يلتهم خروفا في 30 دقيقة    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    «الغرف»: تشكيل أول لجنة من نوعها ل«الطاقة» والبتروكيماويات    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    القِبلة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    المدى السعودي بلا مدى    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



روايات شاهد عيان عن جزائر هذا الزمان
نشر في الحياة يوم 16 - 09 - 2002

الآن أتذكر عندما قال لي أحد الأصدقاء على التلفون مازحا عندما أعلمته بعزمي على السفر إلى الجزائر: أكتب وصيّتك قبل السفر.. في إشارة إلى احتمال سيّئ.
لحظتها داخلني شيء من القلق الذي لم أنتبه إليه. على رغم ان كلام الصديق كان مجرد مزاح.
وأنا أريد أن أروي قصة زيارتي للجزائر، ذاك البلد الاسطوري، بلد الثورة الجزائرية التي تقدمت الثورة الفيتنامية وبلد موسيقى الراي.
أجل، الجزائر معروفة عالميا بثورتها و بموسيقاها، فالراي هو الفن الوحيد الذي أنتجه العرب، و كان له هذا الصّدى، وهذا التقبل والانتشار العالمي.
واليوم صارت الجزائر شاغلة الناس بعنفها. أجل بعنفها.
ولكن من أين تبدأ الحديث عن الجزائر كما عشتها في ذاك الأسبوع الذي مرت كل لحظة منه وكأنها دهر، قلقة، كثيفة، مكتظة بالانطباعات والتأمّلات وردود الفعل، أجل من أين تبدأ؟ فأنت تكتظ بالبدايات.
تبدأ من حيث البداية، من لحظة اللقاء الأولى، من الانطباع الذي تركه فيك المطار، ذاك البناء القديم ذو المسحة الاشتراكية المتقشفة كما هو الشأن في البلدان الشيوعية، حيث أخلوا قاعات الانتظار ومنعوا الناس من دخول المطار باستثناء المسافرين، وتركوا المواطنين ينتظرون مستقبليهم وقوفا في الهواء الطلق. قال لي الرجل الذي كان يقف إلى جانبي في الطابور، ونحن نغادر المطار، عندما سألته بهدوء أبله: لماذا كلّ هذه الحشود الواقفة هناك كالمحتجزة؟ لماذا هذا الاجراء؟
قال ببداهة قاتلة: لا يتركون الناس يدخلون ، خوفا من التفجيرات العشوائيّة.
قلت في نفسي تفجيرات!؟ وأحسست بشيء من القلق، شعرت كأنّي في مصيدة.
وعادني قول صديقي على التلفون.
وتذكرت عندما سألني بوليس الحدود التونسي: لماذا أنت ذاهب إلى الجزائر؟! في لهجة تشي كأن من الغريب والاستثنائي أن يذهب الانسان إلى الجزائر. هكذا سمح لنفسه باطلاق هذا الشكل الاستفهامي الفجّ، فأجبته غائما ضبابيّا. أجل سؤال ركيك ليس له الحق في طرحه أصلا يستحق جوابا أكثر ركاكة، جوابا غامضا وغائما وغير محدد، خصوصاً لا يقول شيئا، ولكن أجدني الآن، وفي هذا الجوّ الأمني اتراجع شيئا عما اعتبرته سؤالا فجا. أنا هو الفجّ الذي يتعامل مع الواقع وكأنّه حلم.
وفي الحقيقة فان هذا القلق بدأ يساورني وبإلحاح من لحظة ركوبي الطائرة الجزائريّة التي تقلع في الخامسة بعد الظهر، والتي تأخرت عن موعد إقلاعها ساعة ونصف الساعة. كان كل المسافرين من الجزائريين العائدين إلى بلدهم. كان هناك شيء من الوجوم، ومن الكآبة، ومن الصّمت المتوتر يعلو وجوههم في ظلمة ذاك المساء التونسي. سألت مضيفة الطائرة مرتين لماذا كل هذا التأخير؟ قالت ننتظر بعض الركاب المتأخرين. قلت لها مازحاً ومخفياً غضبي: تقليد جديد، الطائرات تنتظر الركاب المتخلفين... والله تأخرت عن طائرات كثيرة، ولم تنتظرني ولا طائرة واحدة في حياتي.
بعد ذلك علمت أن الأمر يتعلق بالأمن بفحص ومراقبة العفش
قلت، أول شيء يلقاك إذن وأنت تخرج من بوابة المطارهو الجوّ الأمني المتمثل في هذا المشهد غير العادي لهذه الحشود، لهؤلاء الناس الممنوعين من دخول المطار، يقفون هناك بعيدا، في طوابير عريضة تحت مظلات بلاستيكيه على شكل أروقة، وكأنها مواقف سيارات.
أم تبدأ من الديكور الشرق أوسطي الذي يسم القاعة الشرفية بخصاصها الخشبي وضوئها الكابي الذي تجده في كل المطارات العربية تقريبا بدعوى أنه ديكور يعبر عن الشخصية الوطنية... وهو شيء فج يجعل هذه القاعات شبيهة بالتكايا الموديرن: سقوف مشغولة بزخارف شرقية، أقواس، ومعرنصات، ونجوم، وأشكال سداسية. ألوان ذهبية صارخة، كتلك التي في مطار تونس قرطاج. ألوان ذهبية محببة لهذه الطبقات الجديدة في بلاد العرب، فهي في صالوناتهم، ومطاراتهم على أساس أن المطار امتداد للصالون.
وقلت في نفسي لا، أنت لست في الشرق الأوسط، أنت في مطار هواري بومدين، على مشارف العاصمة الجزائريّة.
ولكن من أين تبدأ الحديث عن الجزائر؟ من تلك الليلة الثانية، وأنا اخرج من الاسانسير في فندق شيراتون صحبة سيمون بلومنتال الذي ركب صدفة من أحد الطوابق. كنت نفسيّا وكأنّي قد وصلت لتوّي إلى الجزائر، قلقاً. بادأت سيمون بالحديث وكأنّي أريد أن أفرغ شحنة هذا الانفعال والتوتّر اللذين تراكما سراً من تونس.
كنت إذن ما أزال منهكا ومتوتراً قلت لسيمون وقد غادرنا المصعد إلى قاعة الانتظار وسط ديكور هو مزيج من الفخامة، والذّوق الشعبي ذاك الديكور المذهب، والمستورد من تايوان والمحبب لعرب اليوم.
قلت لسيمون: كل شيء يبدو لي غريبا هنا. أنا في جزائر أخرى لا أعرفها. تبدّل المشهد البانورامي. كل المدينة، وكل العمارة الكولونياليّة تريفت، وتحولت تلك الأحياء والعمارات الفرنسية إلى شيء رثّ. ثم، ألا ترى أمامك إلى هذا الديكور الغربي، ولكن بصياغة آسيويّة، كما قلدته، وأعادت إنتاجه تايوان، وسنغافورة، وغيرهما ممّا لا أدري من بلاد آسيا، أين منه ديكور الفنادق الجزائرية الكولونيالية، اين ذوقكم الفرنسي الرهيف الذي تركتموه في هذه البلاد، بعد قرن وثلاثين سنة من الاستعمار الاستيطاني؟
ولم يجب سيمون. وكحرفي ايديولوجيا، فإنّ العمارة، والديكور هما آخر مشاغله. ولم يأت هنا لفحص وتقويم الديكورات، إن كانت كل هذه الأشياء تعني لدي أكثر من المدينة، واكثر من الديكور، تعني لي طبيعة هذه الطبقات والفئات الجديدة التي تصوغ التاريخ، ويصهرها التاريخ اليوم، في هذه العواصم العربية الكبيرة ، المتحوّلة.
وسيمون شيوعي فرنسي من العسكر القديم كما يقولون. ناضل إلى جانب ثوار الجزائر في حرب التحرير، وحوكم وسجن في فترة محاكمات حملة الحقائب الشهيرة.
وسيمون رجل سبعيني، له مسار استثنائي. كانت له مواقفه المستقلة، ففصل من الحزب الشيوعي الفرنسي مدّة عشرين سنة، وعلى رغم ذلك له قيافة شيوعي أورثوذكسي.
ويبدو أن سيمون جاء، على رغم الدعوة التي وجهت له من أصدقائه السياسيين، جاء لاستطلاع الوضع الذي كما يقول يبدو للجزائري نفسه غامضا.
وتذكرت الكلام نفسه الذي سمعته من المثقفة والمناضلة الجزائرية التي لقيتها في المركز الثقافي الايطالي. قالت ان كل ما يقع هنا غامض.
قلت لها لماذا؟ قالت لأن المعركة يقودها الجيش، ولا أحد يعرف مايقوم به الجيش. وكل ما تسمعه هو رجم بالغيب.
قلت لها: على رغم كل هذه الكتابات التي تزخر بها صحافتكم اليومية؟
قالت هي اشاعات، عوض ان تظل على ألسنة الناس تركوها تظهر على الورق.
وهم يستفيدون من ذلك مرتين: مرّة ببلبلة الرأي العام، ومرّة بمعرفة مايدور على ألسنة الناس.... ولم أفهم.
وازداد قلقي من العنف العشوائي.
ولكن حسم هذا القلق صديق عضو في المجلس الوطني الجزائري، عندما ابديت له رغبتي في التجول في المدينة القديمة لوحدي، كنت أريد أن أذهب الى القصبة فقال لي: لا... لا انصحك بالذهاب الى القصبة.
قلت لماذا؟ ألم تقل لي سابقا وأنا في تونس أن الحياة عادية في العاصمة!
أجاب: صحيح، ولكن هناك بعض المناطق الساخنة. خاصّة القصبة. وعقّب: "ثم لا تنس أنت صحافي، والجماعات تستهدف الأجانب، خصوصاً الصحافيين لما يكون وراء هذه العمليات من ضجيج اعلامي".
فقلت في سرّي ما شاء الله!
ولكن على رغم ذلك ذهبت في اليوم التالي إلى القصبة.
بدأت رحلتي من فندق "إيلتّي" تلك التحفة المعمارية الذي عرف مجده ايام نزله تشارلي شابلن، لكن كل ما فيه اليوم يشهد على مجد تالد ومررت في شارع يوسف زيغوت، وليس زيغوت يوسف على طريقة اخواننا الجزائريين في تقديم اللقب على الاسم، على أساس القراءة على الطريقة الفرنسية من اليسار إلى اليمين.
ومرّة أخرى شعرت بحزن، وأنا أجول في تلك الشوارع، وأتطلع إلى كل هذا الثراء المعماري الكولونيالي، الذي يذهب في الاندثار. فمدينة الجزائر فيها من الثراء المعماري ما يفوق كل مدن شمال افريقيا مجتمعة. والجزائر عامّة هي خزين لهذا التراث المعماري الغربي. والطالب الذي يدرس فن المعمار يجد في هذه المدينة كل طرز وأساليب ومدارس فن المعمار الغربي منذ عصر النهضة في إيطاليا، إلى اليوم: من الباروك، إلى الآرديكو، إلى الآرنوفو... إلى، إلى. وقلت في نفسي لماذا لا تصنف كل هذه البنايات كتراث معماري، يصان ويحافظ عليه..
ولكنها مأساة القاهرة أيضا، وتونس، وطنجة وإن كان المغرب وتونس تنبها للصيانة، صيانة التراث الكولونيالي أيضاً.
بيد أن مأساة العاصمة الجزائرية تفوقها فهي المدينة الأكثر ثراء معمارياً، والأكثر ترييفاً. فيها معالم هي معالم باريس القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين في الحقبة الجميلة... وما بعدها.
يا إلهي ماذا فعل الجزائريون ببلدهم؟! ولماذا كل خلق الله تدخل المدن فتتمدّن إلاّ نحن ندخل المدن فنريفها.
وأوغلت في الطريق ، كان الميناء على يميني لماذا ذكرني، وبلمحة بميناء هامبورغ القديم، لولا هذا الطلاء الأبيض... ولولا النظافة.
وتقترب من ساحة الشهداء: غابة من البشر، بياعو أشرطة غناء، عربات متجولة تبيع كل شيء، كتب قديمة مطروحة على الأرض، عطور، كتب أدعية، مسابح، رزمة من أعواد الإراك. بشر... بشر... بشر: يقفون هنا وهناك في الساحة، وفي الزوايا، وبين السيارات الرّابضة.
وتتذكر الممثل الجزائري البارع فلاّق، واسكاتش الحيطيست، وهم الناس التي تظل طوال النهار والليل متكئة على الحيطان، في رمز درامي للبطالة، إلى أن يتعب الجدار ويعود آخر الليل إلى بيته.
وتوغل في الدرب الذي يصعد الى القصبة في اتجاه جامع كتشاوة. درب متعرجة هي سوق مكتظة، على جوانبها أزقة ضيقة بأسماء الشهداء الذين سقطوا هناك قبل أكثرمن أربعين سنة..
كل العالم هنا بالجلابيات الشرقية، لا أحد باللباس الجزائري. لا بدّ أنّها "مايد إن شاينا". وعادني الاحساس الأوّل، وأنا أدخل الجزائر. هل أنا في الشرق الأوسط، في احدى حواري القاهرة القديمة؟ لا.
أين اللباس الجزائري التقليدي؟! أين تلك البزّة التي نراها في بطاقات البريد القديمة، وفي صور رجال الأمير عبدالقادر الجزائري. العمة البيضاء المرتفعة، والبرنس المعقود من الصّدر، ذاك اللباس الذي يجمع بين النبل والفروسية.
مستوردة من الشرق
وأنا أقترب من ساحة السوق الكبيرة قرب جامع كتشاوة سألت تاجراً يقف أمام دكانه أين مقام سيدي عبدالرحمن الثعالبي؟ كنت أعرف أن المقام في أعلى القصبة، ولكنني لم أعد أستدلّ المكان بالضبط، أجابني الرجل، وبعدما سمعته يصرخ على زميل آخر له في الداخل: هل تعرف مؤسسة الثعالبي؟! ثم التفت إليّ مباشرة: لا توجد هنا مؤسسة الثعالبي!
وبلعتها، وواصلت طريقي وسط الزحام.
وبعدما سرت خطوات، أردت أن أقوم ثانية بالتجربة نفسها فسألت تاجراً آخر تقصدت أن يكون مثل الأوّل صاحب دكان، أي من المقيمين في المكان. قلت: هل تعرف سيدي عبد الرحمان الثعالبي؟ أجابني فورا: لا أعرف، لا أعرف رجلا بهذا الاسم في هذه المنطقة..
في تلك اللحظة أحسست أن هؤلاء الناس الذين يتحركون حولي بهذه الجلابيات المستوردة من الشرق لا علاقة لهم بالمكان، ولاعلاقة لهم بالدين التقليدي، بالمرجعيات التقليدية، فالدين لديهم ملجأ وهويّة، وغضب طبقي. وأن الأمر لايختلف كثيرا عما هو في تونس، اذ اغلب هذه التيارات الاسلامية قادمة من خارج الزيتونة. جاء بها التاريخ، ولم يأت بها الاسلام.
إن هذه الحركات شبيهة في ملامحها النفسية والاجتماعية بحركات اليسار، لولا أنها تتكلم لغة الدين.
ولكن لا شيء غير عادي في القصبة، هناك الملمح العام للأحياء الشعبية العربية. قرب جامع كتشاوة تكثر المكتبات التي تبيع الكتب العربية التراثية. وتقصّدت البحث عن أسماء محددة: ابن رشد، ابن سينا، الفارابي، اخوان الصفا، كتب التاريخ المعروفة، كتاريخ ابن خلدون ، أو كتب الأدب، كالأغاني. لا، لا شيء من كل هذا. العناوين المتوافرة هي: "أهوال القبر والآخرة"، "مشاهد القيامة"، "السحر الأسود"، "تنبيه الغافلين" لرجل عاش قبل قرون اسمه السمرقندي، فهو منتبه ونحن نيام ، وهو الذي سيوقظنا من غفلتنا بعون الله، ويقود خطانا في أوائل هذا القرن الواحد والعشرين، وحتى بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر. والأدهى، وهنا لا أمزح، وجدت كتابا في احدى هذه المكتبات بحجم الجيب ملونا عنوانه "دليل المسلم"، يحتوي هذا المجموع على أدعية وتوسلات. وهو من طبع دار نشر في قسنطينة. فتحته أتصفّحه فإذا بي أقرأ: نصيحة للمسلم كيف يشتري عبدا أثناء السفر وليعذرني القارئ مرّة أخرى فأنا لا أمزح. ولا أدري لماذا فكرت، وبشكل سوريالي أيضاً في تلك اللحظة في ترانزيت مطار جون كينيدي في نيويورك. وانسان ما يبحث عن عبد في الأسواق الحرّة ليشتريه!
رجل آخر، شاب في الثلاثينات كان يقف أمام أحد المطاعم بجلابيته، وبيده سندويتش، بادرته: السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
سألته أين محل التلفونات، فأشار بيده عبر الشارع، وأنا أتبعه بالنظر، قال:
- إنه هناك يا أخا العرب.
هكذا بلسان عربي جاهلي.
ولكن، هؤلاء الناس اذا ما اقتربت منهم، واطمأنوا إليك، ستكتشف شيئا آخر. تلاحظ الارهاق والانكفاء على الذات، والاستسلام القدري للوضع في أغلب الحالات، وباختصار هناك عزوف عن أيّ مشاركة في الحياة السياسية. هذا ما شعرت به، وهو ما أكّده لي الصديق الكاتب، والصحافي الذي التقيته صدفة قريبا من الجامعة، بينما كنت في طريقي الى مكتب جماعة الاختلاف، وهم جماعة من الشبان الراّئعين.
قال: مشكلة الحكومة اليوم هي أن الناس صارت غير معنية بها، ولا بأيّ شيء. الناس انسحبت ولم تعد تهتم.
بعدها بأيام، وأنا في غرفتي في الفندق، في مدينة قسنطينة، سمعت ضجيجا كبيراً يأتي من الشارع بدأ يقترب بقوّة. فخرجت إلى النافذة" واذا هي مسيرة لحركة السلم. كان أول ردّ فعل أنك في الغرب. فلم نتعود في العالم العربي الاّ على المسيرات التي يسيرها الحكام طبعا لتأييد بقائهم في الحكم وهو أضعف الأيمان، أو على التظاهرات التي تقمع بشراسة، وبلحظة شعرت بشيء من الفرح. ولكن عندما تأملت أكثر لم يكن العدد يتجاوز المئة، وتأكد لي مرة أخرى قول الصديق القاص، والصحافي بأن الناس عازفة عن أي مشاركة.
قلت في نفسي لهذا سمحوا بالتظاهر لأنّ الناس لا تريد التظاهر. لم تعد تريد الخروج، ولا المشاركة.
إنّه العصر الذهبي لإيديولوجيا البحث عن الخلاص الذّاتي.
البنت التي التقيتها في المركز الثقافي الايطالي، جاءت مع صديقاتها لمشاهدة فيلم وثائقي قصير عن نضال المرأة الجزائرية، في البيت والشارع والمؤسسات والجمعيات الأهلية. من أجل التحرر ومن أجل المساواة مع الرجل في العمل، وفي القوانين، وهو موضوع مثير. فنضال المرأة الجزائرية استثنائي، ويبعث على الاعجاب. وقد ظهرت في الشريط المناضلة الكبيرة خالدة المسعودي.
طبعاً كان جمهور الحاضرين من المتعلمين الفرانكوفونيين، فقد دار الحوار بالفرنسية. قلت هذا شعب آخر يعيش في الجزائر، لا علاقة له بالاسلاميين المعربين، لا علاقة له بالرّجل الذي لقيته في شارع العربي بن المهيدي، والذي يتكلم لغة ورقة ابن نوفل.
وعند نهاية الحوار الذي أعقب الشريط كان الليل قد حلّ، ورأيت للمرّة الأولى الخوف على الوجوه، وسمعت الخوف في الكلمات، كل واحد كان مستعجلا العودة إلى بيته. والغريب أنّه وفي تلك اللحظات كان قد زايلني قلقي.
وبدأ تلفون المركز الثقافي يشتغل. واحدة تكلم زوجاً، وأخرى تكلم صديقاً أو أخاً.
ووقفت البنت مع صديقتها في الباب، فقد اعتذرت احدى الصديقات عن مرافقتهن. وقفت غاضبة وساخطة على البلد. على انعدام الأمن. ورأيت للمرّة الأولى إنسانا مرعوباً في الجزائر.
قالت: يفعلون ما يريدون.
ولم أفهم، ظللت صامتا.
وعقّبت بلهجتها الجزائرية: إيديرو كيما يبغيو! حسب الظروف السياسية.
وفهمت أخيرا أن العنف في رأيها صار جزءاً من اللعبة السياسية.
وتذكرت الرئيس بورقيبة وهو في شيخوخته، عندما صار يستعمل مرضه في عمله السياسي، فكان يمرض عندما تقتضي الظروف السياسيّة أن يمرض، ويصحّ عندما تقتضي الظروف السياسية أن يصحّ.
ثم قالت: نحن لا ندري ماذا نفعل، ممكن أي شيء يقع في أيّ لحظة. لو ارادوا لقضوا على العنف.
وهو تقريباً الكلام نفسه الذي قاله ذاك الرجل الستيني الذي ناضل قبل العشرين في صفوف جبهة التحرير، رجل أسمر نحيف، مشدود العود.
- اذا كانوا بهذه العظمة التي يدعونها، فلماذا حاروا في القبض على أربعة شبان صعدوا الى الجبال وصار لهم الآن عشر سنوات ولم يستطيعوا القضاء عليهم؟ أحياناً لا أصدق.
ولعل ما يميّز الحرب الجزائرية المنسيّة عن الحرب اللبنانية أن الأخيرة كانت أطرافها معروفة، وكذلك القوى والجهات والمصالح والايديولوجيات التي تحركها كلها معروفة.بل أطراف الحرب كانت قائمة وجاهزة، حتى قبل اندلاع العنف، في حين أن الحرب الجزائرية - على رغم أنها معروفة الأطراف تبدو افتراضيّة ، إعلامية. وفي كثير من الأحيان غامضة، ومسكوت عنها. لا تظهر منها على السطح سوى الحوادث على صفحات الجرائد أو في التلفزيون، وكل حادثة تبدو منفصلة عن الأخرى، وإن كان الاعلام الرسمي الجزائري يسوي بينها كلها في خبر واحد منمّط، هو على هذه الصيغة:
قام الارهابيون في منطقة كذا وكذا بكذا... وكذا.
كأن ليس لكل حادثة ظروفها وملابساتها وهويتها والجهات التي تقف وراءها. كل الوقائع والأحداث هي حادثة واحدة منمّطة، والجاني محدد قبل القيام بالجريمة.
وهكذا أصبحت التفجيرات والعنف الأهلي حوادث شبيهة بحوادث المرور، أو الكوارث الطبيعيّة. لكن للصحافة المكتوبة شأن آخر!
ولكن أيّ صحافة؟ ففي الجزائر اليوم أكثر من 12 صحيفة يومية، باستثناء الملاحق والاسبوعيات. في الصباح ترى الناس متجمعين أمام بياعي الصحف الذين يفترشون الأرض، من ساحة الشهداء أسفل القصبة إلى شوارع زيغوت يوسف، العربي بالمهيدي، ديدوش مراد والشوارع المجاورة.
جرائد عربية وفرنسية، كلها جزائرية، لا تجد أي جريدة من أي بلد عربي آخر، وإن كانت من بينها "آخر ساعة"، ولكن ليست "آخر ساعة" المصريّة. صحف أخرى بأسماء شرقية، كأن الأمر للإيهام. كل هذه الصحف الجزائريّة تقول ما تريد. أجل تقول ما تريد. وهذه معجزة انّك لا تجد اليوم في بلاد العرب صحافة حرّة، وتقول ما تريد، وبكثير من الجرأة ، ومن تجاوز الخطوط الحمراء كلها، كما تجد في الجزائر. ولكن حذار، مهلا، لا تمض بعيداً في التفاؤل فلم تجر العادة بذلك في بلاد العرب.
أجل حوالى 12 صحيفة، تنتقد كل شيء وتهاجم كل شيء.
في الصحيفة الواحدة، ومن شدّة الحرية تجد عدّة قراءات للحادثة الواحدة. ثلاث روايات مختلفة على أقل تقدير. وهكذا، وفي الحصيلة، وباختصار شديد فإن القارئ الجزائري الحصيف والمتابع يقرأ حوالي أربعين تأويلا للحادثة الواحدة في اليوم! بحيث يغرق الخبر في غابة من الرّوايات، والتاويلات، والقراءات، وعرض الإحتمالات لتفسير الحدث الواحد.
وهكذا يعود القارئ الجزائري الحصيف أيضا إلى حالته الذهنية الأولى له قبل مطالعة الصحف، ولكن مع اختلاف بسيط: ذهنيّة مشوّشة.
لقد عاد هذا القارئ الحصيف إلى المجهول الذي يكونه الانسان في غياب الصحافة إنها حرية صحافة إذن شبيهة بالتكميم الستاليني. وفي بالمقابل أنت في عاصمة الجزائر اليوم لا تظفر بأي صحيفة أو جريدة عربية على الاطلاق. اذن هو اعلام يقوم بدور مناقض للاعلام، اعلام يغذّي الغموض والاشاعة.
في غياب الاعلام، أنت لا تدري نفسك في أيّ بلد. ولكن في مقابل ذلك هناك نخبة جزائريّة هي من أهم النخب العربية، بعضها في الداخل، وكثير منها في المهاجر. نخبة ثقافية وسياسية دفعت وتدفع باهظاً ثمن دورها. وأنا لا أعرف نخبة لاقت مصيراً أشدّ تراجيدية من مصير هذه النخبة الجزائريّة. أغلبهم مات مقتولا: من مولود فرعون، إلى جون سيناك، إلى الرسام الكبير أحمد راسم الذي مات غيلة، إلى مالك علولة، إلى صديقي بختي بن عودة، الذي ظل يدعوني قائلاً تعال إلى وهران إنها هادئة.. إلى أن اغتالوه هناك في وهران، وعلى مرمى حجر من بيته. بختي الكاتب الذي ظهر، واختفى كالشهاب، ومن قبل كاتب ياسين الذي مات في شبه عزلة جنونيّة، مريضاً بسرطان الدم، وأعماله ممنوعة، أومحاصرة.
والقائمة تطول من فنانين وصحافيّين...
في الليلة الأخيرة ذهبت إلى بيت ألبير كامو في حي البروليتاريا الكولونيالية. بيت واطئ من طابق واحد كتلك البيوت الفقيرة التي تراها في بطاقات البريد الفرنسية لأول القرن. وصلنا أمام البيت حوالي الواحدة بعد منتصف الليل، كان هناك سرب من المراهقين في الشارع، يحدثون ضجّة فيما كانوا عائدين من السينما. كانوا يسيرون في تاريخ آخر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.