الشمس قابعة في الفلك ترسل أشعتها المتوهجة إلى الأرض فتزيدها حرارة وشدة والناس بين غادٍ ورائح.. كل يسرع في خطاه ولا يبالي بما يتصبب على جبينه من العرق الذي خرج نتيجة سرعته وشدة الحر فلا تخاله. إلا أن عمله مشق ومهم لتوقفه عن مسح العرق خشية أن يأخذ منه بعض الوقت: وقفت أنا وصديقي نتأمل هذا المنظر العجيب وما يبدو فيه من الحركة المستمرة والضجيج الصاخب بيع وشراء أخذ وعطاء هذا سمسار واقف وبيده بعض الشيء وهو رافع صوته كم نسوم وهذا رجل في حانوته ومعه المتر وقد أخذ بعض القماش والناس على دكانه قد تزاحموا وهم يساومونه ويطلبون منه تخفيض السعر وهو مُصر على قوله لا يلين كأنه رأى حاجتهم إليه حقاً إنه مشهد عجيب وقفنا نتأمله برهة.. قال صاحبي إنها الدنيا يلهث الناس في طلبها وصمت قليلاً يتأمل مني كلاماً ولكني اكتفيت بالسكوت فأردف قائلاً صدق محمد بن عبدالله عليه أفضل ا لصلاة والسلام إذ يقول: لا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب. قال ذلك وتزحزح من مكانه علامة الرجوع عرفت منه ذلك فسايرته ومازلنا نسير ونحن نتحدث عن أمور شتى لا تقف عند موضوع كل ذلك حتى أزفنا إلى سوق ضيق متعرج ينتهي إلى مكان واسع قال لي صديقي إنه مبيع البرسيم فشدني حبَّ الاستطلاع إلى أن أقف بين ردهاته وأنا أتأمل ما بين جانبي فلا أرى إلا كهولاً قد أكل الزمان عليهم وشرب قليلاً ما ترى ثمة رجلاً تبدو عليه سيما الشباب كل ذلك ونحن واقفون عند أحد الباعة وكان أكثرهم زحاماً وأشدهم رواجاً وذلك لموقع دكانه الاستراتيجي ولطيب برسيمه الذي يمتاز بطراوته وسلامته من الأمراض ومازلنا نتأمل بيعه حتى وكزني صاحبي بيده وهو يشير ويقول ألا تنظر إلى هذا الرجل فقلت بلا ووقفت أتأمله فإذا هو كهل قد شاب وشاخ وبانت عليه علامات الشيخوخة. من تقوس للظهر وتجاعيد في الوجه ودقة في الجسم ومازلت أكرر بصري إليه وأتمعنه فإذا صاحب الدكان قد رفع حزمة برسيم كبيرة وبواسطة تعاونه مع أحد الناس استطاعوا إنزالها فوق ظهر هذا الشيخ فرأفت له وقلت مسكين فسحبني صاحبي وخطاه متجهة إلى حيث سار الشيخ فعلمت أنه يريد متابعته فسرنا معاً ونحن نتأمله من بين الناس فلا نعرفه إلا بحزمته الكبيرة؛ لشدة الزحام حتى راعنا سقوطها وذلك لاعتراضها بأحد الناس فوقف وقد مغط ظهره، ومد عنقه وهو يتنفس الصعداء ويقول (لا إله إلا الله) ويتلفت يمنة ويسره فعلمنا أنه يريد المعونة فحملناها معه وقفلنا راجعين كل ذلك وأنا أتأمل ذلك الرجل وقد عطفت عليه وشفقت قلت لصاحبي سائلاً يا ترى من هذا الرجل فضحك ولم يجبني فكررت عليه السؤال وألححت فقال لو عرفته لازددت رحمة له على ما أنت عليه الآن. فقلت لقد عيل صبري فقل قال إن الذي ترى هو أحد أغنياء هذا البلد ومن المشهورين فيها ولكن حب الدنيا آل به إلى ما ترى. قلت: أصدق ما تقول قال كل الصدق قلت لله هؤلاء الناس ما أشد بخلهم وما أكثر طمعهم وماذا يؤملون في الدنيا وهم منها على طرفي نقيض أيريدون زيادة على ما هم عليه الآن قسما بالله إنه النقصان ولكنها سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا ومازلت أسير وأنا أردد هذه الأبيات. وَإِن دَرَّت نِياقُكَ فَاِحتَلِبها فَما تَدري الفَصيلُ لِمَن يَكونُ وإِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها فَما تَدري السُكونُ مَتى يَكونُ (*)بريدة