قبل أربعين سنة تقريباً عقد زعماء الأمة العربية مؤتمر قمّة لهم في الخرطوم. وغداً سيعقد زعماء هذه الأمة مؤتمر قمَّة لهم في الخرطوم أيضاً. والزعماء الحاليون - بطبيعة الحال - غير أولئك الزعماء، وظروف عقد المؤتمر الأول غير ظروف عقد المؤتمر الجديد. وبين انعقاد المؤتمرين الخرطوميين عقدت مؤتمرات عربية، قمماً وما دون القمم. والمواطن العربي في ضوء تلك المؤتمرات مشتَّت الأفكار والتخيُّلات بين إغراء للنفس كي يكون لديها بصيص من أمل قبيل انعقاد كل مؤتمر، ومحاولةٍ للتغلُّب على مشاعر الأسى واليأس بعد رؤيته نتائج انعقاده. كيف كان ذلك؟ كان انعقاد مؤتمر الخرطوم الأول بعد الهزيمة العسكرية التي حلَّت بالعرب سنة 1967م. وكانت تلك الهزيمة خسارة فادحة للأمة العربية بعامة، وللفلسطينيين منها بخاصة. ذلك أن الصهاينة احتلُّوا كامل الأرض الفلسطينية بما فيها القدس الشريف، إضافة إلى احتلالهم مرتفعات الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية. وكانت نتيجة ذلك المؤتمر إيجابية بدرجة كبيرة، قولاً وعملاً. فقد ارتقى الزعماء المشاركون فيه إلى مستوى المسؤولية المنوطة بهم، ورفعوا بذلك معنويات الرأي العام العربي التي أصابها ما أصابها إثر تلك الهزيمة العسكرية المأساوية والخسائر الفادحة.. وذلك بإعلان أولئك الزعماء لاءاتهم الثلاث المشهورة التي ذهبت أدراج الرياح بعد عشر سنوات من انعقاد ذلك المؤتمر. ولم يكتف زعماء مؤتمر الخرطوم الأول بإعلان ما أعلنوه، وإنما قرَّروا - ونفَّذوا - دعم جبهات الصمود، مادياً وعسكرياً، لاستعادة ما اغتصب من أرض. وكان من ثمار ذلك ما حقَّقه أبطال جيشي مصر وسورية في حرب 1973م من بطولات عسكرية فذَّة، وإن أجهض نجاجها الأولي من أجهضه في آخر مراحل تلك الحرب، بحيث أصبحت فئات من الجيش الصهيوني غربي قناة السويس. وهذا ما عبَّر عنه بطلٌ في رسالة بعثها إلى أمه من الجبهة قائلاً: أمَّاه إن كنت لم أكتب فمعذرةً يد الأسى حطَّمت في كفّي القلما ماذا أقول؟ دخان الحزن يخنقني يغتال في شفتيَّ النطق والكلما بالأمس حدَّثت عن نصرٍ أحقِّقه وعن سنا أملٍ من حوليَ ارتسما عن جيشي الحرِّ يصلي المعتدي لهباً يجتاز كل حصون البغي مقتحما عن جحفلٍ سوف يمضي في تقدُّمه مهما تكبَّد من هولٍ وبذل دما حتى يعيد إلى الأقصى هُويَّته ويسقي الذلَّ نذلاً دنَّس الحرما واليوم ماذا أرى؟ وضعٌ يمزِّقني يبثُّ في مهجتي الأحزان والألما توقَّفت طلقات النار عاد إلى مجاهل الصمت صوتٌ ضجَّ واحتدما والقدس ما زال محتلٌّ يدنَّسها وغاصبٌ في حماها يرفع العلما وعدت أبحث عن حلٍّ يقدِّمه من صبَّ فوقيَ من ويلاته ضرما وعن وثيقة تخليصٍ أوقِّعها في خيمةٍ جرحت من أمتي الشمما وماذا عن إحدى لاءات الخرطوم، التي أعلنت في ذلك المؤتمر المرحوم؟ أمس قالوا: لا سلامْ مع أعداء العروبة وأنا اليوم أغنَّي وأزمِّر لاقتراحات السلام أمس قالوا.. أمس قالوا.. كل شيء قيل بالأمس تغيَّر كل ما قيل أساطير تكرَّر وأنا الغارق دوما بين أسطورة جدَّه حينما كنت صبيا وأساطير كبارٍ مستجدّه بعدما ودَّعت أيام الطفوله كلُّ ما في الأمر أني كنت أصغي للأساطير فأطرب وأراني الآن أصغي للأساطير فأعجب *** أجل. كان بين اللاءات الثلاث في مؤتمر الخرطوم الأول: لا سلام مع الكيان الصهيوني المحتل. لكن مرور الأيام، ونتيجة لخرق السفينة بإخراج أعظم دولة عربية من ميدان المواجهة العسكرية مع ذلك الكيان، تغيَّر شعار: لا سلام مع الصهاينة المحتلَّين إلى شعار مؤدَّاه: لا حرب مع العدو الإسرائيلي. ذلك أن القادة العرب في مؤتمرات قمَّة متعددة قرروا أن السلام مع الكيان الصهيوني المحتل خيار استراتيجي لهم من دون أن يشيروا - مجرَّد إشارة - إلى أن الحقوق العربية المشروعة إذا لم تحقَّق بطريقة سليمة، فإن خيار استعمال القوة متاح ومشروع.. وعدو اغتصب الأرض بالقوة العسكرية، بانياً فعله على أساس أيديولوجي واضح؛ هل يخطر ببال عاقل أنه ينسحب منها من دون ثمن فادح؟ قد يقول قائل: إن الصهاينة انسحبوا من الأراضي التابعة لمصر بطريقة سلمية. ومن المعلوم أن زحزحة قواتهم من خطوطهم العسكرية المنيعة لم تتمَّ إلا بعظمة استبسال أبطال الجيش المصري، وأن انسحابهم من صحراء سيناء كان ثمنه أموراً أهمها إخراج مصر - بكل ثقلها الإنساني والعسكري - من ميدان المواجهة. وكان ذلك الإخراج أعظم انتصار للصهاينة، إذ ما قوة العرب من دون قوة مصر؟ ومن تلك الأمور أن الكيان الصهيوني بدلاً من حصوله على بعض إمدادات الطاقة من إيران الشاه أصبح يحصل عليها من مصر. وفوق هذا وذاك كان خرق السفينة الذي أدَّى إلى اتفاقية كامب ديفيد، بداية شلل القوة العربية أمام جبروت القوة الصهيونية، وبداية تحطُّم معنويات القادة العرب، بحيث أصبحوا يتقبَّلون ما رفضه أسلافهم من استمراء للتنازلات تلو التنازلات. والظروف التي تحيط بانعقاد مؤتمر الخرطوم الجديد من أسوأ الظروف التي مرَّ بها العرب، إن لم تكن أسوأها. ومعالم هذا السوء واضحة كل الوضوح أمام الجميع.بل إنها أسوأ من الظروف التي عقد فيها مؤتمر قمَّة بيروت الذي كان انعقاده قبل عدوان المتصهينين على العراق واحتلالها. ولقد نشر كاتب هذه السطور مقالة قبيل انعقاد مؤتمر قمَّة بيروت عنوانها: (بين يدي مؤتمر القمة.. حقائق وآمال) (الجزيرة 11-1- 1423ه). وبعد ذكر حقائق عشر اختتمت المقالة بالقول: الآمال من مؤتمر القمَّة أن يرى المواطن العربي موقفاً إيجابياً فعَّالاً لقادة أمته. وفي طليعة ما يؤمله من هؤلاء القادة: 1- الإصرار على وجوب انسحاب الصهاينة من الأراضي التي احتلوها عام 1967م بما فيها القدسالشرقية قبل أن يتم أيُّ سلام معهم. 2- الإصرار على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو أمر سبق أن أقرَّته الأممالمتحدة. 3- عدم اتخاذ أيّ خطوة تؤدِّي إلى إيقاف المقاومة الفلسطينية الباسلة أو تقود إلى تثبيط همم المقاومين. 4- امتلاك الشجاعة بأن يصفوا تلك المقاومة التي يغسل من خلالها أبطالها عار ذلّ الأمة بدمائهم الزكية، بما هي عليه حقاً، وأن يردُّوا على كل من وصفها - كائناً من كان - بأنها حركة إرهابية. 5- دعم المقاومة رسمياً مع إتاحة الفرصة لأفراد أمتهم أن يدعموها شعبياً. 6- عدم الاستمرار في الانخداع وراء حلول أثبتت الأيام استحالة تحقُّقها إلا على حساب حق الأمة وكرامتها. 7- البدء باتخاذ إجراءات فعَّالة يقدّر أعداء الأمة نتائجها المؤثِّرة، فتسهم في جعلهم ينصتون إلى صوت الحق والعدل. 8- إدراك مدلول المثل الشعبي القائل: (ما جار راسك جار رجليك)، بحيث يقف الجميع وقفة صمود ضد أيِّ جهة يمكن أن تعتدي على إحدى الدول العربية بحجةٍ من أدلة بطلانها عدم تطبيقها على دولة الصهاينة. ما الذي تحقَّق من تلك الآمال؟ الإجابة عن هذا السؤال يعرفها كلُّ متابع للأحداث. ولقد قال شاعر جاهلي: ألهى بني تغلب عن كلَّ مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم فهل لكاتب هذه السطور أن يقول: يحار فكري بين القال والشوم والعُرْب ما بين خرطومٍ وخرطوم هذاك أنعش آمالاً محطَّمة حتى بدا سيف عزمي غير مثلوم وذا تراقبه الأبصار شامخة للّه وهُج أسى في الصدر مكتوم وفَّق الله الأمة، قادة وشعوباً، إلى ما فيه خيرها ورفعة شأنها.