ويستهجن الأنفراد.. ويقسوا في الرفض إلى الحد الذي تستبعد معه أن يكون من عطائه.. ولهذا فهو لا يجد الخير ايجابيا متكاملا إذا لم يشمل العباد ويعم البلاد قد القى بينه وبينها حجاب وهو اذن بحكم هذه الآفة معتزل للناس ممتاز منهم. وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز عن أن يتمتع بجمال الطبيعة كما يتمتع به غيره من المبصرين بل عن أن يلائم بين حياته وبين كثير من مظاهر الطبيعة على نحو ما يفعل المبصرون). ويمضي الدكتور طه حسين إلى القول:- وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز كذلك عن أن يستمتع بالحياة الاجتماعية كما يستمتع بها المبصرون (.. والدكتور طه حسين وهو يشارك فيلسوف المعرة بعاهة فقد البصر ينبع حديثه من عاطفة صادقة.. ويعبر عن احساس دقيق مدرك لأبعد خصائص المكفوفين.. لكن ومع كل ذلك فهو يسرف مع الناس في جعل تلك الآفة سبباً أولياً في هروب المعري من الحياة وتشاؤمه منها وضيقه من مباهجها.. وأتعابها على السواء. وأنا هنا لا أنكر الدور الذي تلعبه تلك العاهة.. لكن لا أتصوره بالقدر الذي تصوره الدكتور طه حسين وتصوره الناس تبعا لنهج الدكتور الذي فرض عليهم هذا الرأي تحت تأثير عاملين.. وعامل العمق أو الأصالة في المناحي الأدبية.. فهو ضليع إلى أبعد الحدود في فنه.. وهو أيضا فاقد لبصره يدرك من أمر المكفوفين فوق ما يدركه المبصرون.. وأوضح هنا أن الدكتور أدرك هذا الظلم الذي جنح إليه فيلسوف المعرى ضد نفسه.. وهو بهذا يخفف مما قره من أن فقدان البصر كل شيء في حياة المعري.. وأن كان هذا التخفيف لم يأت حرفيا إلا أ، مجيئه أكثر إشراقا.. يقول الدكتور: لم يظلم أحد قط كما ظلم نفسه ولم يكلفه أحد قط من الجهد والعناء من المشقة والمكروه مثل ما كلف نفسه نحو خمسين عاماً وإذا كان أبو العلاء المعري قد أسرف في ظلم نفسه فان هذا يضع أمامنا حقائق لا يمكن تجاهلها.. لعل من أمها نزوحه إلى التشاؤم بالحياة ومن الحياة.. وضيقه وتبرمه بدون مبرر يمكن معه الاقتناع بهذا النزوع المسرف إلى الألم. وكما قلت فقد أفضى به هذا التشاؤم وهذا الضيق الى اعتزال الحياة العامة ولزوم بيته لا يبرحها نصف قرن من الزمن وهي فترة ضخمة من العمر لا يمكن تصورها.. ولا يمكن تصور صدورها من انسان ضد آخر فضلا عن صدورها من انسان راشد عاقل ضد نفسه.. ولعل وراء هذا التصرف ما يبرره من حيث وجود حالة نفسية تفوق بقوتها المقاومة.. وصلابة الإرادة.. وإلا أي معنى لاقدام انسان بمحض إرادته وبكمال عقله على حبس نفسه في بيته لا يبرحه أكثر من خمسين سنة. وتلك العقد النفسية أن صح أن تسمى تصرفات الشاعر وليدة عقد أفضت بالمشاعر إلى رفض الحياة وتمنى الموت. قد بلغ من الضيق والضجر مبلغا لم يصله أحد من الذين عانوا الشقاء وشربوا كأس العذاب ومع أن الموت أبطأ عنه ولم يبادره في الوتق الذي بدأ يتغنى به.. ويشدوا بمقدهم.. فهنيء ولاة الميت يوم رحيله أصابوا تراثا واستراح الذي مضى وهذه التأوهات اللاهبة التي لا يبررها أي وضع من التعاسة والشقاء والمرض ربما أوحت إلى نفس المشاعر شيئا من التردد في قبولها فأنطلق يبرهن عن جدية نزعته ويحطم كل قائمة لاحتمال التمويه. ولم أعرض عن اللذات إلا لأن خيارها عني خنسنه ومع اعراضه عن لذات الحياة وعزوفه عن مباهجها الزائلة.. عزف عن الناس وأنزوى بعيدا عن مظاهر الحياة ولكي يعشى العيون الناقدة ويباعد بينه و بين احتمال انحرافه نفسيا وعدم قابليته لمواجهة العملية نفذ طريقا قاصدا لتبرير منهجه: هذا زمان ليس في أهله إلا لأن تهجره أهل حان رحيل النفس عن عالم ما هو الإ الغدر والجهل وهذا حكم جائر مخالف لأبسط قواعد ومقاييس التقييم.. وأن أخذ الكل بعيوب الجزئيات معناه عدم القبول بأي شيء يمكن تواجد النقص في جزء منه وهذا أمر بعيد المنال.. وأي الناس تصفوا مشاربه.. وتتحرك العاطفة الانسانية لدى الدكتور طه حسين على رفيق الفكر وزميل المأساة فيناشد الشاعر العطف.. ويتلمس منه الرفق على نفسه وهي مناشدة تنبع من احساس متفاعل داخل اطار نفس شفافة في احساسها. أيتها النفس الضيقة بما في هذه الحياة من شرور المتبرمة بما في هذا الناس من آثام خففي عنك ورفهي عليك فتلك طبيعة الحياة. وعلى هذه القارعة مشى مشى الجمال البزل يتكثف ضيقة مع الأيام ويضاعف تشاؤمه مع الزمن ويهرب من الحقائق بانهزامية مزيفة الأذيال وخلف عجاجة تثيرها فنياته السابحة في أفق المعرفة ليحفظ لنفسه على الأقل ولو ماء الوجبة.. لكنه لا يلبث أن ينغمس في أبعاد الشك الذي يهز رواسي اليقين ويقوض بناء المعرفة ثم يرتمي تحت كلكل الخوف يرزح تحت نيره.. حتى النعمة القاتمة بشموخها وبجمالها الفاتن وأريجها الفواح لا تملى في نظر الشاعر الا الشقاء لانها صائرة إلى الزوال والانقراض والتطلع إلى ما بعد الغد.. ثم احتمال النكسة والتعاسة لوافد الأيام القادمة يعني استمرار الشقاء. لا يغبطن أخو نعمى بنعمته بئس الحياة حياة بعدها الشجب والحسن أوقع حيا في مساءته وللزمان جيوش ما لها لجب قالت لي النفس أني في أذى وقذى فقلت صبرا وتسليما كذا وجب أن تعطيل السعادة التي تمليها النعم يعني تيئيس المناشدين للرحمة والمحاولين تخفيف الألم.. ويدرك الدكتور طه حسين هذا الاسراف في رفض احتمال القبول بانصاف الحلول ويقول: وحسبك بهذا مشيرا للتشاؤم ومسبغا للكآبة على النفس وصابغا للحياة بهذه الصيغة الشاحبة عادة.. القاتمة في كثير من الأحيان). ويمضي الدكتور في الحديث لكن عن طريق آخر أكثر التواء..وأكثر تعاطفا مع شيخ المعرة.. وكأنه أحس بنوع من القسوة.. صدرت منه لشيخه بدون مبرر.. أو قل بأكبر مبرر لكن ليس من حق الشيخ التلميذ أن ينفذ من خلاله لنقد فيلسوف المعرة. يقول الدكتور وقد كان أبو العلاء في حاجة شديدة إلى شيء من بلاده الحس وفتور الشعور يرده إلى الاعتذال في الحكم والقصد في التقدير ويصده عن الخلو في الارتياب بنفسه وبالطبيعة وبالناس). والذي تعارف عليه الناس بعد أن عرفوه أن المعري ضائق من الحياة.. وضائق بالحياة.. وضائق من الناس.. وشاك في كل شيء حتى في نفسه ومتشائم نم كل شيء حتى مما يبعث السعادة.. ومتوقع الرحيل قبل الرحيل.. ومحس بمرارة الفراق حتى في عز اللقاء.. وقد بلغ به ذلك الاسراف إلى تمنيه الموت ورضاه بالرحيل.. والى غبطة للحيوان الذي لا يفكر.. بل الجماد الذي لا يحس ولا يتحرك.. فهو يغبط الحيوان لأنه لا يعرف الخير والشر ولا يفكر فيما كان وما يكون، ولا يرجو ولا يخاف). ويعبر أبو العلاء عن نفسه تعبير من يعاني الألم ويقاسي المرارة. أنا كسير الجناح فمتى نهضت أنهضت).. ويمعن في تصوير الشقاء فيقول:- لو أمنت التبعة لجاز أن أمسك عن الطعام والشراب حتى أخلص من ضنك الحياة) ولست أعرف ماذا كان ضنك الحياة بالفعل حاصل أم أنه التشاؤم والضيق والتصور البعيد الضارب في مجاهيل التعاسة.. وحقيقة ما قال الدكتور طه حسين (لقد أنتصرت الغريزة الوحشية على الطبيعة الانسانية الاجتماعية).. تلك صورة سريعة عن التشائم والضيق في معطيات الشاعر وفي سيرته توخينا فيها الاختصار ومن أراد أن يتوسع في دراسة تلك الخصائص في سيرة الشاعر ومعطياته فبامكانه ذلك متى رجع إلى الكتب التالية: تجديد ذكرى أبي العلاء، مع أبي العلاء في سجنه، صوت أبي العلاء ثلاثة كتب مهمة من تأليف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وكتاب أبو العلاء المعري للدكتورة بنت الشاطيء تاريخ آداب اللغة (جرجي زيدان) عقيدة أبي العلاء.. حسين فتوح.. تاريخ أبي العلاء.. محمد حلمي. يتبع