يحيى الهذلي الضمدي في القرن التاسع الهجري التي أورد ابن ابي الرجال في كتابه مطلع البدور طرفا منها وقال بأنه اعتمد في ايرادها على ذاكرته اذ قال عن صاحبها: ومن مقاماته في العلم المشهورة ما أخبرني به الأخ الصالح الحسين بن محمد رحمه الله وقد فاتني جمهور ما حكاه الا أني اكتب الباقي لئلا يلحق بالماضي، فآفة العلم النسيان، قال: قدم الى أبي عريش رجل واسع العلم في النحو خصوصا من البصرة، فطلب علماء المخلاف السليماني لامتحانهم في هذا العلم، فوصل اليه المشار اليهم بها، فما قام في وجهه احد منهم الا وظهر عليه القصور، وانكر على المخلاف وتبجح الآفاقي المذكور ثم قال: الآن لم يبق في الجهة أحد. قال قائل: بل بقي الفقيه علي بن يحيى الهذلي الضمدي في ضمد. فقال: ارسلوا اليه، فوصل وهو رث الثياب كما قيل في صفة أمثاله: رث الثياب حديد القلب مستتر في الأرض مشتهر فوق السماسمة فدخل الى حضرة الرجل فوقف في طرف المحل حيث انتهى به المجلس, وكان البصري على سريره. فقال له: من أنت؟ فتعرف له حتى قال: لعلك الفقيه الذي نُعِتَ لنا يعرف النحو فقال: نعم، قال: فيم قرأت، قال: في الحاجبية ، قال: كتاب وضع لتأديب الاطفال, ثم قال: وفي أي شيء، قال: شرحه الموشح قال: ارتفعت عن هذا الحضيض بقليل، ثم ما زال يذكر الكتب مترقيا في ذكرها حتى قال: ثم فيم؟ قال: في: التسهيل . فقال البصري: الله اكبر كفؤ كريم، ووثب من ظهر السرير، ثم اورد كل واحد وأصدر والفقيه يجلي عبارة المشكلات الأكدار، ويضرب البصري الأمثال,, وما زال العجاج يثور، وبضاعة البصري تبور، فانخزل البصري عن النضال، وعرف ان امام الرجال رجال غير ان المجرى في الخلاء يسير، وانما يعرف الذهب بالمحك ويختبر، فافترقا، وأصبح البصري خاويا، ومنزله عنه خاليا قد ركب خوف العار عيرانه، وعرفه الفقيه علي رحمه الله ميدانه . قلت: ويبدو ان اعتماد ابن ابي الرجال على ذاكرته في حفظه لهذه المقامة قد أضاع شيئا منها، وجعل الاضطراب الأسلوبي يغشى ما حفظه منها، ولقد ظن احد الباحثين ان عنصر الشخوص في هذه المقامة هم أناس بأعيانهم، ولكنه في الواقع بناء تخيلي اختاره الأديب لمقامته.