كثير منا من يتابع بعض المسلسلات أو البرامج التاريخية المنتجة في وطننا العربي من قبل منتجين وممثلين عرب، وأحسب ما أن يبدأ العرض حتى يتبين للمشاهد - في كثير من الحالات - مدى قلة الإمكانيات وضمور الوعي وضعف التصورات الحقيقية الفنية والتاريخية والمكانية، مع تغيُّب البعد الإنساني في البرامج والأعمال التاريخية، وأحياناً يتم تلميع جانب معين من جوانب الشخصية للقائد المسلم؛ مما يؤدي إلى نوع من (التلويث التاريخي) لتلك الشخصية، وبذلك يهملون جزءاً مشرقاً من حياة الشخصية التاريخية. كما أن تلك البرامج تجتهد لإبراز أخلاق الأسلاف العظماء الذين صنعوا لنا الحياة!. وفي هذا المعنى يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله (بتصرُّف): من أشكال الأمانة وصورها أن القلم المتين، واللسان البليغ، أمانة في يد الكاتب والخطيب، فإذا لم يستعملاها في إنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والدعوة إلى الإصلاح، كانا ممن خان أمانته وأضاعها وفرَّط فيها، فلينظر لنفسه كل كاتب وشاعر وصحفي ومنتج وخطيب. وتركيزنا على البرامج التاريخية يعود إلى كونها أصدق شاهد وأفضل نموذج لما يدعو إليه الدين من قيم ومفاهيم، والبرامج بتلك الصفة تسهم في تنمية الإحساس والشعور بأهمية تاريخنا الإسلامي، وتعد إيقاظاً للشعور العربي والإسلامي. وفي هذا السياق يقول الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله: (التاريخ إنما هو في الواقع ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، والأمة التي تهمل تاريخها أشبه بالفرد الذي يفقد ذاكرته، ويعيش ليومه وحده بلا ماضٍ يعرفه ويبني عليه، إنه إنسان مبتلًى، مقطوع الجذور، يُرثى لحاله، وهو أحوج ما يكون إلى العلاج). ويضيف الدكتور كامل بن سليم بن صالح: (إن معيار النهوض بالأمم يكمن فيما لديها من موروث تاريخي أصيل وآخر حضاري متقدم، وإن نهضة بلد ما من البلدان تتمثل في أخذه بأسباب التقدم العلمية والتقنية والصناعية). والأخطر والأمرُّ في تلك القضية أن غدت البرامج والمسلسلات التاريخية تؤثر على قضايا ومصير الأمة الغائبة بروحها الحاضرة بجسدها من خلال تشويه متعمَّد وغير متعمَّد لتاريخنا العربي والإسلامي، وأحياناً ينتجها أناس من الغرب ويكون الإنتاج الإعلامي (عالياً فنياً) و(هابطاً أخلاقياً) لغرس بعض الأفكار والرؤى التي يسعى أعداء الأمة إلى غرسها في عقول أبناء المسلمين. والأمثلة في هذا المجال كثيرة ومتعددة لا يسع المجال لذكرها، حيث يتم تحويل البطل المسلم - أحياناً - إلى (صورة هزيلة) تبعث على الضحك والسخرية. وما لم يتَّصف العمل الإعلامي والبرامج التاريخية بالجوانب الأخلاقية فإن كثيراً من المشاهد التاريخية الناصعة قد تُشوَّه في أذهان المتلقي، وخصوصاً من فئة الأطفال ومحدودي الثقافة، حتى لو كانت المشاهد مشهورة، ومن ذلك مشهد أبي بكر رضي الله عنه وهو يعرِّض نفسه للخطر في الهجرة حمايةً للرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو عبيدة حينما يسهر على راحة جيش المسلمين، وعمر عندما يطوف المدينة والناس نيام ويتلوى من الجوع عام الرمادة ليطعم الناس، وأبو طلحة وهو يتلقى السهام في أحد ليقي الرسول الكريم، وصلاح الدين عند فتحه لبيت المقدس، والمؤسس الملك عبد العزيز في توحيده للمملكة العربية السعودية، وغير ذلك الكثير من المشاهد التاريخية المحفورة في تاريخنا المجيد. وكم هو جميل أن ينتج بعض الأفلام التاريخية والمسلسلات الخالية من (التلويث التاريخي) بإشراف بعض العلماء والمفكرين الشرفاء، وذلك لضمان درجة كبيرة من الدقة في نقل الحدث التاريخي وما يصحبه من عمل إعلامي مميَّز يستهدف التعريف برمز تاريخي كبير في إطار عمل فكري إعلامي تحكمه المنهجية العلمية في الجانب التاريخي والإبداعي في الصناعة الإعلامية. وقد كان من ذكاء بعض المخرجين أن أناطوا مهمة تمثيل دور البطولة بممثلين أجانب غير مسلمين على أن يلتزموا بالنص الموجود، ليتعرفوا على تاريخ حضارتنا ويقوموا بتوصيلها بشكل غير مباشر إلى بلادهم. وهنا نشير إلى التجربة الفريدة والرائدة للمخرج العالمي مصطفى العقاد - رحمه الله - في فيلم أسد الصحراء (عمر المختار)، ونردِّد ما قاله الممثل العالمي أنتوني كوين عندما أُسند إليه القيام بدور الشيخ عمر المختار: (لقد احترتُ كيف يمكن لي أن أتقمص شخصية هذا الرجل، فقد كان كل ما قرأته عنه يعدُّ من أفعال الأبطال لمدرس أطفال يعيش في زاوية من زوايا العالم. ولم أتمكن من أداء الدور إلا بعد أن عرفت أن قوة هذا الرجل تكمن في ضعفه). ولكي نتمكن من تحقيق الجوانب الأخلاقية والعلمية في البرامج التاريخية يلزمنا دراسة التاريخ الإسلامي دراسة منطقية موضوعية ذات تسلسل تاريخي من ولادة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حتى أحداث الساعة بالصور بمختلف اللغات. وهنا نشير إلى تجربة الدكتور طارق السويدان الرائدة وتأليفه عدداً من الكتب على هذا المنوال. وهذا المقال يلقي الضوء على بعض الجوانب العلمية والأخلاقية في الصناعة الإعلامية، متمنياً أن يحظى باهتمام المختصين. [email protected]