تحفل سورية بالكثير من الاماكن المسكونة بروح الماضي. احد هذه الاماكن مدينة معرة النعمان، وهي تقع على بعد 73 كيلومتراً جنوب حلب على الطريق العام الواصل بين حماة وحلب. ارث هذه المدينة مزيج من المدنية والهمجية في آن وهي مسقط رأس احد اعظم ابناء سورية العالم والفيلسوف والشاعر والكاتب ابو العلاء المعري الذي ولد عام 973م وتوفي سنة 1057. وهي تستحق الزيارة لأسباب كثيرة لكن ابرزها المرور بالأحياء التي عاش وترعرع فيها هذا الشاعر والمفكر العظيم. تيتم ابو العلاء في سن مبكرة وأعماه المرض في الرابعة. اشتهر بذاكرته المذهلة ونزوعه الى الشك. ولعل اكثر اعماله شهرة "رسالة الغفران". وكأن العمى والفقر لم يكونا كافيين، اذ كان المعري شاهداً على عصر من القلاقل والاضطرابات كانت فيه الامبراطوريات والأسر الحاكمة تتنافس ما بينها على السلطة منزلة الخراب والموت والدمار في سعيها الى الهيمنة. كان ذلك العصر ارضاً خصبة حافلة بكل بلاء يمكن تصوره سواء من صنع الانسان او الطبيعة. عاما 1098 و1099 ميلادي، اي بعد 42 عاماً فقط من موت المعري، اصبحت المعرة مسرحاً لاحدى المجازر التي لا يمكن ان تنسى في تاريخ الصليبيين، اذ حوصرت المدينة من قبل الصليبيين في طريقهم الى القدس ونُهبت بعد الاستيلاء عليها في حين ذُبح عشرون ألفاً من سكانها. ما يميز هذا العمل الوحشي عن سواه، ما وصلنا من روايات العرب والصليبيين كليهما عن اكل لحوم البشر الذي قامت به القوات المهاجمة. الانطباعات المرعبة التي قدر لها ان تبقى على نحو لا يمح في وعي السكان المحليين لوثت منذ ذاك الحين صورة الغزاة في عيون السكان لقرون كثيرة. فبتلك الأعمال تجاوز الغزاة مبادئ الشرف التي سادت الحياة في اوقات الحرب والسلم. وقامت الحكومة السورية بتجديد قبر المعري بعد ألف عام من رحيله تخليداً لذكرى رجل كان، على رغم ان رؤيته للعالم كانت مفرطة في تشاؤمها، يدعو على الدوام الى ان يسود الفكر والمنطق والشرف واللياقة. ومن سخرية القدر ان المعري في طلبه الكمال الروحي والقدسية لكل الكائنات الحية اصبح نباتياً في كهولته وقبل نحو نصف قرن مما شهدته بلدته من فظائع كانت ذروتها اكل لحوم البشر. ولا تزال روح المعري المتواضع تطوف شوارع المعرة وهي تنتظر الزوار الذين يمرون في شوارع هذه البلدة ويتوقفون عند المواضع التي شهدت حياة هذا المفكر العظيم الذي ترك بصماته على الحياة الفكرية لعالمه.