(في البداية أعتذر للقراء الأعزاء الذين يتابعون منعطفات، وكذلك الذين تواصلوا معي حول هذا الموضوع شفاهة وهاتفياً وبريدياً (إليكتروني) عن تخلفي يوم الأربعاء الماضي ولعله نوع من (قلق الانفصال) فقد تعطل جهاز الكمبيوتر لفترة أسبوع وظللتُ عاجزاً عن الكتابة، وكل همي هو متى يصلح الجهاز، وكان أشبه بالهم العصابي الذي يُشغل المرء عن الإنتاج, ومادمنا بصدد القراء الأعزاء فقد فهم البعض أو توقع أني اتحدث عن انفصال الزوجين وأثره على الأطفال, وقد يتماس قلق الانفصال مع نتائج الطلاق على الأطفال, ولعل في هذه الحلقة ما يوضح الموضوع أكثر ولذلك تعمدت تغيير العنوان فوضعت نحن بدلاً من الأطفال). وبمناسبة الحديث عن الانفصال عن الكمبيوتر قالت لي إحدى مراجعاتي، التي لا تتابع هذه الزاوية، ان الانفصال يربكها كثيراً وقالت: إن ما يقلقني ليس الانفصال عن البشر فحسب بل حتى عن الأشياء, بل ويربكني الانفصال عن الأشياء بصورة أكبر , وهي محقة في ذلك على المستوى الشخصي لأن هذا ما تعانيه أو أحد جوانب معاناتها وعلى المستوى الموضوعي لأن ارتباط الطفل الوليد أو الرضيع بالأشياء قوي جداً, وفي أول أيام حياته فإن كل ما حوله أشياء سواء كانوا بشراً أو جماداً. ولنسترسل في هذا الجانب قليلاً وليسمح لي القراء الأعزاء بذلك يقول (رانك) في نظريته حول (صدمة الميلاد) ان الطفل يعاني الكثير من الآلام والمصاعب أثناء عملية خروجه من رحم الأم إلى الدنيا, وهكذا فإن حياته المستكينة المطمئنة حيث هو محاط بالسوائل من كل الجهات في رحم أمه، تنتهي بعذابات الولادة, وهذه أول صدمة يتعرض لها الطفل في حياته, ولهذا يوجد لدى كثير من الناس هاجس غامض يسمى هاجس (العودة إلى الرحم) حيث الأمن والطمأنينة, وكثيراً ما قلنا، أو سمعنا بعض الأصدقاء يقولون (ليتني بمفردي في جزيرة خالية من الناس), وأذكر أن أحد أصدقائي أثناء الدراسة في كلية الطب، كان عندما يستبد به القلق من المذاكرة والامتحانات، يلجأ الى الدخول تحت طاولة المكتب حيث ينحشر في وضعية كأنه وضعية جنين في رحم الأم بين صفَّي الأدراج, فيقبع هناك ساكنا حتى يسترخي ويزول قلقه فيعود إلى المذاكرة! وحسب نظرية (ميلاني كلاين) بأن الطفل يتعلق بصدر الأم بصفته الشيء الذي يمنحه الغذاء والذي يمنحه الدفء الإنساني، فحياته وراحته مرتبطتان بهذا الثدي, بيد أن كلاً من النظريتين لم تتطرقا، ولم تطبقا على (قلق الانفصال إلا لاحقاً وبعد دراسات بولبي, ولذا نلمح جذوراً بعيدة لقلق الانفصال أبعد من غياب الأم، أو بديلتها وهنا نقول: اليس عجيباً أن الانفصال والفصال (إيقاف الرضاعة) يعودان إلى نفس الجذر فصل. وتؤكد (أَلِيس ميلر) في كتابها الرائع (دراما أن تكون طفلاً) على أهمية عملية الرضاعة سواء كانت طبيعية أو عن طريق الرضاعة في عملية النمو النفسي والعاطفي للطفل فالتقاء البصر بين الطفل والمرضعة، والمناغاة، وحرارة الجسد، وصوت ضربات قلب الأم وتنفسها تلعب دوراً كبيراً في الاتصال مع الطفل. وفي تجارب طريفة ومهمة علمية على القرود فصلت القرود الرضيعة عن أمهاتها وحصلت على الحليب من قرود آلية مختلفة بعضها ذات فراء وأخرى ذات فراء ودفء وغيرها مجردة من الفراء, وقد وجد الباحثون أن القرود الرضيعة تفضل الرضاعة من الآلات ذات الفراء والدفء، ثم ذات الفراء ثم النوع الاخير, بل أكثر من ذلك، عندما كبرت تلك القرود لم تعرف الإناث منها كيف تتعامل مع أطفالها, ووجد الذكور صعوبة في القيام بالمعاشرة الجنسية. ومع ظهور الاهتمام بقلق الانفصال توالت الدراسات المكثفة لدراسة قلق الانفصال لدى الحيوانات، وكذلك لمقارنته بالبشر، وكانت النتائج مثيرة ومتقاربة للغاية, وسأتطرق لهذه النتائج لو سمحت المساحة أو قيض الله للموضوع حلقة ثالثة. ومع الاهتمام بقلق الانفصال ظهر مصطلح الحرمان من الأمومة ويعني هذا غياب الأم دون وجود راعٍ بديل, وهناك رد فعل نفسي يمر به كل الأطفال بداية عند غياب الأم لفترة بغض النظر عن وجود الراعي البديل, ويتكون في ثلاث مراحل الأولى: Protest الاعتراض أو الشكوى، وفيها يكثر الطفل من البكاء و(الحنة) والسؤال عن أمه، والثانية: Despair اليأس أو القنوط، حيث يبدو الطفل قليل السعادة والنشاط والإقبال على الحياة وربما تكثر حركته و(شقاوته) وتصرفاته الانفعالية, أما الثالثة فهي Detachment القطيعة حيث يسلو الطفل و(يدله) بل ولا يبدي اكتراثاً في حالة عودة الأم, هذه الصورة العيادية للحرمان من الأمومة قصير الأمد, ونعني بذلك ألا يطول الغياب عن ثلاثة أشهر, وغني عن القول أن حدة هذه الحالة وطول أمدها يتأثران بوجود الراعي البديل وبكون الأسرة منفتحة عاطفياً, بالإضافة إلى عمر الطفل, والغريب أنهم درسونا في معهد الطب النفسي أن نسأل المراجع عما إذا كان هناك فراق للوالدين أو أحدهما لمدة تزيد عن ثلاثة اشهر قبل سن ثلاثة أعوام، بينما تدل دراسات بولبي وزملائه على أن الفئة العمرية التي تعاني أكثر من غيرها من قلق الانفصال هي فئة أطفال السنوات الثلاث مقارنة بعامين ونصف وأربعة أعوام! ووجود الراعي البديل والجو الأسري الصحي لا يفيد في التقليل من حدة أثر هذا الانفصال فحسب ولكنه يقلل، أو يلغي، الآثار السلبية طويلة الأمد مثل الاكتئاب وتأخر النمو العقلي والنفسي والسلوكيات المضادة للمجتمع. وحدوث أي خبرة للانفصال في سن مبكرة قد تجعل وطأة الانفصال أكثر حدة عندما تحدث مرة أخرى في مرحلة طفلية لاحقة, وهذا ما سنتحدث عنه في الجزء الثالث. fahads @ suhuf, nets