المراد بكلمة (القضية)، هنا، دون وصف أو إضافة قضية فلسطين التي هي قضية العرب والمسلمين الكبرى بوجه عام. ذلك أن معظم قضايا أمتنا ذات صلة بها بشكل من الأشكال. ولقد لاحت في الأفق بوادر تفكير زعماء غربيين في إقامة كيان لليهود على أرض فلسطين عند بدايات القرن التاسع عشر الميلادي. وكان من أولئك الزعماء نابليون بونابرت الذي عرض مساعدتهم على ذلك مقابل تعاونهم معه لتحقيق طموحاته الإمبراطورية، ومنهم الرئيس الأمريكي، جون آدمز الذي نادى عام 1818م بإقامة دولة يهودية مستقلة في فلسطين. ثم اتَّضح من معالم وضع ذلك التفكير موضع التنفيذ ما اتَّضح عند بدايات القرن العشرين؛ وبخاصة بعد إعلان وعد بلفور، وزير خارجية بريطانيا، عام 1917م بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين المأهولة بسكانها العرب عبر القرون المتتالية. وما مرَّت به القضية الفلسطينية منذ ذلك التاريخ، وما ارتكبه الصهاينة من جرائم شنيعة بحق الفلسطينيين! بشراً وأرضاً وتراثاً، من الأمور المعروفة لدى كثيرين. على أن هذه المقالة الموجزة مقتصرة على الإشارة إلى ما حدث خلال هذا العام فقط من أمور كانت متوقَّعة وأخرى غير متوقَّعة. لقد حدث ما كان متوقَّعاً من اتَّخاذ الشعب الفلسطيني الواعي موقفاً ينسجم مع ما آلت إليه أمور المفاوضات بين قادته من زعماء حركة فتح وقادة الكيان الصهيوني. ذلك أنه قد تبيَّن للجميع أن تلك المفاوضات التي بُني بعضها على أساس اتفاقية أوسلو - وهي الاتفاقية المتضمِّنة مصلحة للصهاينة المحتلِّين أكثر من مصلحة الفلسطينيين - لم تؤدِّ إلى نتيجة إيجابية تضمن الحقوق الفلسطينية العادلة المقرَّر بعضها من قبل الأممالمتحدة، وأن العدو الصهيوني لم يوقف ارتكاب جرائمه الفظيعة، بل كثَّفها؛ اغتيالات لرجال المقاومة؛ زعماء وأفراداً، وتقتيلاً شمل المدنيين العاديين، وتهويداً للأرض المحتلَّة بما فيها القدس الشريف. وهكذا اختار الفلسطينيون بانتخابات حرَّة نزيهة قيادة جديدة لإدارة دفَّة أمورهم تطرح طرحاً مختلفاً عما كان مطروحاً من قبل قادتهم الذين انخدعوا في تلك المفاوضات العقيمة والاتفاقية غير الملبيِّة لمطالبهم الأساسية العادلة. وأصبح قادة حركة حماس الحكومة الشرعية لفلسطين. وكما كان متوقَّعاً وقف زعماء الكيان الصهيوني ضد اختيار الشعب الفلسطيني الحر، وحاربوا الذين اختارهم بالوسائل الإجرامية كلها التي هي من ثوابت العقيدة الصهيونية. فإضافة إلى تكثيف جرائم الاغتيالات والتقتيل، وجرائم تهديم المنازل والبنية الأساسية للبلاد، امتدت تلك الجرائم إلى اعتقال أعضاء من المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب بمن فيهم رئيسه، وعدد من وزراء الحكومة الفلسطينية، ليضمّوا إلى أكثر من عشرة آلاف معتقل فلسطيني بينهم نساء وأطفال، وكما كان متوقعاً، أيضاً، وقف قادة أمريكا المتصهينون بخاصة ومنافقو زعماء الغرب بعامة مع الصهاينة، فحوصر الشعب الفلسطيني؛ سياسياً واقتصادياً، حصاراً تشمئز منه نفوس المنصفين في العالم. على أن ما لم يكن متوقعاً حدوثه أن يقف زعماء العرب موقف المتخاذل مما ارتكب - وما زال يرتكب - من جرائم فظيعة بحق الشعب الفلسطيني، وأن يُبدوا، وكأن مجازر بشعة كتلك التي أبيدت فيها أسرة طفلة أمامها على شاطئ البحر، لا تعني لهم شيئاً. والأدهى - بطبيعة الحال - والأمر أن يقف بعض أولئك الزعماء موقفاً لا يختلف في جوهره عن مواقف متصهيني الإدارة الأمريكية ومنافقي زعماء أوروبا في محاصرة حكومة حماس المنتخبة من قبل الشعب الفلسطيني، وأن يستقبلوا زعماء مجرمي الحرب من الصهاينة بترحاب وعناق حارين، ويرفضوا استقبال ممثلي حكومة حماس التي هي الحكومة الشرعية للفلسطينيين وفق نتائج انتخابات حرة نزيهة، وإنه لمن الغريب والمؤلم أن تسحب دولة النرويج مقدَّرة مشكورة لموقفها الشجاع - وهي دولة غير عربية ولا مسلمة - سفيرها لدى الكيان الصهيوني احتجاجاً على ارتكاب هذا الكيان ما يرتكبه من جرائم حرب بشعة بحق الشعب الفلسطيني، ويظل سفراء دول عربية مسلمة في سفاراتهم على أرض فلسطين المحتلَّة، ويبقى سفراء الصهاينة وممثلوهم في عواصم هذه الدول. بل إن الوضع بقي كما هو رغم ارتكاب الكيان الصهيوني جرائم عدوانه الأخير على لبنان، إضافة إلى استمرار ارتكاب جرائمه الفظيعة ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. ولقد كان متوقَّعاً أن يكون إقدام الكيان الصهيوني على ارتكاب عدوانه الإجرامي على لبنان، وبرهنته على طبيعته العدوانية الحاقدة أكثر فأكثر - مع تكثيف جرائمه المستمرة على الشعب الفلسطيني - حافزاً لقادة العرب والمسلمين على الوقوف بجد مع الفلسطينيين الذين تعدُّ قضيتهم قضية الأمة كلها - أو هكذا يجب أن تكون - ودافعاً لهم على شدِّ أزرهم في مواجهة أعداء الله وأعدائهم من الصهاينة والمتصهينين. لكن ما كان متوقَّعاً من هؤلاء القادة لم يحدث مع الأسف الشديد. بل إنهم برهنوا أكثر فأكثر على أن حوادث الأيام حاملة معها بوادر بشارة انتصار مقاومة من فئات أمتها هنا أو هناك، أو حاملة معها نذر مكائد تعمل ضدها شرقاً أو غرباً، لم تزدهم إلا تخاذلاً وإدماناً على استمراء الذل والهوان. ومن الأدلة الواضحة على ذلك كله أنهم بدلاً من أن ترتفع أصواتهم مطالبة بإطلاق سراح عشرات الآلاف من إخوانهم الفلسطينيين الشرفاء وأخواتهم الفلسطينيات الشريفات من سجون الصهاينة الغاشمين وُجِد بينهم من بُحَّ صوته مطالباً بإطلاق سراح الجندي الصهيوني المشارك في ارتكاب جرائم ضد الشعب الفلسطيني دون إشارة إلى أولئك الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين الذين من بينهم نساء وأطفال. وكان متوقعاً من قادة العرب والمسلمين، أيضاً، أن يطالبوا - على الأقل - بتنفيذ قرارات الأممالمتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية؛ وهي القرارات التي من بينها ما ينص نصاً واضحاً على حق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، وعدم شرعية ضم أراضي الآخرين بالقوة العسكرية، لكنهم تحت تأثير مخدِّر الذل المحتسى حتى الثمالة نسوا تلك القرارات أو تناسوها تلبية لتوجيهات من أخضعوهم لإرادتهم بإرهابهم من سطوتهم، أو تخويفهم من إيقاف فتات موائد ثروتهم عنهم. وفي الوقت نفسه تباروا سراعاً إلى المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي صيغ أساساً بالتنسيق بين زعماء الكيان الصهيوني والمستشار الخاص للرئيس الفرنسي، شيراك، وأقطاب الإدارة الأمريكية المتصهينة. وتسابقوا مهرولين إلى المطالبة بتنفيذ قرار ذلك المجلس رقم 1701 الذي لبَّت بنوده مطالب الكيان الصهيوني المعتدي على لبنان، وتجاهلت أكثر البنود السبعة التي طالبت بها حكومة هذا البلد المعتدى عليه. ومن المعلوم أن مجلس الأمن ألعوبة في يد أمريكا؛ إذ كانت ذات الهيمنة الكبرى فيه قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم أصبحت هذه الهيمنة أكثر من ذي قبل, وكان كاتب هذه السطور قد عبَّر عن رأيه تجاه ذلك بقوله: تملك الدنيا وتحكمها بعصا الإذلال والدَّخنِ دولة من كيدها ملئت جنبات الأرض بالمحنِ مجلس (الأمن) الذي زعموا كيفما شاءت له يكنِ وأمين من صنائعها نصبته غير مؤتَمَنِ على أن القرار رقم 1701 - رغم إجحافه بحق لبنان الضحية للعدوان الصهيوني - ليس كافياً في نظر أعداء أمتنا من صهاينة ومتصهينين ومنافقين أوروبيين وموتورين غيرهم بينهم رجالات وزعامات من هذه الأمة. وسيسعى جميع هؤلاء الأعداء بزعامة أمريكا المتصهينة إدارة مساندة من منافقي أوروبا بقيادة فرنسا لاستصدار قرار آخر يستخدمونه ذريعة لجلب قوات من دول مختلفة. وستكون مهمّة هذه القوات الحقيقية أن يتحقَّق للكيان الصهيوني ما فشلت قوته العسكرية المدعومة دعماً غير محدود من أمريكا؛ وهو القضاء على المقاومة في أمتنا حتى يصفو الجو لأعدائها فيعيثوا في منطقتنا العربية والإسلامية فساداً وإذلالاً أكثر من ذي قبل. وربما مهَّدت محاولات الأعداء الطريق لتصبح لبنان في وضع مشابه للوضع الذي أصبحت فيه العراق التي مهَّد المحتلُّ بأرقى تقنياته الشرِّيرة طريق دخولها في نفق الطائفية والعرقية المظلم.