أثبتت أحداث غزوة المريسيع بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث عاش الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المحنة بكل أبعادها شهرًا كاملًا إلى نزول الوحي فثبتت بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة الوحي، كما أثبتت الأحداث أن المسلمين والمسلمات أمام الحدود سواسية، مهما كان فاعلها أو فاعلتها فقد نفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حد القذف على أخت زوجه وعلى شاعره، وهناك تطبيقات تربوية غاية في الأهمية تستنبط من أحداث غزوة بني المصطلق. ثالثًا: التطبيقات العملية في أحداث غزوة بني المصطلق (غزوة المريسيع) لقد نزلت سورة النور بمنهجها الإصلاحي الاجتماعي تثبت هذه السورة عظمة الأحكام، التي وردت بها بل طبقت على الواقع، كما تثبت هذه السورة روعة المنهج في إصلاح النفس والمجتمع، وتضمنت الكثير من الأحكام والتعليمات المتعلقة بالأخلاق والاجتماع والقانون لحفظ المجتمع الإسلامي وغيره، وتؤكد سورة النور من أول آية فيها على تطبيق ما جاء فيها من أحكام وتعليمات فليست هذه السورة من قبيل المواعظ والوصايا التي يعمل بها أو لا يعمل بها، بل فرض العمل بما ورد فيها. وقد أوردت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جانبًا من هذا التطبيق فعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إن لنساء قريش لفضلا. وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا لكتاب الله ولا إيمانًا بالتنزيل. لمّا أنزلت سورة النور (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذوي قرابته، فما منهن إلا قامت إلى مرطها المرجل، فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله في كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان. أخرجه أبو داود. لذا فإن التطبيق هو الهدف الأساس من هذه السورة العظيمة، حيث ورد تطبيق حد الزنى وتغليظ عقوبته، كما ورد تشديد في عقوبة القذف واتهام الزنى بالغيب حتى لا تشيع الفاحشة بالمجتمع وارتبطت بذلك تشريعات أخرى مثل اللعان والملاعنة للتيسير على الذين يرمون زوجاتهم بالزنى ولا يجدون الشهداء ومنع الفساق من إشاعة الفاحشة في المجتمع ومطالبتهم بالدليل وإن لم يستطيعوا يطبق بحقهم أشد أنواع العذاب والخزي، كما ورد في السورة ضرورة التقيد بآداب الزيارة للمنازل التي شرع الله تعالى لما في ذلك طهرًا للنفوس وصيانة البيوت وسلامة المجتمع وضرورة التزام النساء بلباس الحشمة والتقوى وعدم تبرجهن أو إظهار زينتهن، والحث على الزواج وتسهيله حتى لا يبقى في المجتمع رجال أو نساء بدون زواج، لأن ذلك مدعاة للفاحشة. وقد أثبت الصحابة بإيمانهم العميق أنه أهم من النسب والأبوة فعندما بث المنافق عبدالله بن أبي بن سلول الفتنة بين المهاجرين والأنصار قائلًا كما أخبر بذلك القرآن الكريم (هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) فقد جاء عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي، فإن كنت فاعلًا فأمرني به، فأنا أحملُ إليك رأسه، فوالله لقد علمتِ الخزرج ما كان بها رجلٌ أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلًا مسلمًا فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبدالله يمشي في الأرض حيًا حتى أقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بلْ نحسنُ صحبته ونترفق به ما صحبنا ما بقي معنا”، ويظهر هذا الحديث مدى حبه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ومراعاة مشاعرهم فقد طمأن الصحابي عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول بأنه سيحسن صحبته، وهو ما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم فعلًا، وكان موقف عبدالله الابن موقفًا مشرفًا، حيث إنه عند وصول المسلمين مشارف المدينة تصدى عبدالله لأبيه عبدالله بن أبي وقال له: “قف فوالله لا تدخلها، حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك فأذن له”. وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن التعامل مع زعيم المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول رغم ما حاك في غزوة المريسيع من كيد للمسلمين، ولا سيما الحادثة التي ألمت بالبيت النبوي وهي حادثة الإفك فقد تولى كبرها وإشاعتها بين الناس بقصد النيل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل بيته الأطهار، كما عمل على بث الفتنة بين المهاجرين والأنصار بل بين الأنصار أنفسهم، ومع كل ذلك يظهر النبي صلى الله عليه وسلم القدوة في العفو، فقد بلغ القمة السامقة في العفو والصفح، كما بلغها في كل خلق من فواضل الأخلاق ومكارمها. فتأملوا هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عند وفاة هذا المنافق فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما توفي عبدالله بن أبي بن سلول، جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصليّ عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما خيرني الله فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة). وسأزيد على سبعين” قال: إنه منافق؟! فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل (ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره). زاد في رواية: فترك الصلاة عليهم. وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن أبي بعد ما أدخل قبره، فأمر به فأخرج، ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه. أرأيتم كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع زعيم المنافقين حيث أهدى لابنه عبدالله قميصه ليكفن والده فيه ولتطيب نفس عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول الصحابي الجليل الصادق في إسلامه عكس والده، هذه الأخلاق العظيمة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم التي أثبتها القرآن الكريم قال تعالى (وإنك لعلى خلق عظيم) تلزم العلماء والتربويين إيصالها إلى أبنائنا وبناتنا، بل وأين العلماء والمؤرخون من هذه المواقف العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وتعددت الدروس التربوية من هذه الغزوة المباركة، حيث كانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها وكان اسمها برة كانت بركة على قومها فحين سمع المسلمون خبر زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيديهم سبايا من قومها قالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقوهم جميعًا ولهذا تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فما نعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، وأسلم قومها جميعًا وعاشت رضي الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفت سنة ست وخمسين من الهجرة رضي الله عنها، وخلال عمرها المبارك استفاد منها المسلمون دروسًا تربوية متعددة فقد كانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، القانتات الصابرات في مجال مناجاة الله تعالى وتحميده وتقديسه وتسبيحه، فهذه أم المؤمنين جويرية تحدثنا عن ذلك فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. فقال: “مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟” قالت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد قلتُ بعدكِ أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته”. وفي هذه الغزوة المباركة يسر الله على المسلمين وفضلهم على غيرهم من الأمم فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعلت الأرض كلها مسجدًا، وجُعِل تربتها لنا طهورًا...” حيث نزلت الآية التي ذكر فيها التيمم في هذه الغزوة فقد روى البخاري حديثًا خاصًا بآية التيمم فعن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدًا فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال حبست الناس في قلادة فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني وقد أوجعني ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). أي: أن هذه الآية نزلت بالبيداء. وقال أسيد بن الحضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم، والبيداء التي ذكرتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لازالت بنفس الاسم وبدايتها بعد ذي الحليفة (العقيق) ثم البيداء ثم ذات الجيش (التي بات بها الجيش عند رجوعه من غزوة المريسيع التي فقدت بها قلادة عائشة رضي الله عنها)، وبعدها جبيلات مفرحات (ثنايا مفرحات) وقد يطلق على كل من ذات الجيش والبيداء اسم واحد هو البيداء عبارة عن ساحات واسعة تصل إلى وادي العقيق. مما سبق يتضح عظم الأحداث التي وردت في هذه الغزوة المباركة -رغم قصرها- كما اتضحت كيفية المعالجة الحكيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك الأحداث والتطبيقات العملية الميدانية لما ورد فيها من أحكام.