منذ بداية مراحل تأسيس المملكة كانت معاناة التعليم الابتدائي متجسدة في ضعف مستوى كفاءة التعليم الابتدائي، حيث مر إعداد معلم المرحلة الابتدائية بعدة مراحل أهمها: مرحلة إعداد المعلمين في معاهد إعداد المعلمين الابتدائية ثم يليها مرحلة إعداد المعلمين في معاهد المعلمين الثانوية ثم مرحلة الكليات المتوسطة حتى صدر قرار بتحويلها إلى كلية المعلمين عام 1409ه ثم صدر مؤخراً توجيها يقضي بضرورة إنهاء مرحلة البكالوريوس لمن يرغب في الانضمام لسلك التعليم العام، لكن السؤال الأهم: هل الإعداد النظري ما قبل الالتحاق بالتدريس هو غايتنا والحل لمشكلة تدريس الصفوف الأولى؟ وهل كل معلم يحمل شهادة البكالوريوس أو لنقل الماجستير أو حتى الدكتوراه قادر على إتقان وتولي مهام تدريس الصفوف الأولى؟ هل تقع المشكلة في مناهج التدريس النظرية؟ أم في ضعف تنفيذ قرارات وزارة التربية والتعليم ومتابعتها؟ وهل نستطيع تحقيق آمال وتطلعات وخطط التنمية دون الاهتمام بالقدر الكافي بالصفوف الأولى؟. فبما أننا نؤمن بأن التأسيس المبكر هو أهم مراحل التعليم فلماذا نحن متراخون في معالجته وفقا لمتطلبات تلك المراحل؟ وكيف ننشد المعالي والرقي والتقدم ونحن بعيدون عن تطبيق معايير التدريس في الصف الأول وما يليها (الصفوف الأولية) أي الصف الثاني والثالث الابتدائي؟ أين ضوابط التدريس في الصف الأول؟ وأين المحفزات لتدريس الصف الأول؟ وأين اللجان المختصة والمتخصصة في اختيار معلمي الصف الأول؟ كيف نؤمل صناعة مستقبل وبلوغ رؤية وهذا الصف ما زال الاختيار لتدريسه يُسند لحديثي التخرج؟ وأين نحن من النموذج الياباني الذي يوجد في «جامعة مياجي التربوية» التي تمنح درجة البكالوريوس في التعليم الابتدائي والتي يعود تأسيسها إلى عام 1965م، فهل عرفنا لماذا اليابان رائدة في الصناعة والجودة؟ إنه الاهتمام بالبذور الأولى .(مجلة المعرفة العدد 207 - عام1433ه). ولإلقاء نظرة على أبرز الفروق التي توضح مدى تباعد الاختلاف النفسي والاجتماعي والقيمي والأخلاقي لمُعلِمَين أحدهما حديث التخرج والآخر صاحب خبرة في التعليم، بالرغم من أن هناك - نماذج إيجابية - لحديثي التخرج وأيضاً يقابله - نماذج سلبية - في المعلمين القدامى فنحن لا نعمم إنما نقنن القياس، ولنأخذ المعايير واحداً تلو الآخر ونصف حالة كلا الطرفين: 1- التعامل مع الطالب بالنسبة للمعلم حديث التخرج الذي انتقل للتو من المقعد الجامعي قبل أشهر إلى التدريس تجد التباعد النفسي بين الطرفين واضحا في جميع الجوانب ويتضح ذلك في لغة التواصل بينهما حيث يغيب عنه فهم خصائص تلك المرحلة وما يحمله الطفل من فكر أو اهتمام وكثيرا ما تفسر سلوكياته وتصرفاته من قبل المعلم الجديد بأنها مقصودة وأنه يخطط لها وهذا يؤثر على العلاقة وكيفية التعامل بينهما لدرجة قد تزداد نوعية القسوة والجفاء من المعلم تجاه الطالب، والمعلم قد يلام وقد لا يلام وذلك بسبب تعسف الاختيار وعشوائية التوزيع الذي وضعه في مواجهة أصعب مراحل التعليم والتي تتطلب تدريبا وتهيئة وإلماما مسبقاً . 2- قدرة إيصال الدروس والموضوعات للطالب بسهولة ومنهجية سليمة، من المعلوم أن فهمك للشيء لا يعني بالضرورة قدرتك على إيصاله، بمعنى سهولة موضوعات مواد الصف الأول لا يعني سهولة وبساطة إيصالها للطالب، فأنت تتعامل مع طالب لا يعرف ولا يميز بين الكتب سواء في مسمياتها أو أنواعها (ككتاب الطالب/ وكتاب النشاط) فكيف بالموضوعات والمعلومات التي تتضمنها، والمعلم مطلوب منه بداية كل حصة أن يوظف الوسائل التعليمية بهدف الإيضاح والشرح، وأن يتفاعل مع موضوع المادة نفسياً وحركياً وصوتياً لاستثارة الطلاب التي يرمي من خلالها حصول الاستجابة من أجل الفهم والاستيعاب، والمهمة هذه ليست سهلة ولن يتصدى لها كل معلم . 3- المبادرات التربوية الذاتية وهي الطاقة المميزة لمعلمي الصفوف الأولية بخاصة والمعلمين بوجه عام، وتتجلى تطبيقاتها في الإعداد والتنسيق لرحلات خارج المدرسة كزيارة المتاحف أو المنتزهات أو المعالم التراثية أو .. حيث إنها تعمق وتعزز العلاقة بين الطرفين إذ أنها تعني إشباع الحاجات الأساسية للأطفال مما يبني لديهم اتجاها إيجابيا وحسنا لدى معلمهم وتفهمه لهم، وهذه المبادرات تأتي نتيجة للانسجام القائم بين المعلم ومهنته وهي مبادرات غير إلزامية لكن آثارها كبيرة وعظيمة وثمرتها مضمونة الحصاد في التفاعل والتعلم من قبل الطالب، ومن المبادرات التربوية الهدايا الرمزية والمحفزات التعليمية للسلوك والتحصيل والقيم وكذلك من المبادرات التربوية الذاتية التعليم والتربية غير المباشرة كعرض فلم يحتوى على عدد من القيم والسلوكيات الخاطئة والصحيحة، وهذا كله يأتي نتيجة التفاعل مع متطلبات وحاجات الطفل في الصف الأول، ولن يقوم بذلك إلا من تحققت فيه الرغبة والفهم والإعداد الملائم. 4- مخرجاته السنوية للصف الثاني، كثيراً ما يعاني معلمو الصف الثاني من ضعف وتدني التحصيل الدراسي لبعض طلابهم القادمين من الصف الأول لدرجة تصل إلى إعادة إعدادهم من جديد وكأنهم كانوا ضيوف شرف في الصف الأول، والقريبون ميدانياً من التعليم يعرفون ذلك، ويكفي هذا المسوغ والمبرر لإعادة صياغة جديدة لإعداد معلمي الصف الأول والصفوف الأولى بما يضمن تحقيق أهداف تلك المرحلة والتي على رأسها بعد تعلم العقيدة الصحيحة إتقان الطالب وقدرته على الكتابة والقراءة وتعلم العمليات الحسابية. 5- الانسجام داخل غرفة الصف، وهذا يعرفه المعلمون أنفسهم وهو من مؤشرات التأقلم مع الحياة الصفية بكل اتجاهاتها وأهدافها التعليمية والتربوية، بحيث لا يصبح لحظة جرس انتهاء حصة الدرس وخروج المعلم من الصف هو لحظة ترقب وانتظار يعُد المعلم ثوانيها ودقائقها، وهو معايير لم أستطع معايشتها يوما ما حينما كلفت بتدريس الصف الأول مجبراً ونزولاً عند رغبة من أحسن الظن بي، وليس من السهل تحقيق مزية الانسجام داخل غرفة الصف، لكنه تحبيب إلى النفس يأتي بالممارسة والدربة، ولعل الوصول إلى ذلك يحتاج لوقت وتهيئة ومهارات تدريسية مشوقة وقبل كل شيء تحتاج لإخلاص ورغبة، والنماذج للوصول للانسجام ليس سهل المنال والمنى، وللمزيد حول ذلك أقترح العودة إلى مقابلة أجرتها «صحيفة الخرج» الإلكترونية مع الأستاذ: محمد العقلاء . والملقب بعميد معلمي الصف الأول بمحافظة الخرج حيث أمضى قرابة 36 عاما معلما للصف الأول بالمدرسة ذاتها، مما دعا زملاءه ومدراءه إلى وصفه بالعميد، حيث أشار إلى الصعوبات التي واجهته بداية تدريسه للصف الأول مما دعاه لمحاولة الانتقال للتدريس في الصفوف العليا. 6- لماذا يختار المعلمون تدريس الصف الأول؟ وهل هي دوافع ومنطلقات تربوية أم لسهولة تحضير دروسها وموضوعاتها؟ ولسنا نعمم في ذلك لكن البعض من المعلمين يرون في تدريس الصف الأول شيئا من السهولة والبساطة وخاصة فيما يتعلق بتحضير الدروس وهذا واقع وصحيح ولكنه ليس دافعاً تعليمياً مقنعاً يقود المعلم للعطاء والبذل والإبداع، وبعضهم يرغب بمزية إبعاد المناوبة وحصص الانتظار والإشراف في الفسحة، وهذه كلها مزايا يستحقها معلم الصف الأول بل يستحق أكثر وأكبر منها كل المكافآت المالية والمحفزات المعنوية كبداية الإجازات مع طلابه، لأن مسئوليته كبيرة وعظيمة وليس يعني هذا التقليل من أهمية تدريس الصفوف الأخرى فكل مراحل التعليم مهمة وحساسة، فكما رأينا في الدافع التعليمي في سهولة الموضوعات أو الحصول على المحفزات المهنية كإزالة المناوبات والإشراف والانتظار رغم ضرورة بقائها وإضافة المزيد عليها إلا أنه لا يعني بالضرورة جدارة المعلم وقدرته وكفاءته للتصدي لقيادة تعليم الصف الأول، فالدافع يجب أن يكون منسجماً مع القدرات والكفاية اللازمة . 7- كيف يعالج تعثر الطالب دراسياً؟ أو كيف يتعامل مع الفروق الفردية المؤدية لصعوبة تعلم بعض التلاميذ؟ أو كيف يؤخذ بيد طالب أخفق في إتقان مهارة أو عدد من المهارات؟ فمن المعلوم أن التقويم المستمر جعل للطالب فرصة لمحاولة إتقان المهارة المطلوبة مرة ومرتين، وفي هذه الحالة يكون باستطاعة المعلم التساهل في تقييم إتقان الطالب للمهارة مما يجعل إخفاقه وضعفه فيها يستمر وينتقل معه للمراحل الأخرى وخاصة في الصف الأول ولنأخذ مثلاً مهارة قراءة الجملة بحركاتها وتطبيق النطق بالحركات عليها كيف سيؤثر عليه ذلك في حال تم انتقاله للصف الثاني وهو يعجز عن قراءة كلمة بحركاتها وليس جملة، وهذا يتطلب وضع خطة علاجية خاصة بالطالب وإن لم يكن المعلم على دراية بكيفية وضع خطة علاجية كما يقع فيه الكثير من المعلمين الجدد فسيسمح بتجاوز الطالب ويرصد له «أتقن» تلافيا لأي حرج من إدارة المدرسة أو من أسرة الطالب. ويوجد من المسوغات والدوافع والتبريرات لإعادة صياغة إستراتيجية إعداد معلمي الصف الأول وتحفيزهم ومتابعة أدائهم الشيء الكثير الذي أوجزته في النقاط السابقة الماضية، وأكتفي بمقترح تبلور في ذهني أثناء جلسة حوار عفوية عن التعليم وفيه أرى أهمية التدرج من الأعلى للأسفل أو ما يسمى بالصعود التنازلي، أي يبدأ الخريج بتدريس المرحلة الثانوية بحكم أنها أقرب المراحل لسنه ومرحلته وتقاربها مع فكره واهتمامه وقدرته على التواصل معها وسهولة ذلك، ومن ثم يبدأ بتدريس المرحلة المتوسطة وهكذا، ومن ثم يبدأ في الصعود التنازلي للصفوف العليا للمرحلة الابتدائية، ويليها الصفوف الأولية عبر إعداده تربوياً كمعلم متدرب يشارك ويحضر حصصاً لمعلمين متميزين، ويكون ذلك بعد تقديمه لطلب ألحاقه لتدريس الصف الأول، فيصل لذلك بعد عشر سنوات ويكون قد حصل على ما يكفي من مهارات وكفايات عملية تؤهل لقيادة الصف الأول ابتدائي بنجاح وتميز، وليس كما يجري حالياً يبدأ من أسفل الهرم التعليمي فيبدأ بتدريس أصعب مرحلة في أول سنين خدمته، فيكون آثارها ممتد لعشرات السنين على قدرات وإمكانات ومهارات الطالب وتخلفه الدراسي عن أبجديات التعليم. رجاء ودعوة إلى المسئولين بوزارة التربية والتعليم، لا تحدثونا عن استراتيجيات تعليمية والرؤية المستقبلية للوزارة وأنتم بعيدون عن إعداد «صنّاع تلك الاستراتيجيات ومنفذوها الميدانيون»، وكيف تتطلعون للوصول لتلك الرؤى والتطلعات والآمال وأنتم مهملين صنّاع القادة، فقد حان الأوان لصياغة وإعداد إستراتيجية مكتملة المعايير تهدف لإعداد معلمي الصفوف الأولى بشكل فعلي والتأكد من تطبيقها على أرض الواقع إذا رمنا المجد والتقدم والقيادة، يا سمو الأمير خالد بن فيصل يا وزير التربية والتعليم لعل مبادرة جامعة حائل للشروع في تخصيص أول قسم لمعلمي الصفوف الأولية في الجامعات السعودية ومعها جامعة الدمام يعدان انطلاقة هامة في مسيرة إعداد المعلم المتمكن وصانع الجيل المنتظر، إلا أن من الضروري التأكد من خلال الاتفاقيات المبرمة بين وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي أن تكون مقررات الدراسة التطبيقية تفوق نصاب مقررات الدراسة النظرية، وإلا سيكون فشل تلك المبادرة معلناً مسبقاً ومن خلال أحرف مقالي، والله الموفق وهو على كل شيء قدير.