الحب في المعرفة ليس كالحب في العلائق الغرامية، إذ لا تجور في المعرفة علاقة حُبٍّ على أخرى. في السياق المعرفي، ليس الحب للحبيب الأول فقط، للحبيب الأول مكانة، وللثاني وللثالث...إلخ، فكل علاقة حب في عالم المعرفة هي شريان جديد ينبض بحياة واعدة لا أنسى ما حييت ذلك الشعور بالانتشاء الغامر، الذي انتفضت له كل مكامن اللذة الروحية في جوانحي؛ وأنا أقرأ بما يُشبه همسات العشاق الخافتة في حرم الغرام قصيدة المعري التي مطلعها: طَرِبنَ لضوءِ البَارق المُتعالي ببغداد وَهْناً ما لهُنّ ومَالي ومع أن بعض هذه القصيدة كان يستعصي على فهمي آنذاك، إلا أنه كان نوعاً من الاستعصاء اللذيذ الذي يُشعرك بفروسيتك من خلال محاولاتك امتلاك جموح النص المتمرد، النص الذي يحتاج لكثير من الترويض. أغراني هذا الغموض الذي يُشع إغراء، وتلك الإشارات التلميحية التي تربطني بعوالم أسطورية من تاريخ العرب، ما جعلني أشعر أن المعري حالة استثنائية في الشعر، لها ما لها، وعليها ما عليها؛ إلا أنها وفي كل الأحوال تبقى نبوءة شعر تجترح شعريتها الخاصة التي تتمايز بها عن قصائد/ معجزات الآخرين من كبار الشعراء. أبو العلاء المعري، بروحه الساحرة التي يفتح أشرعتها كاملة لرياح الحب العاتية، يُؤنسن الحيوان؛ بقدر ما يُؤنسن الجماد. أبو العلاء يمزج اللمحات الإبداعية، بل والعبثية أحياناً!، بتقاليد الشعر التي تضرب في عمق الطقس الشعري الجاهلي. ومَن ذا الذي لا يطرب وهو يسمع قوله في هذه القصيدة رابطاً بين حنين الجِمَال من جهة، وحنينه إلى وطنه الذي أثاره البارق المتعالي من جهة أخرى : وأنشَدْنَ مِن شِعْرِ المَطايا قصِيدةً وأَوْدَعْنَها في الشوْقِ كلَّ مقال مَنْ ذا الذي يسمع بهذا البيت؛ فلا يبحث بخياله المُضمّخ بأشواق قوافل الشعر السادرة في الغيّ عن قصائد المطايا، المطايا التي برّح بها الحنين إلى أوطانها، والتي يُضيفها المعري تأنسناً إلى عوالمه؛ ليجمع أشواقه إلى أشواقها قائلاً: فيا بَرْق ليس الكَرْخُ داري وإنما رَماني إليه الدهرُ مُنْذُ لَيال فهل فيكَ من ماء المَعَرّةِ قَطْرَةٌ تُغيثُ بها ظَمآنَ ليسَ بسال لا ينبعث مثل هذا الشوق من العدم. لا يتعلق في فراغ العلاقة الأولى. الحنين إلى الأوطان ليس بُعداً أحادي الاتجاه. الراهن زمناً ومكاناً هو ما يحدد قيمة الماضي زمناً ومكاناً. والمعري لم ينزف شوقاً إلى بلده (المعرّة) إلا لأن بغداد ضاقت به أو ضاق بها. قبل أن تطأ قدمه بغداد كان يراها وطناً. أليس هو الذي طالما اشتاق إلى بغداد، بل وصرّح في إحدى رسائله أنه كان ينوي الإقامة الدائمة فيها، وأسف لرحيله عنها شعراً ونثراً. لا ريب أن ما جرى له في بغداد، إضافة إلى حساسيته الشديدة تجاه ما جرى له، كان له أثر أصيل في هذا الشوق النازف حنينا إلى وطنه الصغير في أقصى بلاد الشام. الوطن كرامة؛ يوجد أينما وُجدت. وكما قال المتنبي:" وكل مكان يُنبت العزَّ طيب ". رغم أن المتنبي كان أستاذ المعري في مسألة استشعار الكرامة، ورغم أن المتنبي نافح عن كرامته بما يشبه الجنون على مستوى الشعر وعلى مستوى الفعل؛ إلا أن المعري كان أصدق وأعمق منه في هذا الاستشعار الإنساني العميق. فإذا كان المتنبي رضي لنفسه أن يستجدي بالمديح، وقبل أن يأخذ العطايا جزاء أكاذيب يُنمّقها شعراً عبقرياً، فإن المعري كان صارماً في هذه المسألة إلى أبعد حدود الصرامة. المعري لم يمدح قط لأجل العطايا، ولم يقبل من أحد شيئاً. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت بغداد تضيق به أو يضيق بها، إذ نفذ المال القليل الذي أحضره معه من المعرة، ولم يقبل من أحد شيئاً، حتى ولو كان أقرب صديق. وبهذا أصبح وجهاً لوجه مع حالتين بائستين: مع الفقر المدقع الذي تحرسه كرامةٌ لا تعرف المساومة، ومع المعاملة السيئة التي تسبب له بها تعصُّبه الشديد للمتنبي في مجلس الشريف المرتضى. ولهذا يقول في هذه القصيدة مخاطبا معارفه في بلاد الشام: أإخْوانَنا بينَ الفُراتِ وجِلّقٍ * يدَ اللهِ لا خَبّرْتُكمْ بمُحال أُنَبّئُكمْ أنّي على العَهْدِ سالم * ووَجهِيَ لَمّا يُبْتَذَلْ بسُؤال وأنّي تيَمّمْتُ العِراقَ لغَيرِ ما * تيَمّمَهُ غَيْلانُ عِندَ بِلال ف( غيلان= ذو الرمة) رغم كونه من الشعراء الذين يحتفي بهم المعري شعراً، إلا أنننا نجده هنا يحط منه سلوكاً، وكأن المعري يرى أن ذا الرمة وأمثاله من الشعراء لم يعطوا الشعر حقه؛ إذ جعلوه مبتذلاً في سوق المديح الرخيص. ولهذا يحرص المعري على أن يتمايز بسلوكه عن سلوك بقية أفراد القبيلة الشعرية. بل يطرح المعري هنا مسألة سلامته بوصفها مسألة مرتبطة بألا يسأل أحداً، وأنه قد مضى منه عهد شهد عليه الأقربون. إذن، سلامته كإنسان، تتحدد في سلامة كرامته التي يجب ألا تُبتذل بسؤال. ومن هنا يظهر المعري كامتداد متجاوز للمتنبي الذي وضع ببيت قاعدة الكرامة، وذلك في قوله: يَهُون علينا أن تُصاب جُسُومنا * وتسلمُ أعراضٌ لنا وعقول هكذا نرى كيف أن (القلوب) على أشكالها تقع، إذ من الواضح أن الإغراء الذي وجده المعري في المتنبي لم يكن إغراء شاعرية فحسب، وإنما كان إغراء شخصية معرفية تضع مسألة كرامتها فوق كل اعتبار. نقول هذا، رغم أن المعري يرى أن شعر المتنبي هو الغاية القصوى، هو الأفق الذي يعكس حالة (الإعجاز الشعري). ولهذا سمّى شرحه لديوان المتنبي ب(مُعجز أحمد). لا شك أني وقعت في أسر إبداع المعري، كما وقعت في أسر إبداع المتنبي من قبل. الحب في المعرفة ليس كالحب في العلائق الغرامية، إذ لا تجور في المعرفة علاقة حُبٍّ على أخرى. في السياق المعرفي، ليس الحب للحبيب الأول فقط، للحبيب الأول مكانة، وللثاني وللثالث...إلخ، فكل علاقة حب في عالم المعرفة هي شريان جديد ينبض بحياة واعدة. لم يكن المعري هو ديوان(سقط الزند) فقط، خاصة وأن صديقي قد أحضر لي مع هذا الديوان ديوان المعري الآخر (اللزوميات). واللزوميات كانت شعرا مختلفاً عن شعر سقط الزند، فهي لم تكن شعراً تقليدياً من ناحية المواضيع التي تطرقها، ولا النفس الشعري الذي تسير فيه، بل كانت أكثر من عشرة آلاف بيت في التفلسف الفكري والاستعراض اللغوي. لم تكن الإشارات العابرة التي قرأتها في بعض الدراسات، وفي كتبت التراجم، تغري بهذا الديوان (= اللزوميات). وفعلاً، كانت قصائد الديوان باردة بدرجة برودة الفكر التأملي المتشائم عند المعري. ورغم هذا البرود الذي صدمني، فقد شدني العنوان الفرعي الذي وضعه المحقق، إذ كتب العنوان هكذا( اللزوميات لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبي العلاء المعري). وهذا إطراء لم تستوعبه ذائقتي التي لم تقرأ في الفلسفة آنذاك شيئاً ذا بال. كنت أعرف من خلال كتب التراجم التي أدمنتها في تلك الأيام بعض فلاسفة الإسلام معرفة عامة، كنت أعرف أنهم رجال فكر دقيق ومعقد، وأنهم مُتّهمون في عقائدهم، وأذكر أنني قرأت عينية ابن سينا في وصف الروح، ولم أتبين معانيها بوضوح، ورغم هذا نسختها وحفظتها. لهذا كانت إشارة محقق اللزوميات إلى أن المعري شاعر الفلاسفة وفليسوف الشعراء إشارة تحمل جملة من التوقعات. ولعل أهم هذه التوقعات هو أنني بت أتوقع أن أجد في الكتاب/ الديوان كلاماً معقداً ككلام الفلاسفة. وهكذا دلفت إلى ديوان اللزوميات بتصور مسبق نوعاً ما. وهو تصور لم يكن بعيداً عن واقع الديوان بطبيعة الحال. لكن، لا أنكر أن إصراري العنيد على قراءة اللزوميات من أول سطر إلى آخر سطر، واستنساخي كثيراً من الأبيات التي تروق لي إيقاعاً أو معنى، جعلني أتطبّع إلى حد كبير بروح المعري التشاؤمية التي لا تفهم الحياة إلا بوصفها مشروع موت يتحقق على مهل، موت يتغذّى على رحيق الحياة الذي يتحتم عليه أن يتبخّر في صحراء العدم الأزلي، العدم بوصفه أصلاً يحكم هذا الوجود بكل ما فيه. وكما تتبعت تراجم المتنبي؛ تتبعت أيضاً تراجم المعري، ورأيت كيف كان المعري يُطبّق فلسفته التشاؤمية (وهي التي تركت فيّ أعمق الأثر) على نفسه بكل قسوة، وبكل إصرار، وبإرادة من فولاذ. وإذ أتذكر الآن تلك الأيام التي تماهيت فيها مع المعري إنساناً وشاعراً ومفكراً؛ فإنني أتذكر كيف ترسخت فيّ قناعاته التشاؤمية، وتحديداً فيما يخص مسألة التناسل الإنساني (= هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد)، وكيف أقنعني المعري بأن الإنجاب مسألة عبثية مأساوية من ألفها إلى يائها. فالمعري يُصوّر أفراد الجنس البشري وكأنهم مجرد موظفين أغبياء عند مدير شركة الفناء: الموت، هؤلاء الأغبياء مُهمتهم أن ينجبوا، ويحتضنوا، ويحبّوا...إلخ؛ ليقدموا كل هذا المنتج الإنساني بالمجان كلُقمة سائغة للموت الذي لا يرحم. ولعل المقطوعة اللزومية التي يبدأوها المعري بقوله: أتى ولد بسجل العناء فيا ليت وارده ما حصلْ كانت مما كشف لي عن مأساة الإنسان الأزلية على ظهر هذه الأرض، مأساته التي لا تتحدد فقط في كونه مشروع موت مؤجل، أي كونه مشروعاً فاشلاً منذ البداية، وإنما أيضاً في كونه مشروع حيرة فكرية ووجودية طاحنة قد تأخذه معها إلى مكان سحيق. كان (أبو العلاء المعري بين الإيمان والإلحاد) هو عنوان أحد الكُتيّبات الدعوية التي وجدتها في المكتبة الخيرية، التي كانت مكتبة مؤدلجة إلى أقصى حد، فكان من الطبيعي أن تزخر بمثل هذه الكتب. الغريب أنه هذا (الكتيب) الدعوي الوصائي أغراني بالمعري بدل أن يتسبب في صدودي عنه. ولهذا شرعت في البحث عن الدراسات التي تتناول المعري. وهنا يأتي أبو التنوير العربي: طه حسين كدارس تفاعل مع المعري بروحه؛ قبل أن يتعامل معه بفكره. وقد وجدت في المكتبة العامة كتابه عن المعري الذي تقدم به إلى جامعة القاهرة كرسالة علمية قبل سفره إلى فرنسا، فربطني بالمعري أكثر فأكثر؛ لأنه كان وعلى امتداد فترات حياته من عشاق المعري. ولكن طه حسين هذه المرة ربطني بطه حسين أيضا! فبت من صبيحة اليوم الذي قرأت فيه كتابه عن المعري أبحث عن كل كتب طه حسين، بنفس الحماسة التي أبحث بها عن الدراسات التي تتناول المعري. هناك، في المكتبة العامة، وجدت له (حديث الأربعاء) بأجزائه الثلاثة، و(ألوان)، و(من حديث الشعر والنثر)، و(على هامش السيرة)، و(الأيام) تلك السيرة التي ألهمتني بقدرما أبكتني. وهكذا، ومن خلال (حديث الأربعاء) تحديداً عرفت أن هناك معركة حامية الوطيس مطلع القرن العشرين بين القديم والحديث، وأن ثمة شعراء وأدباء متحزبون، إما لهذا وإما لذاك، وأن طه حسين يعكس مسيرة الانفتاح والتجديد؛ مقابل مسيرة الانغلاق التي يقف الرافعي كأبرز أعلامها الكبار. كانت المكتبة العامة قد تم تزويدها بكتب متحررة إلى حد ما، جرى ذلك في فترة ما قبل تمدد الأخطبوط الصحوي. في الفترة الواقعة ما بين عامي 1984 إلى 1989م تقريباً كانت هذه المكتبة هي الملجأ الأهم لي (وإن لم يكن الوحيد، إذ المكتبة الخيرية كانت أكثر تجدداً بفضل مديرها الشيخ: ناصر)، إذ توفّرت على أهم كتب طه حسين، وعبدالعزيز البشري، وأحمد حسن الزيات، والعقاد، وأحمد أمين، وعلي الطنطاوي، ومحمد كرد علي، ومحمد مندور، محمد غنيمي هلال...إلخ مفكري وأدباء العصر الحديث. بل إن كتاب (الفصول والغايات) الذي زعم بعض المترجمين القدماء أن المعري عارض به القرآن (ليثبتوا عليه تهمة الإلحاد) وجدته في المكتبة العامة. وكان اطلاعي على هذا الكتاب (قراءة متصفحة، إذ وجدته مواعظ مليئة بالغريب اللغوي، بحيث بدا المعري فيه وكأنه يقوم بعملية استعراض لغوي وإبداعي) بداية أخذي بمبدأ الارتياب في الأحكام الدينية الإقصائية؛ لأني وجدت هذا الكتاب عكس ما صوّره به أعداء المعري من كُتّاب التراجم الأقدمين. الآن ألاحظ بأثر رجعي كيف دخلت إلى عالم الفكر من بوابة الأدب، مع بقاء الأدب كمركز اهتمام أصيل. قرأت ما كتبه طه حسين عن المعري، قرأته فقط لأعرف المعري شاعراً وأديباً، فقادني هذا الخيار الأدبي العابر إلى قراءة طه حسين ككل. وطه حسين ليس مجرد دارس بارع للأدب، بل هو أديب ومفكر، يجمع بين هذا وذاك إلى درجة الامتزاج التام. ومعركة القديم والجديد من حيث هي معركة أدبية خالصة كما بدت في عشرينيات القرن العشرين، هي معركة فكرية/ فلسفية في أساسها، فضلاً عن كونها جدلاً إنسانياً/ عملياً على أرض الواقع. أي أنها في النهاية جدل واقعي/ حياتي يلامس تفاصيل حياة الناس. في المكتبة العامة، كما في المكتبة الخيرية، وقعت على كتب ممنوعة !، كتب من شأنها أن تُمنع؛ لو علم الرقيب بتفاصيل ما فيها. ولكن من رحمة الله بالقراء أن أمناء المكتبات فضلاً عن مدرائها لا يعرفون من الكتب إلا عناوينها، خاصة تلك الكتب التي لا تقع منهم موقع الاهتمام نتيجة كونها لا تتقاطع بشكل مباشر مع اهتماماتهم الإيديولوجية الضيقة التي لا تتجاوز حدود الطرح التقليدي. كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني موسوعة أدبية وتاريخية بلا شك. قرأته ثلاث مرات قبل الالتحاق بالجامعة، واستنسخت كثيراً من أشعاره بخط يدي، رغم التحذيرات التي كنت أقرؤها أو أسمعها من هنا أو من هناك. هذا الكتاب يخترق التاريخ الرسمي بالتاريخ الأدبي، لا يتحفظ على شيء، يورد كل ما سمع ك(حاطب ليل) كما يُقال. وكنت في تلك المرحلة محتاجاً إلى حاطب ليل يضع أمامي كل ما وجد. لم أكن بحاجة لمن ينتقي لي ما يريد مفلتراً بمعايير القيم الأخلاقية أو الهموم الإيديولوجية أو الدعاوى العلمية. كنت أريد أن أعرف ما هو الأدب المتداول في تلك القرون، كما كتبه واحد من رجال تلك القرون، بصرف النظر عن كونه يعكس أو لا يعكس حقيقة الواقع الحياتي. وهذا ما وفّره لي الأصفهاني بامتياز. كان كتاب الأغاني في المكتبة الخيرية 24 جزءاً. في أحد الأيام تم تزويد المكتبة بنسخة جديدة اشتراها مدير المكتبة ووضعها كنسخة أخرى للإعارة، ولكنها كانت 25 جزءا. وهنا تساءلت عن سر هذا الجزء الزائد؟. ولهذا استعرته، فإذا هو كتاب زائد ألحقه محقق الكتاب بالأغاني، وهو من تأليف ابن منظور استدراكاً على صاحب الأغاني. وكان هذا الجزء الملحق جزءاً فضائحياً/ إباحياً بعنوان (الإيناس في مجون أبي نواس). وطبعاً لم يوضع العنوان على صدر الكتاب، بل تحايل الناشر والمحقق ليبدو وكأنه مجرد جزء من أجزاء كتاب الأغاني. وبدون شك، لو اطلع أحد من المشرفين على المكتبة على بعض ما في هذا الجزء؛ لبادروا بإحراقه فوراً، إذ فيه من الصور الإباحية ما لا يخطر على قلب بشر، وما لا يتوقع أحد أن يخطه أحدٌ من أسلافنا الكرام بمِداد! عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988م كنت في السابعة عشرة من عمري، منهمكاً في عالم المتنبي والمعري وأبي تمام وطه حسين والعقاد. هؤلاء كانوا يملؤون عوالمي بما يشبه الأساطير، شيء من حقيقة وشيء من خيال. كانوا في نظري ومن خلال قراءاتي المتواضعة كباراً، وإن لم تتكشف لي أسرار هذا الامتياز. لم أكن قد قرأت آنذاك لنجيب محفوظ أي شيء. ولهذا عندما قرأ مذيع الأخبار خبر فوز نجيب محفوظ بجائز نوبل لم أفهم لماذا هو بالذات. حاولت في حدود بيئتي الضيقة أن أسأل وأقرأ عن: ما هو الأدب الذي أهّله للفوز بجائز عالمية؟ عرفت أنه كاتب روايات/ قصص! كانت تساؤلاتي الساذجة لا تكف عن محاسبة الجائزة العالمية، إذ كيف يفوز فيها كاتب قصص، بينما لم يفز بها أديب ومفكر بحجم طه حسين أو العقاد، رغم أنهما أبدعا واشتهرا في زمن الجائزة؟. كانت أسئلة حيرى، ولكنها تعكس الروح التقليدية التي تحكم على شيء لم تقرأه؛ مقارنة بما قرأته !. لم يغرني فوز نجيب محفوظ بالبحث عن روايته بنفس الطريقة التي تحدثت فيها عن تشوقي لديوان المعري، لم أكن قرأت له شيئاً، ولهذا كانت قيمته عندي لا تساوي أكثر من دعاية جائزة شبح، جائزة لا أدرك أبعاد قيمتها. لم أكتشف عالم نجيب محفوظ إلا بعد سنتين من فوزه، وتحديداً عندما قرأت كتاب(الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ) لسليمان الشطي. وبهذا قرأت عن نجيب محفوظ قبل أن أقرأ له. لكن، كتاب الشطي جعلني أنفتح على العالم الروائي، بحيث بت أعرف للرواية قيمتها، من خلال معرفتي بعالمها المعقد الذي لا يعطى نفسه من أول قراءة. وطبعاً، حدث هذا بالتوازي مع اهتمامي بعالم الشعر الذي بقي هو عالمي الأول، قبل أن أدخل إلى عالم نظريات النقد الحديث، وهي التي قادتني إلى عالم الفكر؛ من حيث هي بتطورها وتحولاتها صادرة عن التحوّلات الكبرى في الخطاب الفلسفي.