لا بد من أن أقف على النموذج (الطَحيني) - هكذا أسميه - وقفة تناسب تفوقه وتميزه الشديد في التعليم الابتدائي، وهي ظاهرة فريدة وصحية نريد لها الانتشار في جميع مدارسنا في المملكة العربية السعودية، إن أريد لهذا النشء أن يبتكر، ويبدع، وينتج، ويدرس ويتعلم بشوق وحماس؛ مما يجعله رافداً للتنمية المستقبلية، ويتجسد هذا النموذج الفريد من نوعه بالجهد الذي بذله المبدع والمبتكر الأستاذ عبدا لرحمن الطحيني المدرس في مدرسة المنتزه الابتدائية في مدينة بريدة، حيث عمد إلى تصميم قاعة دراسية لطلابه في الصف الأول ابتدائي، تلك القاعة التي تحوي عددا من الوسائل والابتكارات ومنها: * لوحة الجيوب (الصوت ضوئية) وبها يتعرف الطالب على شكل الحروف وبعض الكلمات التي تدخل بها هذه الحروف. * وسيلة اللام الشمسية واللام القمرية وهي بشكلها الذي صممت عليه تعطي الطلاب في الصف الأول قدرة أكبر على التعلم بشأن هذه الجزئية المهمة. * تصميم جهاز خاص يتيح للطلاب الإجابة عن طريق الضوء، وهي كمصدر طرح الأوامر ولفت انتباه الطلاب بدرجة مريحة ومحققة لهدفها. * صندوق الحروف والكلمات وهو أيضاً وسيلة تعليمية مجدية. * قسم مكافأة الطالب المتميز، من خلال توفير العديد من الهدايا العينية، والمشروبات في ركن خاص داخل القاعة، وهذا لتحفيز الطالب وتحقيق مبدأ الثواب. * ضوء (السفتي) بألوان إضاءة متعددة كل لون له مدلول يستجيب له الطلاب ليعطي أوامر منهجية وسلوكية. * وجود جناح لتفريش الأسنان بعد كل فسحة (أسنان صحية تلمع!). * قسم المهن والتوجيه ومن خلاله تكتشف ميول أبنائنا الطلاب في سن مبكرة. * جناح خاص للكمبيوتر و هناك عرض (بور بوينت)، وهناك شاشة العرض، وشاشة الإملاء، و(الكامرة الوثائقية)، ومركز للتصوير وجلسة خاصة للطلاب المتميزين. علماً بأن تلك القاعة المدهشة قد تكلفت ما يقارب (90) ألف ريال من جيبه الخاص!!، وما كان الأستاذ الطحيني ينجح في مهمته إلا بعد أن وجد أرضاً خصبة ودعماً معنوياً من مدير المدرسة الأستاذ عبدالرحمن المحيميد و سعادة مدير عام التربية والتعليم الأستاذ صالح التو يجري، الذي بدوره قدم له درع جائزة (الأداء المتميز) لعام 1425-1426ه، والملاحظ في هذا النموذج التفاعل غير المسبوق من الطلبة فيما بينهم والسباق الحميم نحو التميز وتفجير قدراتهم وميولهم، ليس هذا فحسب بل اللافت للنظر هو المنافسة الشديدة بين أولياء الأمور للظفر ب(كرسي) عند (الطحيني) لفلذات أكبادهم، حتى لو لزم الأمر من بعض أولياء الأمور أن يقدموا مساهمة مالية في بناء معامل حاسب وكل ما هو مفيد للطلاب في المدرسة. ومما يدل على إيمان أولياء الأمور بالنموذج (الطحيني) رغبتهم الأكيدة والصادقة في استمرار أبنائهم في قاعات دراسية مشابهة بعد اجتيازهم للصف الأول الابتدائي؛ مما حدا بهم إلى المساهمة المالية في تأسيس قاعة دراسية أخرى للصف الثاني الابتدائي، وقد أشرف الأستاذ عبد الرحمن الطحيني شخصياً على تجهيزات القاعة الجديدة إلى أن رأت النور، وهذا اللون من التفاعل القوي بين أولياء الأمور والمدرسة ما نطمح أن نراه في مدارسنا، وكل ذلك بسبب الكادر التعليمي النشط الموجود في المدرسة والذي يفرض احترامه من قبل أولياء الأمور، حيث يشعر الأولياء أنهم (محظوظون) بطاقم تعليم وتدريب مؤهل يستحق الدعم وكل الاحترام والتقدير الذي يستحقه معلم، مجسداً بين معاني شوقي حين قال: قم للمعلم وفه له التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا وفي نفس السياق يعمل الأستاذ الطحيني على مساعدة الطلاب في اكتشاف ذواتهم وشخصياتهم، وإدراكهم لاهتماماتهم وحاجاتهم وقدراتهم من خلال الخبرات التربوية التي يتميز بها. ويرجع هذا الاهتمام المتزايد بهذا اللون من التعليم الفعال القائم على الاستفادة من الوسائل والأدوات التربوية وعلى نحو ابتكاري يتناسب مع أعمار الطلاب ومستوياتهم كما الحال في النموذج (الطحيني)، يعود ذلك الاهتمام إلى الارتباط بين النجاح المهني والأكاديمي، حيث تشير الدراسات إلى أن العناية بالنشء في مراحل تعليمهم الأولى وتعميق المكون المعرفي لديهم وإكسابهم مهارات التفكير والتحليل، كل ذلك يقود إلى إنتاج جيل مؤهل يأخذ على عاتقه الإسهام الفاعل في بناء المجتمع بكافة المجالات والميادين التنموية. ويلفت أنظارنا الفيلسوف الألماني (هربارت) Herbart إلى ضرورة الاهتمام بالميول والاهتمامات في طريقة التدريس، ويؤكد كثير من المختصين في مجال التوجيه المهني على أهمية تنمية مواهب التلاميذ من خلال ميولهم، (انظر مثلاً دراسات: الديب وعميرة، تدريس العلوم والتربية العلمية 1970)، وبلغ هذا الاتجاه ذروته في تأكيد (فروبل) Frobal أهمية الميول في التعليم، وفي جذب الانتباه، وفي تنمية القدرات والمعارف، وقد كانت أول دعوة للاهتمام بدراسة الميول في تربية النشء، هي دعوة العالم السويسري (بستالوتزي) Pestalozzi سنة 1714م، وجاء (روسو) Rousseau بفكرة جديدة مؤداها أن التربية يجب أن توجه اهتماما خاصاً إلى ميول الفرد، وأن تقدم ما يرضي هذا الميول حتى تنمو نمواً طبيعيا، فالتربية - في رأيه - يجب أن تنبثق من الداخل ولا تفرض من الخارج، وهي تنمية للقوى الحيوية الكامنة في نفس الطفل وليست إضافة لمعلومات نظرية معينة، حيث إنه انتهى عصر معلم المادة أو صاحب المعرفة، بل نحن بحاجة إلى أكثر من (طحيني) في المدرسة الواحدة، ليقدم من خبراته الشخصية والأكاديمية والمهنية. وفي نفس السياق اهتم (ستانلي هول) Stanley Hall بالعلاقة بين الميول والنجاح المهني، فذكر أن الفرد الذي لا يحب مهنته لا يستمتع بحياته، وأن أعظم سعادة يمكن أن يحصل عليها الإنسان هي أن تصبح مهنته هي هوايته، وفي نفس الاتجاه جاء اعتراف رجال الصناعة في أوروبا وأمريكا بأهمية الميول والاهتمامات، حين أدركوا أن الاهتمام بميول العامل هو السبيل إلى الجودة وزيادة الإنتاج، وسلموا بأن الميل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدافع لدى الإنسان، وبما يحقق له الرضا والسعادة، ويحقق للصناعة الإنتاج المميز والوفير. ويجب أن يكون التركيز في الميول بسن مبكرة عند الإنسان. ومن جانب آخر تشير دراسات عديدة إلى نتائج مفادها العلاقة بين الميول والاهتمامات، وبين مختلف الجوانب المعرفية كالذكاء والتحصيل الأكاديمي والإبداع ومنها دراسات (بارون 1968) Barron، McClenlland، وعلى نفس مسار الاهتمام، اتجه الباحثون إلى إعداد المقاييس النفسية التي تساعد على اكتشاف الميول والفروق بين الأفراد فيها، وفي مدارسنا هناك نقص واضح في الدراسات التي عنيت بتنمية جوانب التفوق والإبداع، من خلال إشباع الميول والاهتمامات بين الطلاب من الدراسات الأولى إلى ما بعد الثانوي! فهل يكون نموذج (الطحيني) أول الخطوات للاتجاه نحو الاهتمام بالميول المهنية في مدارسنا، الذي نرجو أن نراه قريباً فتكون إسهاماً نوعياً لوزير التربية والتعليم وتكون مثوبة له عند الله، فما أحوجنا إلى أن نبرز النماذج المميزة والتجارب الثرية والطاقات الواعدة من أجل الإفادة منها في تطوير حركة التعليم وربطه بالميول المهنية للطلاب بما يخدم أهداف الخطط التنموية الوطنية، وتحية طيبة للأستاذ المبدع عبدالرحمن الطحيني!. [email protected]