يطلق على غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق، حيث تنسب إلى المكان أحيانًا، وهو المريسيع وتنسب إلى القبيلة أحيانًا وهم بنو المصطلق قبيلة من خزاعة، ورئيسهم الحارث بن ضرار الخزاعي، والمريسيع عبارة عن عدة آبار ماء، وتقطن قبيلة بني المصطلق حولها، ويقع المريسيع في منخفض من واد سحيق يطلق عليه حاليًا وادي ستارة، ولازال الموقع بهذا الاسم، وهو مكان منخفض في بطن الوادي، وتحيط به من الشرق والجنوب الشرقي سلسلة من الجبال المتصلة والمرتفعة ومن الغرب بعض الجبال، وسكن بني المصطلق في بطن هذا الوادي حول جبل صغير أقرب إلى الأكمة، فموقعهم غير آمن لأنهم لا يراقبون من يقدم إليهم من أي جهة من الجهات، ويزيد ذلك أن من يحتل الجبل الصغير يسيطر على القبيلة سيطرة تامة، فكلمة (غارون) التي أوردها البخاري ومسلم في هذه الغزوة هي الكلمة المناسبة لموقع بني المصطلق، حيث أورد البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر وهو شاهد عيان حضر الغزوة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أغار على بني المصطلق، وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية). وغارون تعني أن الغزوة وقعت دون إنذار، وفي غفلة منهم، حيث بوغتوا واضطربوا ولم يتمكنوا من المقاومة طويلًا، وقد وقعت غزوة المريسيع في السنة الخامسة للهجرة على أكثر روايات العلماء والمؤرخين ومنهم موسى بن عقبة وابن سعد وابن قتيبة وابن القيم وابن حجر وابن كثير. أسباب غزوة المريسيع وبعض أهدافها: - القضاء على حشود بني المصطلق قبل تعرضهم للمدينة المنورة، حيث بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن بني المصطلق يحشدون جموعهم في منطقة المريسيع للهجوم على المدينة والقضاء على النبي -صلى الله عليه وسلم- لذا أسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليأخذهم على غرة. - سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيس المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزًا منيعًا من نفوذ المسلمين إلى مكة، كما أنها حاجز لمنع انتشار الإسلام. - تأييد هذه القبيلة لقريش واشتراكها معها في معركة أحد ضد المسلمين التي سبقت غزوة المريسيع. - يطلق على جميع غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحرب العادلة أي: حرب دفاعية لا عدوانية، تستهدف تحقيق سلم دائم، وتحترم حياة وأملاك أبرياء، وتعامل الأسرى والرهائن بالحسنى، حيث إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقاتل عدوًا إلا مضطرًا لقتاله، وكل غزواته كانت لرد اعتداء خارجي أو داخلي أو لإحباط نية اعتداء، كما أن من أهداف غزواته وهو الهدف الرئيس نشر العقيدة وذلك بحماية حرية انتشارها، وعدم فرضها بالقوة، ولأن الإسلام لبني الإنسان فهي غزوات لا عنصرية فيها، فليس الإسلام دينًا لقبيلة دون قبيلة، أو لأمة دون أمة، فقد قاوم الإسلام العصبية والتعصب قال تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) وطبق ذلك عمليًا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوة المريسيع عندما أثار عبدالله بن أبي بن سلول الفتنة بين المهاجرين والأنصار، حيث أخمدها -صلى الله عليه وسلم-، وكان -صلى الله عليه وسلم- يسعى إلى السلم دائمًا، فقد كان في غزوة بدر يتمنى أن تنتهي الأمور قبل الحرب، كما تم الاتفاق في غزوة الحديبية أي صلح الحديبية دون حرب وهناك اتفاقات متعددة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلتزم بها إلا إذا نقضت من الطرف الآخر. خطة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة وغيرها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته يحول دون انكشاف نياته واتجاه حركة قواته بل كان -صلى الله عليه وسلم- يحدد أحيانًا جهة مغايرة للجهة التي يريدها، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- يتحرك ليلًا في أكثر هذه الغزوات فيأمن بذلك مباغتة تامة بالمكان والزمان، لأن العدو أو القبيلة أو الجهة التي يريدها لو عرفت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قادم إليها لسارعت بالاستعداد ولاستعانت عليه بحلفائها وأنصارها لمعاونتها يوم اللقاء، ولكن مسيره بالليل يحول بينها وبين ذلك وبهذه الخطة استطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يتغلب عليها ويقضي على نياتها، ويلقي الرعب في نفوسها ونفوس القبائل الأخرى، حيث عرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه الخطة نفسية القبائل، فحاول القضاء على معنوياتها بضربة مباغتة، والتي عادة ما تتم فجرًا لأن العدو ما بين النائم أو مستيقظ غير مهيأ، علمًا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما شعر بحركة بني المصطلق أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي للتأكد من نيتهم، وأظهر لهم بريدة أنه جاء لعونهم، فتأكد من قصدهم، فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك لذا طبق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطته في هذه الغزوة أي: السير ليلًا والهجوم فجرًا. نتائج الغزوة: انتصر المسلمون انتصارًا سريعًا، وتم أسر جميع رجال بني المصطلق وسبي ذراريهم، وتم أخذ أموالهم غنائم، وكان من ضمن السبايا جويرية بنت الحارث، وقتل زوجها في هذه الغزوة وتزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد موافقتها لأنها جاءته تستعين به على مكاتبها لتحرر نفسها، وذلك ضمن قصة أوردتها عائشة رضي الله عنها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجويرية بنت الحارث، فهل لك من خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: اقض عنك كتابك وأتزوجك؟ قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تزوج جويرية بنت الحارث. فقال الناس: أصهار رسول الله، فأرسلوا ما بأيديهم، أي حرروا الأسرى دون مقابل. لذا كان زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جويرية بركة على قومها. الحوادث الجسام التي وقعت في غزوة بني المصطلق (غزوة المريسيع): تعددت الحوادث الجسام في غزوة المريسيع، ونزلت بعض سور القرآن الكريم تثبتها من تلك الحوادث: محاولة المنافقين في هذه الغزوة إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار، وحادثة الإفك، والخلاف بين زعيمي الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ونزول آية التيمم. أولًا: محاولة المنافقين في هذه الغزوة إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار خرج في غزوة بني المصطلق عدد كبير من المنافقين مع المسلمين، وكان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، ولكنهم خرجوا في هذه الغزوة طمعًا في الغنيمة. وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصرًا جديدًا ازدادوا غيظًا على غيظهم، وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نفسه وأهل بيته، فشنوا حربًا نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها، ولنترك الصحابي زيد بن أرقم، وهو شاهد عيان على الحادث الأول يحكي خبر ذلك قال: (كنت في غزاة فسمعت عبدالله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا (أي: إلى المدينةالمنورة) من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكره للنبي -صلى الله عليه وسلم- فدعاني، فحدثته، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبدالله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتك؟ فأنزل الله تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) فبعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ، فقال: " إن الله قد صدقك يا زيد ". أي أن عبدالله بن أبي بن سلول قال (والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، حيث أنزل الله تعالى (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل). وكان عبدالله بن أبي بن سلول يقصد بالأعزة حزبه من المنافقين، أما الأذلاء فهم بزعمه المؤمنون وأكد الله سبحانه وتعالى أن الأعز سيخرج الأذل ولكن العزة ليست للمنافقين بل لله ولرسوله وللمؤمنين قال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبدالله الأنصاري ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: (كنا في غزاة فكسع (أي: ضرب بالرِجْل) رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “ما بال دعوى الجاهلية". قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال: “دعوها فإنها منتنه". فسمع بذلك عبدالله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" البخاري (4907) ومسلم (2584/63)، وهذا من كمال خلقه -صلى الله عليه وسلم-. وقد مشى عبدالله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، فقال من حضر رسول الله من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه. فلما سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبي الله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أوبلغك ما قال صاحبكم”. قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: “عبدالله بن ابي” قال: وما قال؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت هو الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، أرفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه يرى أنك استلبت ملكه. ثم مشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبدالله بن أبي، ونزلت السورة التي ذكر فيها المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله بأذن زيد بن أرقم ثم قال: “هذا الذي أوفى الله بأذنه”.