لقد أدرك زعماء الكيان الصهيوني امتداد صلات القضية الفلسطينية بالعالمين العربي والإسلامي. فلم يحصروا جهودهم في أرض فلسطين، التي اغتصبوها؛ بل قاموا بنشاط كبير في أماكن قريبة منها وبعيدة عنها، امتداداً من جنوب السودان بدعم الحركة الانفصالية هناك؛ تدريباً، وتسليحاً، وإلى شمال العراق بدعم الحركة الانفصالية هناك أيضاً، تدريباً وتسليحاً. وما شاركوا فيه من جرائم ارتكبها إخوانهم من المتصهينين بعد احتلالهم لهذا القطر العربي الإسلامي؛ تعذيباً للمعتقلين المقاومين للاحتلال، ونهباً للتراث الثمين أو تدميراً له، معروف لدى الكثيرين. ولقد نشر كاتب هذه السطور قراءة لكتاب (الموساد في العراق ودول الجور)(1)، كما نشر قراءة لكتاب (الجذور التاريخية للمشروع الصهيوني في لبنان)(2)، ونشر أيضاً، مقالة عن نشاط الصهاينة في السودان المتضمِّن مساعدة الحركة الانفصالية في جنوبه بكل الوسائل ابتداء من أوائل الستينيات في القرن الماضي(3). وكان متوقَّعاً أن يدرك قادة أمتنا؛ عرباً ومسلمين غير عرب، أبعاد النشاط الصهيوني، ويوسِّعوا دائرة مواجهته كما وسّع أرباب ذلك النشاط دائرة نشاطهم. وفي هذه السنة ارتكب الصهاينة عدوانهم الإجرامي الجديد على لبنان؛ وهو عدوان خطَّطوا له مع الإدارة الأمريكية المتصهينة المتَّحدة معهم اتّحاداً في معاداة أمتنا؛ غضب من هذا القول من تأمركوا هوى وعاطفة من هذه الأمة، فتجاهلوا الحقائق الواضحة، أو لم يغضبوا. وبغض النظر عما أعلنه المعتدون من تبريرات لارتكاب عدوانهم الإجرامي، وردّده من ردَّده من زعماء وكتَّاب عرب - وهي تبريرات فنَّدها عدد من الكتّاب اليهود أنفسهم أمثال الكاتب المشهور يوري افينري والأكاديمي للان بب - فإن العدوان قد ارتُكب، ومقاومته ببسالة وصمود أذهلا المعتدين وأعوانهم قد حدثت. ولذلك كان متوقَّعاً أن يقف زعماء أمتنا موقفاً يتناسب وحجم المسؤولية التي قدَّر الله أن تكون ملقاة على عواتقهم بالدرجة الأولى. ولأن الإدارة الأمريكية المتصهينة كانت متواطئة مع الكيان الصهيوني في عدوانه الإجرامي على لبنان، كما كانت متواطئة معه في استمرار ارتكاب جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، فإنه كان متوقعاً - مثلاً - أن تُفتَح جبهة مقاومة على قوات تلك الإدارة المحتلَّة في العراق تكون جنباً إلى جنب مع المقاومة ضد قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني هناك. ولو فُتحت تلك الجبهة لأربكت المتغطرسين، الذين جعلوا من أنفسهم وحلفائهم من الصهاينة جهات فوق القوانين الدولية، ونذروا أرواحهم أعداء للمسلمين بعامة والعرب منهم بخاصة، ولما تبجَّحوا بما تبجَّحوا به من تهديدات متغطرسة بأمركة منطقتنا العربية وتفتيتها إلى دويلات طائفية وعرفية تُحدَّد حدودها بدماء أهلها المراقة، وتركع خاضعة لإرادتهم وتحقيق مصالحهم ومصالح أولئك الحلفاء من الصهاينة العنصريين. غير أن ما كان متوقَّعاً بذلك الشأن لم يحدث - مع الأسف الشديد - في الوقت المناسب؛ أي حين كانت المقاومة اللبنانية تسطّر ملاحم البطولة والصمود؛ رافضة قيود الذلّ، الذي استمرأه من استمرأه من أمتنا. وإذا هو لم يحدث فإن المصلحة في فتح تلك الجبهة ما زالت واضحة، كما ذُكر في مقالة سابقة. وذلك ليتبع انتصار المقاومة الفذَّة في لبنان الإباء والشموخ، التي صمدت أمام جبروت العدوان الصهيوني الإجرامي بكل ما يملك من قوة بطش وإرهاب أكثر من شهر، وكبَّدت المعتدين خسائر فادحة؛ بشراً وأسلحة واقتصاداً.. ليتبع بانتصار على المتصهينين في بلاد الرافدين يقضي على مآربهم الشِّريرة في منطقتنا، ويساعد في استعادة أمتنا لحقوقها وما يجدر بها أن تتحلَّى به من عزَّة وكرامة. أما وقد حقَّقت المقاومة الباسلة في لبنان ما حقَّقت من نجاح، وكبَّدت أعداء أمتنا ما كبَّدت من خسائر جعلت زعماء الصهاينة يتلاومون: كل مسؤول منهم يلوم المسؤول الآخر على الفشل الذي مُني به كيانهم في تحقيق أهدافه عسكرياً، واتَّضح - خلال عدوان الصهاينة ومقاومة ذلك العدوان - ما اتَّضح من وحدة اللبنانيين موقفاً ناضجاً بمختلف طوائفهم واتجاهاتهم السياسية، فقد كان متوقَّعاً أن يستفاد من ذلك كله ليكون منطلقاً للتمسُّك بما ظهر من تضامن وصمود، ويكون حافزاً للجميع من داخل لبنان وخارجه للتحلِّي بالحكمة والمسؤولية وتجنُّب كل ما من شأنه إثارة البلبلة والشقاق عبر تصريحات غير لائقة من أيَّ طرف تجريحاً لطرف آخر. ذلك أن المكيدة المدبَّرة ضد لبنان بخاصة وضد أمتنا بعامة ما زالت حلقاتها تُنفَّذ أمام أعين الجميع، وأن ما فشل أعداء الأمة في تحقيقه من خلال العدوان العسكري الصهيوني المدعوم دعماً غير محدود من الإدارة الأمريكية المتصهينة مصمم على تحقيقه بطرق أخرى. وليس ما تضَّمنته بعض بنود القرار 1701 وما يبذله المتصهينون وما يرونهم من منافقي زعماء أوروبا من محاولات لاستصدار قرار آخر يدعم ما يصرُّون على تنفيذه ضد أمتنا إلا برهاناً على ذلك. فإن فرَّطت أمتنا؛ قادة وشعوباً، في اتَّخاذ الموقف، الذي تحتَّم الظروف الراهنة أن يُتَّخذ، واستسلمت لعوامل اليأس من الانتصار على الذات في سبيل المصلحة العامة، ورضخت بقبولها صاغرة إملاءات الدول المعادية لها عداء لا لبس فيه ولا غموض، فإنها تضع على كاهلها حمل وزر جديد يضاف إلى أوزارها السابقة، التي يفترض أن تكفِّر عنها. ولأمتنا المليء تاريخها الحديث بالنكبات تجربة مشجعة في ذلك المجال. لقد كانت خسارتها 1967م خسارة فادحة، بشراً وسلاحاً وأرضاً. وكان جو العلاقات بين بعض قادتها ملبَّداً بغيوم تدمي قلوب المخلصين. لكن القادة في ذلك العام انتصروا على ذواتهم. وكانت نتائج مؤتمر الخرطوم تبرهن على ذلك الانتصار. أليس جديراً بالجميع أن تكون تلك التجربة نبراساً يقتدى به؟. ومن المعلوم ما للإعلام من دور فعَّال في المواجهات بين الأطراف المختلفة. ولقد أدرك الصهاينة ذلك غاية الإدراك، فوظَّفوه أبلغ توظيف؛ إذ جنَّدوا - وهم البارعون في التضليل - فرقاً إعلامية متخصصة لتضليل الرأي العام الغربي، ولا سيما الأمريكي، لإخفاء حقائق ما كانوا يرتكبونه من جرائم، وليبدوا كأنهم المعتدى عليهم، وأنهم المدافعون عن أنفسهم. بل إنهم منعوا وسائل الإعلام غير الصهيونية الموجودة في فلسطين المحتلَّة من مشاهدة كثير مما كان يحدث في المواجهات بينهم وبين المقاومة اللبنانية الباسلة، وما كانوا يكبّدونه من خسائر فادحة على أيدي أبطالها الأفذاذ. وكان متوقَّعاً - وأمتنا في خضَّم معركة طاحنة مع أعدائها - أن تكون وسائل الإعلام العربية سلاحاً مسانداً للمقاومة ضد العدوان الصهيوني المرتكب بالتنسيق التام مع الإدارة الأمريكية المتصهينة الداعمة له دعماً غير محدود، فتفضح جرائمه البشعة أمام الرأي العام داخل أقطار أمتنا وخارجها، وأن تشدَّ أزر المقاومين، الذين كانوا يضحُّون بأرواحهم فداء للوطن وكرامة الأمة. ومن هذه الوسائل ما كانت كذلك، فحُقَّ لها التقدير والثناء من المخلصين. لكن من القنوات التليفزيونية بالذات، التي يملكها أفراد من أسر عربية كريمة خدشوا كرامتها بما يفعلون، ما لم تغيِّر برامجها المروِّجة للميوعة واللهو حتى خلال العدوان الإجرامي على أمتنا. ومنها ما لم يكن أداؤها مختلفاً عن أداء أيِّ قناة أجنبية لا يهمُّها الأمر. بل إن ذلك الأداء لم يكن مختلفاً عن أداء قناة موجهة من المتصهينين الذين لا يرقبون في أمتنا المؤمنة إلاًّ ولا ذمة. ومنها ما كانت تدعو مسؤولين صهاينة يدافعون عبرها عن عدوانهم الإجرامي ضاربة بانتمائها لأمتها عرض الحائط. وإعطاء العدو المعتدي مثل هذه الفرصة الإعلامية المضلَّلة اعتداء على حقوق المقاومين الشرفاء، وإيذاء لمشاعر من يقدِّرون فداءهم وتضحيتهم كل التقدير. وهو عمل يرفضه الدين الناهي عن التعاون مع الأعداء، كما يرفضه العقل الصحيح والمنطق السليم. ألهم الله الجميع الرشد والسداد. 1 - نشرت في الجزيرة بتاريخ 26- 10 و3-7-1426ه. 2 - نشرت في الجزيرة بتاريخ 10- 11 و17-11-1426ه. 3 - نشرت المقالة في الجزيرة بتاريخ 18-2-1426ه.