حذرت وزارة الصحة السعودية من (أن الإقدام على مقاطعة العقاقير الطبية المستوردة من الدنمارك، مجازفة بالغة الضرر على المستقبل الصحي للمريض، خاصة في حال كان ممن يتعاطون أدوية ضد أمراض مزمنة مثل السكري)، كما جاء في جريدة الشرق الأوسط. وكنت قد كتبت في مقال سابق أن (مقاطعة) السلع الدنماركية موقف (حضاري) سلميّ لا يمكن رفضه، في مقابل موقف من يرون (القتل والذبح والدماء)، أو كما يسبغون عليه زوراً وبهتاناً صفة (الجهاد)، وأن المقاطعة هي الموقف الذي يجب أن نقابل به مثل هذه المواقف المغرقة في العنصرية الصادرة عن بعض المتطرفين العنصريين في الغرب، وأنا أرى أن من حقنا كمسلمين أن نوظف كل إمكانياتنا للتعبير عن رفضها، طالما أن وسائل التعبير هذه (سلمية)؛ حتى يضطر من يقف على الجانب الآخر للاعتذار، وعدم تكرار هذه الممارسات المهينة، التي لن تورث الإنسانية إلا مزيداً من التشرذم والكراهية والبغضاء، وهو ما تسعى الأمم المتحضرة إلى تفاديه، خصوصاً بعد أن رأى الإنسان بأمّ عينيه على أرض الواقع، جهاراً نهاراً، ما تنتجه مثل هذه الممارسات العنصرية البغيضة من كوارث ودماء وأشلاء آدمية في حق الإنسانية جمعاء. ولكن، أن تتحول هذه المقاطعة من كونها وسيلة (رمزية) نعبر بها، ومن خلال دلالاتها، عن استيائنا وغضبنا ورفضنا المهانة والتعريض برموزنا، إلى وسيلة انفعالية، ومنفلتة العقال، تضرنا بالقدر الذي تضرّ بالآخر، فهذا ما يجب علينا أن نرفضه بالقدر الذي نرفض به تلك الممارسات العنصرية ذاتها؛ فالهدف والمبرر والباعث الذي جعلنا نقف بكل قوة مع المقاطعة هو (أخلاقي) في الأساس، والهدف والمبرر والباعث الذي جعلنا نقف ضد هذه الممارسات المندفعة، وغير الأخلاقية، والتي لا تنسجم مع مصالحنا، فضلاً عن غاياتنا ودوافعنا وأسبابنا من المقاطعة، هي أيضاً أخلاقية. الذي يجب أن نتنبه إليه أن المقاطعة (وسيلة) يجب أن نوظفها لمصالحنا، وأن نتعامل معها بحكمة وروية، كي تكون نتائجها في المحصلة لمصلحتنا، وخدمة أهدافنا، وليست وبالاً علينا. ولعل (مقاطعة العقاقير الطبية المستوردة من الدنمارك) التي جاءت (كمثال) في تحذير وزارة الصحة السعودية، تشير بكل دلالة إلى ما أريد أن أقوله هنا. هدفنا من المقاطعة ليس الانتقام، وليس التشفي، وليس الإضرار (بالأنا) لنضر (بالآخر) كما يفعل الانتحاريون، وليس تكريس البغضاء والعنصرية بين شعوب الأرض، وإنما لبناء (حصانة) ذاتية تحمينا من أولئك (العنصريين) في الغرب الذين ينتهزون الفرص؛ لترسيخ الفرقة بين الأمم، مثلما ينتهزها في المقابل بعض من أبناء جلدتنا (العنصريين) أيضاً لتكريس العداوة والكراهية بين بني البشر. ولعل تذرعهم - أعني الدنماركيين - في إساءتهم إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - بحرية التعبير، والتي هي - كما يقولون - من ثوابتهم، تشبه إلى حدّ كبير تذرّع بعض عنصريينا بما يعتبرونه (ثوابت) عندما يدعون على رؤوس الأشهاد (بتجذير) بغض وكراهية (المخالف)، سواء على المستوى المذهبي أو الديني. ومثلما يتعمّد عنصريو الغرب إبراز (ابن لادن) أو (الظواهري) على أنهما النموذج النمطي للإنسان المسلم الحقيقي، المتمسك بأهداب دينه، وأن فكر (الجهاديين) الدمويّ هو فكر الإنسان المسلم الملتزم، مثلما هو لسان حال كاريكاتور الجريدة الدنماركية.. يبرز في المقابل عنصريو المسلمين هذا (الرسام الدنماركي) على أنه النموذج النمطي للإنسان الغربي، وأن موقفه من الإسلام، ومن نبيّ الإسلام، هو موقف الغربيين - أو على الأقل أغلبهم - تجاه كل المسلمين. وكما يصرّ عنصريو الغرب على (إسباغ) صفة الإرهاب على كل المؤسسات السياسية والدينية المسلمة، مثل اتهامهم المملكة بأنها تدعم الإرهاب، يصرّ العنصريون المسلمون - أيضاً - على أن الغرب بسياسييه ومثقفيه وجميع فعالياته المدنية يقفون نفس الموقف (العنصري) الذي مارسه بكل انحطاط أخلاقي رسام الجريدة الدنماركية؛ لذلك نجدهم (يعتمون) عن قصد وتعمّد على موقف بابا الفاتيكان، وموقف الأمين العام للأمم المتحدة، وموقف أمريكا وبريطانيا وفرنسا الرسميّ والمعلن (الرافض)، من حيث المبدأ، مثل هذه المواقف العنصرية. ولعل رفض صحيفة بحجم (الغارديان) البريطانية - مثلاً - إعادة نشر هذه الرسوم، بحجة أنها: (تؤمن بلا تردّد بحرية التعبير، ولكنها لا تؤمن بالإساءة من دون مبرر)، كما جاء في افتتاحيتها، يؤكد استهجان عدد غير قليل من النخبة هناك مثل هذا الفعل العنصري الذي لا يمكن تبريره. كل ما أريد أن أقوله هنا أن المقاطعة يجب أن تكون (رمزية)، وألا تخرج عن دلالاتها المعنوية، وأن تكون منسجمة مع بواعثها الأخلاقية، وأن تؤتي ثمارها في النتيجة بتحقيق الحصانة لنا، لا أن تنقلب وبالاً علينا، وأن نكون عادلين ومتحضرين في التعاطي معها، وفي الوقت نفسه (حذرين) ونحن نمارسها كي لا يستغلها دعاة السوء، وأصحاب الأجندات الخاصة، لتحقيق أهدافهم، فتصبح في النهاية (مطية) لأعداء الإنسانية من الطرفين لتحقيق أهدافهم ومشاريعهم ضد بني البشر. فالاعتذار، والاعتراف بالخطأ، وعدم تكرار ذلك، هو (منتهى) ما نطمح إليه؛ لأن غاياتنا أولاً وأخيراً إنسانية وليست انتقامية أو عدائية. للتواصل مع الكاتب فاكس رقم 2053611 - 01