اليوم السبت 26 - 6 - 1427 ه تمرُّ سنة على مبايعة الملك عبدالله بن عبد العزيز، لمس خلالها المواطن إنسانيته من خلال حرصه - حفظه الله - على مصالحه وتوفير سبل الحياة الكريمة. وتجلَّت هذه الإنسانية في زيارته القصيم عندما أبكاه منظر ضحايا الإرهاب (الأيتام الذين قتلت آباءهم يد الغدر والإرهاب) وأدرك - حفظه الله - أنّ التصنيف وتفريق المجتمع وإشاعة الفوضى وتشويه شخصياته من أخطر الأمور التي تذكي نار الخلاف والاختلاف، فمنع ذلك حرصاً منه على الوحدة والاجتماع .... لقد كتبت منذ سنوات مقالاً بعنوان (هذا الأمير يا ميكافيللي) حينما هبطت طائرته (الملك عبدالله - حفظه الله -) بجازان قبل الرياضوجدة بعد رحلته الدولية للاطمئنان عليها من حمى الوادي المتصدّع آنذاك، ورفض ارتداء الملابس الحافظة والكمامات الواقية من الفيروس مشاركاً شعبه المصير تطبيقاً لا تنظيراً، وسأكرِّرها هذا اليوم بعد أن أسقط مبدأ الغاية تبرِّر الوسيلة ومبدأ فرِّق تسد وهما من مبادئ ميكافييلي في كتابه الأمير للحفاظ على السيادة بطرق غير مشروعة عند الشرفاء - وكان الملك عبدالله منهم بلا شك حينما أطلق حديثه الصريح الرافض للتصنيف والحزبية وتقسيم المجتمع إلى فئات وجماعات .. مبيِّناً خطورة العجلة في الحكم على الناس وقلّة الدراية والتفتيش في ثنايا المؤلّفات والبحث عما وراء السطور لاتهام المسلمين بالإرجاء والتكفير والخروج والعلمانية والليبرالية، وغيرها مما هو منتشر بين الناس، مؤكداً أنّ تحميل الأمور ما لا تحتمل في بداياتها والقراءة العاجلة المبنية على الاستقراء الناقص ظلم وعدوان لا يليق بأمُّتنا المجيدة، قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: (من في عقله ضعف تؤثر فيه البداءات ويستفز بأوائل الأمور، بخلاف الثابت التام العاقل، فإنّه لا تستفزه البداءات ولا تزعجه ولا تقلقله فإنّ الباطل له دهشة وروعة في أوله، فإذا ثبت له القلب رد على عقبيه والله يحب من عبده العلم والأناة فلا يعجل بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه، فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش وعاقبته الندامة وعاقبة الأول حمد أمره ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها وهي الفوت فإنّه لا يخاف من التثبيت إلاّ الفوت، فإذا اقترن به العزم والحزم تم أمره) .. إنّ كلام العلماء عن التصنيف والسكوت عنه منوط بالمصلحة العامة والسياسة الشرعية فضلاً عن التثبُّت في إطلاق الأحكام وإخراج الناس من الملّة، والعلماء أنفسهم لم يسلموا من التصنيف حتى ذلك العالم الجليل الذي كتب عن مشروعية التصنيف في ملحق الرسالة بعد خطاب الملك - حفظه الله - والعذر له في أنّه يتحدث بحديث مجمل، ولا تعارض بينهما إذ حديثه حديث مؤلف ومبين غير متناول واقعاً بعينه ..، وحديث ولي الأمر - حفظه الله - حديث مشفق على أُمّته رافضاً تصنيفهم من باب السياسة الشرعية التي منحته النظر بعين تختلف عن عيون الآخرين ولسان يختلف عن لسان الآخرين، فلا خير في إذكاء نار الخلاف والاختلاف، ولا مصلحة في اتهام الناس بلا دليل في دينهم وعقيدتهم بسبب قضايا يُعد الاختلاف فيها من الاختلاف في وجهات نظر، بل إنّها من الفروع التي يسوغ الخلاف فيها، وقد اختلف السلف فيما هو أدهى ولم يصنِّف بعضهم بعضاً ولم يشكُّوا في نوايا من اجتهد، بل كان أحدهم أرحم بأخيه، يتمنى أن يجري الله الحق على لسان خصمه ليتبعه دون تكبُّر وانتصار للذات، لقد حرص الملك على جمع كلمة الأُمّة في هذه الظروف والفتن من باب السياسة الشرعية، في حين أنّ غيره من الحكام يتخذ من التفرُّق والاختلاف مسوغاً للسيطرة والسيادة والبقاء تحت مبدأ (فرِّق تسد)، ولا بدَّ من التفريق بين التصنيف الذي لا يقبل معه الحق من المخالف والرد على المخالف وبيان الحق بالدليل رحمة بالمخالف نفسه وليس تشفياً به وتشويهاً لذاته وتصنيفاً له بألقاب ومصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، أدّت إلى بروز الحزبية في واقع صحوتنا المؤلم، إنّ ولي الأمر في كلمته تلك كان على منهج النبي- صلى الله عليه وسلم-، فتعال معي إلى قول المؤرِّخ ابن الأثير عن غزوة بني المصطلق في كتابه الكامل في التاريخ (ذكرت هذه الغزوة بعد غزوة ذي قرد، وكانت في شعبان من السنة سنة ست، وكان بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أنّ بني المصطلق تجمّعوا له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما سمع بهم خرج إليهم فلقيهم بماء لهم يقال له المريسيع بناحية قديد، فاقتتلوا، فانهزم المشركون وقُتل من قُتل منهم وأُصيب رجل من المسلمين من بني ليث بن بكر اسمه هشام بن صبابة أخو مقيس بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت بسهم وهو يرى أنّه من العدو فقتله خطأ، وأصاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبايا كثيرة فقسمها في المسلمين، وفيهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته عن نفسها، فأتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستعانته في كتابتها، فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله، ففعل، وسمع الناس الخبر فقالوا: أصهار رسول الله؛ فأعتقوا أكثر من مائة بيت من أهل بني المصطلق، فما كانت امرأة أعظم بركة على قومها منها. وبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجيرٌ له من بني غفار يقال له جهجاه، فازدحم هو وسنان الجهني، حليف بني عوف من الخزرج، على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار! وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين! فغضب عبدالله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السن. فقال: أقد فعلوها! قد كاثرونا في بلادنا! أما والله {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (المنافقون: 8)! ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم! أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم! والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم. فسمع ذلك زيد، فمشى به إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك عند فراغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: كيف إذا تحدث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه! ولكن أذن بالرحيل، فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه. فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه وقال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها فقال: أو ما بلغك ما قاله عبدالله بن أبي؟ قال: وماذا قال؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت فإنّك العزيز وهو الذليل، ثم قال: يا رسول الله أرفق به فوالله لقد منّ الله بك، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوِّجوه فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً. وسمع عبدالله بن أبي زيداً أعلم النبي- صلى الله عليه وسلم- قوله فمشى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فحلف بالله ما قلت ما قاله ولا تكلمت به. وكان عبدالله في قومه شريفاً، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ، وأنزل الله:{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} (المنافقون: 1)؛ تصديقاً لزيد، فلما نزلت أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله بأذنه. وبلغ عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول ما كان من أمر أبيه النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله بلغني أنّك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنّفوه وتوعّدوه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم: كيف ترى ذلك يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: أمر رسول الله أعظم بركة من أمري). ويمكن أن نستفيد ما يلي: 1- المصطفى كان حريصاً على وحدة المجتمع وتماسكه ولذلك ارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه. 2- أخفى المصطفى أسماء المنافقين في المدينة عن أقرب الناس إليه ولم يخبر بهم إلاّ حذيفة رضي الله عنه وكان عمر يسأله هل عدّه الرسول معهم، وفي هذا مصلحة كبرى، لأنّ التصنيف يزعزع المجتمع ويفرق الاجتماع وترك قتلهم خشية كلام الناس محمد يقتل أصحابه (فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف إذا تحدث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه) ولا بد من الوقوف عند كلمة (أصحابه). 3- طوائف المجتمع المختلفة محل اهتمام ورعاية ولي الأمر، ولا يمنع من معاملتهم معاملة حسنة من باب تأليف القلوب (فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا) ولا يغفل ما فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم- معه إذ لم يلبث إلاّ أياماً يسيرة حتى مات؛ فاستغفر له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وألبسه قميصه؛ فنزلت هذه الآية:{لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (سورة المنافقون: 6) بل نهى عن التصريح بسب الأموات من الكفار لأنّه يؤذي الأحياء من المسلمين. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنّ سبّ الأموات يؤذي الأحياء، فإن شنتم المشركين فعموا. 4- المسلم رجل الأمن الأول وقد يكون نقل الخبر واجباً وبخاصة فيما يخص مصالح الأُمّة الكبرى وأمن المجتمع واستقراره لأنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- أقر زيد بن أرقم على نقله المعلومة عن المنافق بل مدحه- صلى الله عليه وسلم-، إذ أخذ بأذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله بإذنه ويؤيد ذلك أيضاً، قول السدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي- صلى الله عليه وسلم- وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه، فتكلموا وقالوا: لئن كان ما يقوله محمد حق لنحن أشر من الحمير، ثم أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أنّ عامراً كاذب وحلف عامر أنّهم كذبة، وقال: اللهم لا تفرِّق بيننا حتى تبيِّن صدق الصادق من كذب الكاذب، فنزلت فيهم {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} ونزل قوله {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} وقال زيد بن أسلم ومحمد بن وهب: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقال عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق لأخبرنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذهب عوف ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، ولا يعني ذاك أن يستغل هذا الأمر فيما يوغل الصدور من تتبُّع عورات المسلمين والوشاية بهم، وأمّا ما روي فيه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في الصحيح عن هشام قال: كنا مع حذيفة فقيل له: إنّ ههنا رجلاً يرفع الحديث إلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه. فقال حذيفة: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: لا يدخل الجنة قتات، وفي لفظ آخر نمام. فخلاف فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- وإقراره لمن نقل إليه المعلومة الأمنية، كما أنّنا لا نغفل إقرار عثمان له وعثمان- رضي الله عنه- صاحب سنّة وخليفة راشد، وحذيفة رضي الله عنه نزل حديثاً عاماً على حادثة عين لا نعلم تصوُّرها الدقيق وطبيعة الأخبار المنقولة والحكم على الشيء فرع من تصوُّره. 5- قبل التصنيف يتهم المسلم رأيه ويعذر غيره في التغاضي عن بعض الأخطاء لمصلحة مرجوة (فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنّفوه وتوعّدوه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك عنهم: كيف ترى ذلك يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له أنف، لو أمرتها اليوم بقتله قتلته. فقال عمر: أمر رسول الله أعظم بركة من أمري). وعن عمر بن الخطاب أيضاً أنّه قال: اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أراد أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما آلوا على الحق وذاك يوم أبي جندل والكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مكة فقال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا: أترانا إذا صدقناك بما تقول ولكن اكتب باسمك اللهم، قال فرضي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبيت عليهم حتى قال لي: يا عمر تراني قد رضيت وتأبى قال: فرضيت، وعمر رضي الله عنه غير مسؤول في تلك ولما صار مسؤولاً عن أُمّة محمد- صلى الله عليه وسلم- قال لا تولوا البراء بن مالك جيشاً للمسلمين خشية أن يهلكهم من فرط شجاعته وعزله لخالد بن الوليد رضي الله عنهم جميعاً من هذا الباب لأنّ في سيفه لرهقاً .. والله من وراء القصد.