بعد أن وجدت في ربوع الشام (سوريا) مواقع العلماء.. ووقائع العظماء.. وصنائع الفهماء.. وطرائف الندماء.. ومساجد خيار الأئمة.. ومجالس كبار الأعمة.. ومياه الأنهار.. وظلال الأشجار.. وجودة الثمار.. طابت لي العودة والتكرار.. ومع العزيمة والإصرار.. وحب السياحة في الديار.. كانت الساعة العاشرة من صباح يوم الأربعاء.. 21-6-1426ه الموافق 27 يوليو 2005م عند منفذ الرمثاء.. بين الحدود السورية والأردنية، وكان بصحبتي ابني مهند، وزميلي ضيف الله سند الشراري.. وبعد إنهاء إجراءات الدخول اتجهنا إلى مدينة درعا. مدينة درعا مدينة قديمة قدم التاريخ سكنها الإنسان منذ القدم حيث المياه وخصوبة الأرض، وكان اسمها قديماً أذرعى بمعنى القوة أو الحصن. عرفها العرب باسم (أذرعات) وكان أول من سكنها مِن العرب العمالقة (الأموريون) وقد أشار إليها امرؤ القيس في بعض أشعاره قال: ومثلك بيضاء العوارض طفلة لعوب تنسيني إذا قمت سربالي تنورتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها ينظَرُ عالِ وفي وقتنا الحاضر تقع في الجنوب الغربي من دولة سوريا، وهي كبرى محافظات حوران ويشكل معظمها سهل حوران ذي التربة البنية والحمراء الخصبة، ويكثر بها العمران الحديث ويتسم أهلها بالعصامية والمحافظة على إسلامهم الوسطي الصحيح، وعاداتهم العربية الحسنة. اتجهنا بعد ذلك إلى الشمال الغربي منها إلى قرية تل شْهَابْ حيث يوجد بها موقع أثري عبارة عن قلعة صغيره تجولنا في داخلها، وحالها كحال معظم الآثار في هذا القطر الشقيق لم تصل لها يد العناية والاهتمام. ومن تل شهاب اتجهنا إلى قرية حيط حيث عُثر حديثاً على موقع به فسيفساء نادرة، وبعد جهد جهيد وصلنا لهذا الموقع خلف مدرسة على حافة خور وادي اليرموك، هذا الوادي العظيم الذي سطَّر العرب المسلمون على جوانبه المجد بدمائهم في معركة اليرموك الشهيرة سنة 15ه الفاصلة بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد والروم بقيادة ماهان، وبعد هزيمة الروم غادرها الإمبراطور هرقل وهو يقول: السلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده. نعود ونقول: بعد أن ترجلنا من سيارتنا التي أوقفناها في مكان بالغ الخطورة على حافة الوادي وجدنا أحجاراً متناثرة وبعض الحفر في مساحة مكشوفة، وكنت أنا وابني وزميلي على هذه الأحجار نتساءل: هل يعقل أن يكون في هذا المكان فسيفساء نادرة من آلاف السنين وتترك دون حماية أو اهتمام؟ وإذا برجل في العقد الخامس من العمر ينزل علينا من بيت شعبي متواضع يعلونا، فخاطبنا بلغة المتعلم: ما الذي تبحثون عنه؟ قلنا: عن الكنز المفقود. قال: هو وربي كنز ولكن ليس مفقوداً بل معلوم مذموم إنه تحت أقدامكم، انظروا إلى هذه الأحجار المبعثرة على هذه المساحة (25م2) تقريباً إن تحتها سجادا روميا من الفسيفساء لعله أرضية لكنيسة أو قصر عندما علم به المسؤولون عن الآثار من قبل الأهالي قاموا بوضع هذه الأحجار كأنهم يريدون أن يحموها من الشمس. أما الأيدي العابثة فلا، وقد عَرَّفَنَا بنفسه قائلاً: المهندس محمد خير الشعباني أشرف على ترميمات في هذه المدرسة، كنت عند أهل هذا المسكن من كبار السن يشكون لي قسوة الحياة وأبث لهم مرارتها. قلنا له: نراك متشائماً. قال: قبل اليوم، لقد أعدتم لي الأمل.. شباب عربي وخليجي كنت أظن أن هذه الأمور ليست في برنامجكم السياحي فكيف وقد وجدتها من أولوياتكم. ودعنا صاحبنا على أمل اللقاء به وعدنا إلى مركز مدينة درعا وقضينا باقي يومنا فيه. قرية ملح في صباح يوم الخميس الموافق 22- 6-1426ه اتجهنا إلى مدينة بُصرى شرقاً وأخذنا بعض الصور واصطحبنا معنا الشيخ أحمد البلخي صاحبنا في رحلتنا السابقة، ثم اتجهنا إلى قرية ملح حيث كنا على موعد مع أحد أبنائها أسامة حسن فضل الله الأطرش. وعند الساعة الثانية عشرة ظهراً كنا في قرية ملح واتجهنا إلى بيت الأخ أسامة ووجدناه وإخوته وثلة من أبناء القرية في استقبالنا، وما أن استقر بنا المقام في المجلس إلا وانطلقت مفردات الكرم الحاتمي من أفواه الجالسين كأنهم على موعد رغبةً في السبق، وكل منهم يطلب الموافقة أن يكون العشاء عنده حيث غدائنا عند من نحن في مجلسه، وحاولت بما أوتيت من حصافة وفصاحة أن أقنعهم بأننا في عجلة من أمرنا، وأن أسامة قد ناب عن الجميع، ولكن هيهات انقلب الطلب غضباً، فما كان مني إلا الرضوخ ولكن بحل وسط، زيارة ما تيسر من بيوت الحاضرين وتناول القهوة وبعضا من الفاكهة فوافقوا على مضض، وقد شدتني أبيات معلقة في المجلس من قصيده للشاعر عيسى عصفور رثاء في قائد الثورة ضد الفرنسيين الشيخ سلطان الأطرش تقول: حيّ المروءة في محراب سلطانا (وقِفْ) لمثواه إجلالاً وعرفانا ما ذاك قبر ولكن قمة شمخت وطاولت موكب الجوزاء ميدانا لما افْتَرَشْتُ رمال البيد قاحلة زهت وأينعت الصحراء ريحانا وكان من بين الحضور شُعار أتحفونا ببعض من أشعارهم العامية، والأستاذ يحيى محمد الحلح حيث كان يسمو بنا مما يحفظ من الشعر الفصيح، وكذلك إبراهيم أبو جمرة الذي كثيراً ما أثنى عليه الحضور فيما يقدم من أعمال خيرية للقرية وأهلها وهو مدير لإحدى الورش في الرياض، وقد أهدانا صورة مكبرة للقصر الأثري في ملح، ولفت انتباهي عند زيارتنا البيوت أن صاحب البيت وإن بلغ من العمر عتيا، وأبناؤه عشرة فتيا، هو الذي يتولى خدمة الضيوف ويقوم بصب القهوة فسألتهم عن سبب ذلك فقالوا: هذا العمل مقرون بمقام الضيف فكلما علا مقامه زاد إصرار صاحب المنزل على خدمته بنفسه. قلت: أحسب كل واحد منكم يجسد ما قال الشاعر: لحافي لحاف الضيف والبيت بيته ولم يلهني عنه غزال مقنع أحدثه إن الحديث من القرى وتعلم نفسي أنه سوف يهجع وعندما اقتربت الشمس للغروب ونحن من بيت إلى بيت، طلبت الإذن والسماح لنا بالرحيل وإذا بالشاب بيان بن نايف الحلح قد اقترب من الشيخ أحمد البلخي وتوسط به عندنا لنزور منزله فوافقنا وعجبت من هذا الشاب وإصراره على إكرام الضيف حتى بالواسطة من غير حاجة يرجوها، إنه الكرم العربي الأصيل، ودعت أصحابنا ولساني يدندن بهذه الأبيات العامية: من يريد الكرم وأهل الكرامه أنصحه في ملح يبني خيام جيتهم زاير قاصد أسامه ابن منهم رفيعين المقام وأصبح الكل واقف في مقامه والتراحيب من بعد السلام كل منهم على راسه عْمَامَه يفتخر في خواله والعمام عدنا ومررنا ببصرى ونزل بها الشيخ أحمد البلخي وذهبنا إلى درعا وبتنا بها، وفي الصباح الباكر الساعة السادسة تلقى الأخ ضيف الله الشراري مكالمة من أم راكان وهي مع والدها في عجلون في الأردن أخبرته أن أحد أبنائه مريض، فعزم على العودة فقلت له مازحاً: ما خبرت الخوي يترك خويه لين يركز على قبره نصايب فغير رأيه وقال لن أعود فأقسمت عليه أن يلبي طلب أم راكان.. فما كان منه إلا أن أخذ تاكسي وعاد على أمل أن يلحق بنا في دمشق. ذكرتني نجداً في صباح يوم الجمعة 23-6 انطلقت أنا وابني مهند شمالاً وكانت المزارع عن يمين الطريق وشماله تسحر الأعين وتأسر القلوب وتذهب بالعقل بعيداً في هذا السهل المنبسط الخصب، فما تحسبه إلا سجادة خضراء تظللها أشجار العنب والزيتون والرمان والحمضيات، وبداخلها الرجال والنساء والأولاد في عمل دؤوب يحركهم الصباح بأنواره.. ويوقفهم الليل عندما يسدل ستاره.. إنه منظر رائع ذكرني بيت امرئ القيس عندما جاء إلى حوران قادماً من نجد: ولما بدت حوران والآل دونها نظرت فلم تجد بعينك منظرا يا سبحان الله.. ها نحن أحفاد امرئ القيس نأتي من نجد بعد خمسة عشر قرناً ونيف ويُبْهِرُنا ما أَبْهَرَه إلا أن الغابات قد استبدلت بما ينفع الناس، إنها الأرض المباركة تؤتي أكلها في كل حين. وخلال الطريق سمعني ابني أدندن بأبيات ذلك الشاعر البدوي النجدي (سحيم بن المخرم) عندما قصر ليل الشتاء في نجد، واشتد برده وضاقت به صحراؤها من الحاجة، فتذكر الشام بلاد الخير وامتطى مطيته، وجاء يطوي البيد من ورائها بيد، حتى استقر به المقام في أذرعات وذات ليلة رأى برقاً يضيء في السماء ذَكّره وطنه وأهله بنجد قال: ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا وهيجتني من أذرعات وما أرى بنجد على ذي حاجة طرباً بعدا ألم تر أن الليل يقصر طولُه بنجد وتزداد الرياح به بردا قال يا أبتي.. ماذا يقصد الشاعر من قوله؟ فلما شرحت له معنى الأبيات، قال: ولماذا لا نشعر الآن بمثل ما كان يشعر ونحن مثله قادمون من نجد.. إني أحس بفرح في الصدر وطرب في القلب. قلت: يا بُني لقد كانت نجد آنذاك قليلة الماء والكلأ.. يفترش أهلها الأرض ويلتحفون السماء.. يتوقعون بين الفينة والفينة غزو الأعداء.. لقد أجبر شغف العيش والحاجة هذا البدوي على الذهاب إلى حوران.. وترك الأبناء والإخوان.. وكانت مسيرته شهرين.. يجوب البيد على ظهر ناقته.. أملاً في قضاء حاجته.. وبعد أن أضاء البرق لياليه.. ذكر زوجه وبنيه.. ورجا ربه من البعد يدنيه.. وكلما تذكر البرد المشتد.. والفقر الممتد.. علل نفسه بالبقاء.. على أمل قضاء الحاجة واللقاء.. فلا تلمه إذا ذهب قلبه إلى أولاده من البنين والبنات.. وبقي عقله يناصحه في أذرعات. أما نحن فقد تركنا نجد وللأهل من الحر واق.. وتجري فيها السواقي.. في رغد من العيش.. الأمن فيها سائد.. والغريب راقد.. نتحدث مع الأهل من كل مكان.. من الهاتف الرنان.. كل هذا كان.. بفضل الله ثم بتوفيق عبد العزيز بن عبد الرحمن.. ورجاله المخلصين.. الذين منهم أجدادك المعروفون.. وها نحن يا بُني كانت مسيرتنا إلى أذرعات يوماً واحداً.. مركبنا سيارة.. ومرقدنا عمارة.. نتفسح بين بساتين العنب والرمان.. ونُسْتَقْبَلْ بالحُب والحنان.. ومفاطيح الضأن...في هذا البلد الذي جاء أمنه بأغلى الأثمان.. بالحد والسنان.. حيث اختلطت دماء الشيوخ والفتيان.. في هذه الوديان.. حتى غرب عنها المحتل.. وشُفي المريض المعتل.. ثم بنوها بسواعد الرجال.. فساد الأمن وصلح الحال.. فصرنا نسير ولا أحد يعترض طريقنا.. والفرح والسرور رفيقنا.. أمن في الأوطان.. وصحة في الأبدان. هل عرفت يا بني سرّ ضجر ذلك الشاعر البدوي وسعادتنا.. فإذا لم نحافظ على ما ورثناه من الأجداد.. وإلا صرنا كأبداد.. وصاحبنا السهاد.. وفرقنا الأعداء والحساد. مدينة نوى بينما أنا أحادث ابني إذا بنا نتوسط مدينة نوى هذه المدينة التي تقع على أرض منبسطة زراعية خصبة تبعد عن درعا 30 كيلاً شمال غرب وتشتهر بجودة محاصيلها، وأحسست بسعادة تغمرني وأنا أجوب شوارعها وأزقتها عائداً بالذاكرة للقرن السابع الهجري إلى مؤلف كتاب رياض الصالحين الذي لا أعلم كتابا بعد كتاب الله أشهر منه بين المسلمين إنه الإمام العالم العَلَم أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الذي ولد في هذه المدينة سنة 631ه وألف أكثر من اثنين وعشرين كتاباً وتوفي وهو في السادسة والأربعين من عمره ودفن بها.. رحمك الله يا أبا زكريا لو لم تؤلف إلا كتاب رياض الصالحين لكفاك. إن هذا الكتاب لي معه ذكريات لا أنساها فقد كان أول وآخر مؤلف اشتراه لي أبي وكنت أقرأ عليه باباً من أبوابه بعد كل صلاة عصر، وكان الحافظ لي بعد الله من الانحراف في سن المراهقة وما بعدها.. إنه أغلى وأثمن هدية قدمها لي أبي في حياتي فجزاك الله يا أبي عني كل خير ورحمك الله يا أبا زكريا.. ها نحن اليوم نتجول في مرابع صباك.. ومنابر دعاك.. ونسأل الله أن يجمعنا وإياك.. في فسيح جناته. مدينة جاسم من نوى اتجهنا إلى مدينة جاسم شمال نوى بنحو (10) كيلات، وفي الأثر قيل إنه سكنها جاسم بن أرم بن سام بن نوح، وسميت باسمه وقال عدي بن الرقاع العاملي الطائي: لولا الحياء وأن راسي قد عسا فيه المشيب لزرت أم القاسم وكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينيه سِنة وليس بنائم وهي مدينة متوسطة شهرتها خالدة بخلود شاعرها وشاعر العرب الكبير الشاعر العباسي أبي تمام الذي ما أن سمعني ابني أذكره وأتغنى بأشعاره: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما وكذلك: السيف أصدق أنباء من الكتب في حدّه الحد بين الجد واللعب إلا وانهالت علي الأسئلة فأوجزت له قائلا: هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، من أبرز شعراء العصر العباسي، ولد في هذه المدينة (التي نجوب شوارعها) في عام 192ه. بدأ حياته في دمشق ثم رحل إلى القاهرة، اشتهر بذاكرته الحديدية؛ فكان يحفظ آلاف الأبيات من الشعر، وألف عدّة مصنفات من أشهرها ديوان الحماسة، وتوفي في مدينة الموصل في العراق سنة 228ه. من جاسم اتجهنا شمالاً إلى مدينة الصنمين وهذه المدينة بها معبد روماني حاولنا أن ندخله ولكن وجدناه مغلقاً والمسؤول عنه غير موجود فعدنا أدراجنا، ثم خرجنا من هذه المدينة على عجل حيث قربت صلاة الجمعة واتجهنا إلى دمشق. دمشق كنا في دمشق وقت إقامة صلاة الجمعة وبعد أداء الصلاة استأجرنا شقة في أحد أحياء دمشق لمدة ثلاثة أيام من شخص على معرفة مسبقة به، وأفهمناه أنه من المحتمل تمديد السكن يومين آخرين واشترطت تخفيض الإيجار ووافق على ذلك، وقد حدث لنا مع صاحب هذه الشقة قصة فيها من الإزعاج والإساءة لنا وللوطن ما يجعلنا نسردها في حينها. في مغرب هذا اليوم قابلنا زميلنا الصحفي أيمن الحرفي حيث كنا على تواصل معه، وذهبنا إلى رئيس تحرير جريدة تشرين د. خلف الجراد وكان رجلاً ذا أخلاق عالية.. ولغة راقية.. وسريرة نقية.. أشاد بما سطرته عن بلدي الثاني سوريا وودعناه على أمل لقياه. وعدنا وبتنا في شقتنا، وفي صباح يوم السبت الموافق 24-6 ذهبنا إلى مدينة بلودان للاستجمام، وقضينا فيها اليوم كاملاً في أحد بيوتات الشَّعر. نأكل ونتغنى بالشِعر حتى أسدل الليل ستاره.. عدنا إلى دمشق للمبيت وانتظار نهاره. في صباح يوم الأحد الموافق 25-6 قابلنا رئيس اتحاد الصحفيين د. صابر فلحوط وقد رتب لهذا اللقاء أ. أيمن الحرفي، وعند اللقاء أثنى على ما أقوم به من تدوين لمشاهداتي وانطباعاتي خلال رحلتي السياحية وكنا على موعد لتناول وجبة الغداء.. عند أول الأصدقاء.. أ. سيف الدين إسماعيل شاكوج أبو جوناي، وما أن تناولنا الغداء حتى عرض علي أن نذهب لغوطة دمشق قلت هي ما عناه الشاعر: سقى الله أرض الغوطتين وأهلها فلي بجنوب الغوطتين شجون هيّا بنا دون تأخير.. وانطلقنا إلى غوطة دمشق وكانت الأشجار الشامخة عن يمين الطريق وشماله تعبّر عن عمرها المتقادم. واصلنا السير حتى قرية مرج السلطان، وهي قرية صغيرة تحيط بها المزارع والجنان من كل مكان. لفت انتباهي نظافتها؛ مما جعلني أقول لأبي جوناي لو عمل في سوريا مسابقة عن نظافة القرى لأخذت هذه القرية المركز الأول دون منازع. لا بد أن هناك سراً يا أبا جوناي: هل مدير البلدية من أبناء هذه القرية؟ قال: لا، إن أهل هذه القرية جميعهم من الشراكسة السنة، ومن أعْرَافهم الحميدة التي أصّلها فيهم الإسلام النظافة؛ لذا يعاب على من يوجد إلى جوار بيته أي مخلفات حتى رصيف الشارع تجدهم ينظفونه. قلت: ذكرتني هذه القرية قصة ذلك الخليفة عندما ضايقه اتساخ مدينته فقال لأحد وزرائه: أريد أن تتولى مهام متابعة تنظيفها، قال الوزير: إني أحتاج إلى عام كامل حتى أنظفها فضجر منه، وطلب من وزير آخر فقال: أحتاج إلى ستة أشهر، فقال ثالث: يمكن تنظيفها في يومين فاستهجنه الحاضرون فقال: ما عليك أيها الأمير إلا أن تأمر كل ساكن أن ينظف ما كان أمام بيته. توقفنا عند أحد البيوت واستقبلنا زوجان شابان ظريفان يحملان باكورة إنتاجهما طفلة في شهرها الثاني. مَن هذان يا أبا جوناي؟ قال: ابنتي البكر وزوجها. وبعد أن أرخى الليل سدوله على غوطة دمشق.. واستمعنا لكل كلام عذب ورق.. وأشبعت أم جوناي التي كانت بصحبتنا غريزتها.. من حب حفيدتها.. انطلقنا عائدين إلى دمشق، وكانت أم جوناي تمازح ابني مهند فقالت له: سوف أبحث لك عن عروس في هذه القرية التي أعجبتك وأباك.. قلت: وهل بلغ الحُلم؟ فتداركت أم جوناي قولها وقالت: بل لأبيك، ودونت ذلك في دفتر أدون فيه ملاحظاتي، ونسيت ما سطرته، وكاد يكون المطاح.. فعندما قرأته أم مهند قالت: عرفت سرّ المرَاَحْ.. فقلت: والله مزاح. قالت: أما هذا فغير مُبَاح. في يوم الاثنين الموافق 26-6- 1426ه الموافق 1 أغسطس 2005م فتحت التلفاز قبل الخروج لمعرفة موجز الأخبار فطرق أسماعي خبر ناري.. غير مساري.. وعكر صفو يومي حيث فقدت الأمة خيار رجالاتها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته -، فألغيت برنامج عملي لهذا اليوم وكان لي موعد لقاء مع وزير الإعلام السوري معالي د. مهدي دخل الله تم تأجيله إلى يوم الخميس. الحلاق العقاري وختام نهاري بعد الظهر ذهبنا مع أ. أيمن الحرفي لأحد المتنزهات للغداء ومن ثم للفسحة وبعد ذلك اتجهنا إلى شقتنا حيث كانت المفاجأة التي أشرت لها عندما استأجرت الشقة في انتظارنا، فعندما حاولت فتح الشقة إذا بها تفتح من الداخل وإذا بثلاثة من الرجال يسكنون بها فعرفت منهم أن صاحب الشقة أخذ حاجاتنا وشنطنا وذهب بها وأسكنهم فيها. عدت إلى سيارتي وذهبت لمحل صاحب الشقة حيث يعمل حلاقاً، فقلت له: لماذا أسكنت أُناساً في شقة نحن استأجرناها وحاجتنا فيها؟ قال: حاولت الاتصال بكم فلم أستطع ولمعرفتي بكم تجرأت على حاجاتكم وحملتها معي وهي في الحفظ والصون. كنت أستمع له وأنا أكاد أتميز من الغيظ على هذا الشاب وجرأته وسوء فعلته. قلت له: المعرفة تجعلك تكرمنا وتستضيفنا لا أن تأخذ شنطنا من شقة نحن استأجرناها.. ألم تعرف أنك بهذا التصرف قد أسأت لوطنك قبل الإساءة لنفسك ولنا؟ ألم تسمع قول الشاعر: من لا يؤدي إلى الأوطان واجبه فهو العدو فما ترضى به الوطن لو تكرمت.. الشنط التي أخذتها من الشقة لن أتسلمها إلا في قسم الشرطة حيث يوجد بها عشرة آلاف دولار إن وجدتها، وإلا سوف تغرمها. وكنت قد عزمت ألا أمرر هذا العمل بسهولة؛ فأحسست أن كلامي قد زلزله، فما ترك كلمة تودد إلا قالها ولا مفردة استعطاف إلا أخرجها وحاول الاستنجاد بغيره لعله أبلغ منه بعد أن انهارت أعصابه ورقرق الدمع في عينيه، قلت: هون عليك وابحث لي عن شقة، فهاتف شخصاً يعرفه وذهبنا لشقته واستأجرناها ودفعت أجرة يوم واحد على أن يهاتفني صباحاً لأخبره هل سأبقى في الشقة حيث كنت أعرف أني سأذهب للجولان باكراً، ولكن لم أتحقق هل سأعود أو أبيت هناك. اتفقنا على ذلك وكنت خائفاً أن تتكرر مأساة اليوم الماضي ولكن ما كل من خاف نجا. في هذا اليوم الذي لم يكن يوماً سعيداً إذ أوله خبر وفاة الملك فهد وآخره حكايتي مع الحلاق العقاري، كان الزميل الأول المخلص أ. سيف الدين يتنقل بين مسؤولي الأمن لاستخراج تصريح باسمي لزيارة منطقة الجولان وكان له ما أراد. بارك الله فيه فقد عطل مصالحه وفرغ نفسه للحصول على التصريح لا يدفعه إلا الوفاء لوطنه وصديقه الذي تعرف عليه من خلال كتابته عن وطنه. (يتبع الأسبوع القادم) ص. ب 13035 - الرياض 11493