ماذا عساي أن أقول عن سوريا العروبة وأصالتها.. والحضارة وعراقتها.. والسياحة وبهجتها ففي هذا العام بعد ان اشتدت حرارة الصيف في مدينة الرياض عزمت على السفر.. فأعددت له عدته، وركبت سيارتي واصطحبت اثنين من اخوتي، وقلت باسم الله عليه توكلت، وتوجهت شمالا أقطع البيد من ورائها بيدُ - صحارى وقفار جزيرة العرب - متجهاً شمالا إلى البلاد التي خصها المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام بالبركة (بلاد الشام) وفي يوم السبت 15-5-1425ه الموافق 3 يوليه 2004م كنت قد وصلت مدينة دمشق (1) عاصمة سوريا وزرت المسجد الأموي الذي بناه الوليد بن عبدالملك 87ه ثم خرجت وتجولت بسوق الحميدية الشهير المزدحم بالمتسوقين وذهبت الى جبل قاسيون المَطَل الطبيعي على مدينة دمشق، والزائر لهذه المدينة يجد أنه قد تم الانتهاء من العديد من الطرق والأنفاق حديثاً، ويبدو لي أن المسئولين بهذه المدينة يسابقون الزمن لعمل الكثير وقد بت بها ليلتين ولسان حالي يقول ما قال الشاعر الصنوبري: صفت دنيا دمشق لقاطنيها فلست ترى بغير دمشق دنيا بل ما قال البحتري: سقى الله ما تحوي دمشق وحياها فما أطيب اللذات فيها وأهناها نزلت بها واستوقفتنا محاسن يحن إليها كل قلب ويهواها وفي صباح يوم الاثنين 17-5 الموافق 5 يوليو الساعة الحادية عشرة ذهبنا شمالاً الى مدينة حمص(2)، وكانت المسافة بين المدينتين 160 كيلاً وكنا نسير على طريق رئيسي مزدوج حديث الزفلتة، وفي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً دخلناها من حدودها الجنوبية.وهي مدينة كبيرة مترامية الأطراف تأتي في الترتيب الثالث أو الرابع بين مدن سوريا وفي الأثر يقال ان الذي أسسها رجل اسمه حمص بن المهر بن جان بن مكنف وسميت على اسمه وفيها ضريح الصحابي الجليل القائد الفذ سيف الله المسلول خالد بن الوليد وسكانها خليط من القبائل العربية ويخترقها نهر العاصي من جنوبها الغربي الى شمالها وتزدان هذه المدينة جمالاً ونضارة بالمزارع التي على ضفاف نهرها وبالقرب منها بحيرة قطينة التي تحيط بها المزارع من جميع الجهات فما تحسبك في هذه المدينة إلا في حديقة غناء تجود عليك من كل ما لذ وطاب من الثمار، وفي وسط المدينة تجد سوقها العامر ليل نهار فيه كل ما يثلج الصدر ويدعو للفخر.. شباب عربي سوري يتقد نشاطاً وحيوية يقوم بالبيع والشراء في مدينته وجل ما يبيع من صنع محلي وإنتاج بلدي وهذا ما وجدته في كل مدينة ومركز وناحية زرتها في سوريا.. وإن كنت قد وجدت الصناعات الشرق آسيوية قد غزت الأسواق.. وهذا ما أخشاه على الصناعة السورية التي نفخر بها. وفي المساء بتنا في فندق السفير وهو من أشهر فنادق المدينة وفي الصباح انطلقنا من حمص غرباً مع الطريق السريع المزدوج الذي يربط حمص بالمدن السورية على ساحل البحر الأبيض المتوسط وبعد حوالي 40 كيلاً اتجهنا شمالاً مع طريق فرعي أوصلنا الى قلعة الحصن(3) وهذه القلعة تقع على تل مرتفع يزيد ارتفاعه على 2100 قدم في شعاب جبال النصيرية وادي النضاره تحيط بها من جميع جهاتها مدرجات متوسطة الانحدار.. وتجولنا بداخلها وكالعادة في بلداننا لا المسئولون يهتمون بهذه الآثار ولا الشعوب يَكلَفون من أجلها، فلم أُكَلِف نفسي أن أضع تحت يدي أي كتاب يصف القلعة ولا يسرد لي تاريخها قبل أن أصلها وليتنا نتعلم من السياح الأوروبيين فقد رأيتهم بجواري وبيد كل واحد كتاب أعتقد أنه جلبه من بلده أحسبه يحتوي على معلومات عن هذه القلعة العظيمة المبهرة يتتبع هذه المعلومات ويبحث عن المزيد.. ومن القلعة اتجهنا شمالاً ثم غرباً مع طريق فرعي مزفلت تحف به الأشجار الطبيعية من كل جانب.. ترى على بعد النظر فلا ترى إلا جبالاً قد ازدانت بحلتها الخضراء التي تسحر الأعين وتأسر القلوب، ومررنا على قرية ظهر القصر وهي قرية صغيرة مزارعها ممتلئة بأشجار التفاح ثم توجهنا الى مشتى الحلو وهو موقع سياحي صيفي يوجد به فندق وشقق مفروشة وتناولنا الغداء فيه ومن ثم عدنا عصراً مع طريقنا شرقاً ثم شمالاً ناحية مركز مصياف ثم انحرفنا شرقا قبل الوصول لمصياف وقصدنا مدينة حماه وهي مدينة كبيرة تتميز بكثرة مساجدها ومنابرها التي لا يعلوها أي بناء ويغلب عليها الطابع الإسلامي الملتزم ويتوسطها سوق تجاري كبير يخترقها نهر العاصي من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي وتكثر به النواعير التي كانت قديما تستخدم للسقيا أما وقتنا الحاضر فللذكرى وهي مدينة أثرية قديمة انضمت للمدن التي فتحتها الجيوش الإسلامية في سنة 15ه دون قتال، قال امرؤ القيس عندما مر بها: تقطع أسباب اللبانه والهوى عشية جاوزنا حماه وشيزرا وبتنا في أحد فنادقها وصباح يوم الأربعاء 19-5 الموافق 7 يوليه اتجهنا شمال غرب الى مركز محردة ثم صعدنا الجبال الى أبوقبيس وهو منتزه طبيعي تجد به سحر الطبيعة ونقاوة الهواء ثم انحدرنا في اتجاه ساحل البحر الأبيض المتوسط الى جبلة(4) وهي مدينة صغيرة تصنف مركز منطقة، وقد تجولنا بها ولحظة الغروب كنا على كورنيشها المتواضع وهذه المدينة في حاجة للكثير من العمل وخاصة الشوارع بداخلها، وبعد صلاة العشاء اتجهنا شمالاً بمحاذاة الساحل على طريق سريع مزدوج الى مدينة اللاذقية ميناء سوريا وأقمنا في أحد الفنادق وبعد الساعة العاشرة ذهبنا لشاطئها وكان مزدحماً جداً بالناس خرجوا من منازلهم ليتمتعوا بهواء الشاطئ العليل ليلاً الذي يذهب بالخيال بعيداً مما جعلني أخاطبه: أيها الشاطئ هل تتذكر أباعبيدة عامر بن الجراح وخالد بن الوليد اللذين فتحا هذه المدينة في السنة الخامسة عشرة للهجرة عندما كانت جيوش رسل السلام تزيل الظلام من حولك وتنيرك بنور التقى والايمان هل تتذكر معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية وصلاح الدين الأيوبي عندما استعاد مدينتك من الصليبيين في أواخر القرن السادس الهجري بعد أن ذهبت في وقت غفلة وفرقة وشتات بين المسلمين.. أيها الشاطئ العليل إني أتوجس من وقتي الحاضر خيفة.. حيث الغفلة وشتات الأمر بين العرب والمسلمين واتساءل.. هل عاد الصليبيون بلباس جديد ونحن غافلون مفترقو الكلمة، لا لن يحدث هذا وابن سوريا البار بشار الخير شامخ الهامة في هذا القطر الشقيق.. هذا الشاب الذي إن خطب أسمع وأقنع.. وإن عمل أبدع وأنفع.. نسأل الله له التوفيق والثبات. وفي صباح يوم الخميس 20-5 الموافق 8 يوليه ذهبنا شمالاً باتجاه الحدود السورية التركية على طريق رئيسي مفرد ومنذ أن سلكنا هذا الطريق وكأننا نسير بداخل غابة من الأشجار واستوقفنا سد بللوران بعد حوالي 20 كيلاً من اللاذقية فوجدناه ممتلئا بالمياه تحفه الغابات من جميع الجهات أشجار الغابة التي على ضفاف هذا النهر فوجدت سيقان الأشجار قد تبادلت الفروع، والأغصان قد اشتبكت كأنها تقول لمن يريد أن يخترقها الاتحاد قوة.. فعدنا وامتطينا المركبة واتجهنا يميناً ومررنا ببلاد ربيعة ثم انحدرنا ما بين سفحين من الجبال ونزلنا على غابة (الفُرلق) وهذه الغابة تكثر فيها أشجار الصنوبر شديدة الارتفاع تحجب الشمس عنك من كثرتها وكثافتها وكان المتنزهون تحت هذه الأشجار والنهر يجري من تحتهم يطهون ويشوون وأطفالهم من حولهم يلعبون.. واستمرينا حتى وصلنا مركز كسب الحدودي وهذا المركز منتزه طبيعي جميل يوجد به الشقق المفروشة والمطاعم وجميع الخدمات الأخرى، وقد وجدنا العديد من أبناء الخليج، وفي أحد المطاعم التي اختير أن يكون في مكان مرتفع يطل على سفح من سفوح هذه المرتفعات الجبلية التي تكسوها الخضرة ما بين مزارع تفننت بها أيدي مزارعيها وطبيعة صاغها الخالق لم تعبث بها أيدي البشر وجدتني أتذكر بعضا من أبيات الشاعر صفي الدين الحلّي: الظل يسرق في الخمائل خطوه والغصن يخطر خطرة النشوان وكأنما الأغصان سوق رواقص قد قيدت بسلاسل الريحان الشمس تنظر من خلال فروعها نحو الحدائق نظرة الغيران وقبيل الغروب عدنا الى اللاذقية، وتناولنا وجبة العشاء على شاطئها وبينما نحن ننتظر وصول العشاء إذا بالكهرباء تنطفئ نتيجة لزيادة الأحمال وكان الشاطئ مزدحماً وخشينا أن يحدث هناك فوضى في هذا الظلام أقله صياح وزغاريد المراهقين إلا أنه لم يحدث شيء من هذا حيث أوقدت الشموع وأنيرت أنوار السيارات على المقاهي والمطاعم المكشوفة على البحر بل كان الناس في هذا الحال يأتون ويجلسون ويطلبون طلباتهم كنت أرقب هذا كله وأقول هذا هو دليل قاطع على بلوغ الأمن ذروته في هذا البلد الشقيق.. بارك الله في أيدٍ تحرسه وزاده الله أمنا واستقراراً. وفي يوم الجمعة 21-5 الموافق 9 يوليه توجهنا الى مركز صيفي آخر يقصده المتنزهون وهو مركز صلنفة، وفي الطريق مررنا بمركز الحفه وصلينا في أحد مساجدها صلاة الجمعة، وبعد الصلاة ذهبنا الى قلعة صلاح الدين الأيوبي صهيون وتجولنا بداخلها وكان معنا أحد الإخوة السوريين العاملين في القلعة على أساس أنه مرشد سياحي ولكن للأسف لم نجد لديه معلومات تاريخية ولا هندسية حتى ننقلها للقارئ الكريم وكل ما يمكن أن نقوله أننا رأينا في هذه القلعة فنا معماريا وعملا هندسيا عجيبا أملته الحاجة - وهي أم الاختراع - على من قاموا ببناء هذه القلعة ومن زاد بناءها وهي تقع على نهاية رأس جبل يفصله من جهة الشرق والغرب والجنوب شعاب شديدة الانحدار أما من جهة الشمال فقد فصلت يدوياً حيث تنحت الصخور بعرض (8-10) أمتار وبارتفاع 50م تقريباً حتى أصبحت القلعة غير متصلة ويمكن الدفاع عنها وقد وجدنا بداخلها كنيسة وأروقة لاسطبلات الخيل وخزان ماء كبيرا وقاعات للقيادة ومسجداً مساحته فيما أعتقد 120م2 قيل إن الذي بناه صلاح الدين الأيوبي وبها غرفة مبنية في طرفها الجنوبي تسمى استراحة برج البنات يقال إن الأميرات كن يجلسن فيها وعندما دخلت هذه الغرفة وجدتها تطل على نهاية ثلاث جهات الشرقية والغربية والجنوبية من القلعة ترى على مد النظر روعة جمال الطبيعة ويتخلل هذه الغرفة هواء عليل فقلت لصاحبي إنها جديرة بأن تخصص للقوارير، ثم توجهنا من هذه القلعة التي كسيت الجبال من حولها بالأشجار المتصلة التي لا ترى فيها فاصلاً ثم صعدنا حتى وصلنا صلنفة وهي من أجمل ما رأيت في سوريا الحبيبة من حيث جمال الطبيعة وصفاء الجو على كثرة ما رأيت بسوريا من جمال وقد تغير علينا لون الجبال وتربتها حيث أصبحت تميل الى اللون الأبيض، وقد تناولنا بها وجبة الغداء وكانت ألذ ما أكلت على كثرة ما أكلت من وجبات شهية من مشاوي سوريا.. ثم اتجهنا الى أعلى قمة بها وكان الضباب يحجب الرؤيا، وعند وصول القمة ترجلت من السيارة ونزلت لأطل من حافة هذا المرتفع على سهل الغاب.. يا إلهي ما أجمل ما رأيت.. مزارع على مد النظر بأشكال هندسية جميلة، اتخذت قرارا من اللحظة أن يكون لها نصيب من هذه الرحلة.. سنأتي على ذكرها لاحقاً، وعند عودتي للسيارة إذا بأربع سيارات لاندكروزر إماراتية قد اصطفت بشكل دائري ونزل منها أصحابها وفتحت مسجلاتها على أغاني العرضة الاماراتية وبدءوا يرقصون وإذا بأحد رجال الأمن في هذا الموقع قد نسي نفسه في ظل النشوة، وقام بإطلاق النار ابتهاجاً، وما وجدت نفسي إلا أتوسطهم وأشاركهم عرضتهم فصارت قمة الجبل خليجية تحرسها وتبتهج بزوارها ليوث سوريا.. وفي ظل هذا المرح والزهو والانشراح قلت أبياتا عامية منها: سمونا في حمى قمة صلنفه نظمنا الشعر والصدر انشراحي جعلناها خليجية بدفة يجاري صوتنا صوت الرياحي في دار بشّار خذينا لَفه من أمنها ماحتجت فيها اسلاحي وفي صباح يوم السبت 22-5 الموافق 10 يوليه ذهبنا باتجاه طرطوس جنوباً وانحرفنا شرقا الى سد مشقيتا الذي تم تصوير مسلسل الكواسر الشهير به وتناولنا على ضفافه الفطار.. وروعة هذا السد لا حدود لها وقد قيل لنا من أصحاب القوارب التي تؤجر به إن طول امتداد الماء 17 كيلاً وعندما وقفنا على قمة أحد الجبال التي تحيط به رأينا مياهه وهي تمتد على طول النظر وأشجار الطبيعة تكسو سفوح الجبال من حوله بالخضرة وهذا المنظر الخلاب ذكرني بعضا من أبيات الشاعر الأندلسي أبي اسحاق ابراهيم ابن خفاجة وهو يصف أحد أنهار الأندلس قال: لله نهر سال في بطحاء أشهى وروداً من لمى الحسناء غدت تحف به الغصون كأنها هدب تحف بمقلة زرقاء والريح تعبث بالغصون وقد جرى ذهب الأصيل على لجين الماء ثم اتجهنا غرباً الى بانياس وهي مدينة ساحلية متوسطة تطل عليها من ناحية الشرق قلعة المرقب فذهبنا لهذه القلعة وتجولنا بداخلها ووجدناها محافظة على الكثير من بنائها وقيل إنها كانت تستخدم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي معتقلاً لسجن الحكام المعزولين من مناصبهم، ويتوسط هذه القلعة كنيسة ولها أروقة أعدت لتكون اسطبلات للخيل يتم الدخول لها من بوابة واحدة غربية تصعد لها عن طريق درج خارجي مكشوف. ومن ثم اتجهنا مع الطريق السريع وفي منتصف الطريق بين بانياس وطرطوس مررنا على شاطئ الرمال الذهبية ودخلنا به وهو أجمل الشواطئ التي مررنا بها حيث تم استثماره من القطاع الخاص، ومخصص للعوائل وبه اسكانات خاصة وأخرى تؤجر وشاطئه رملي جميل.. ثم اتجهنا الى طرطوس وبتنا في أحد فنادقها وفي الصباح يوم الأحد 23-5 الموافق 11 يوليه، سمعت أخي الأصغر (عايض) يدندن ببيت من محفوظاته ويقول: سقى الله نجداً والسلام على نجدٍ وياحبذا نجد على القرب والبعد فعرفت قصده.. فزجرته وقلت دع منك العجلة الرحلة لم تكتمل بعد وقلت له من محفوظاتي: سقى الله أرض الغوطتين وأهلها فلي بجنوب الغوطتين شجونو والغوطة غوطة دمشق، فقال بيتاً آخر من محفوظاته: لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه فعرفت أنه اتخذ قراراً.. وقد هزه الشوق لأم خالد فقلت هيا بنا الى موقف الباصات وحجزنا له وركب الى دمشق وثم على الطائرة الى الرياض. أما أنا وأخي الآخر (غتار) فقد قررنا التوجه الى مدينة حلب وتوكلنا على الله وعدنا مع الطريق السريع شمالاً ثم انحرفنا شرقا ومررنا بمركز الشيخ بدر ثم الى وادي العيون وهو منتزه طبيعي ثم مركز مصياف ثم اتجهنا للطريق الذي يخترق سهل الغاب من الجنوب الى الشمال وقد عزمت أن أسير معه منذ ان رأيته من على قمة جبل صلنفه، ثم بدأنا بالمرور على قرى سهل الغاب وهي تل سحلب وسقيلبية وأفاميا والزياره حتى وصلنا الى مركز جسر الشغور وطوال الطريق كانت المزارع على يسارنا وكنا ننحرف بين الفينة والأخرى وندخل بعضها ونتجاذب أطراف الحديث مع مزارعيها وكانت معظم منتجات هذا السهل من القطن ليس لأنه لا ينتج إلا هنا بل لكونه مربحا لهم.وبعد ذلك اتجهنا شرقاً ومررنا بمركز أريحا وتجاوزناه الى مدينة إدلب، وكانت الأرض مكتسية بأشجار الزيتون ومعاصر الزيتون في كل مكان، ولم نمكث في إدلب إلا ساعة واحدة حيث وقت غروب الشمس وكنا نبحث عن سكن، وقيل لنا إن مركز أريحا به جبل مرتفع يقصده أهل حلب صيفاً حيث الهواء العليل وعدنا الى أريحا، وصعدنا الجبل وهو جزء من جبل الزاوية وبالفعل وجدناه أكثر حسناً مما سمعناه، وبينما نحن عند أحد المكاتب العقارية لإنهاء استئجار شقة نبيت فيها إذا بشابين على وجهيهما الوجوم والقلق، وأتى معهما شاب ثالث.. قلنا لهما عسى الأمر خير.. قالوا فتاة في ريعان الشباب ضربها تيار كهربائي وهي الآن في الشقة فاقدة الوعي، ونحن ننتظر سيارة الاسعاف.. فقلنا لهم أسرعوا وأتوا بها لنوصلها للمشفى في أسفل الجبل ففعلا وعند المشفى انتظرنا حوالي ساعة من الزمن فخرجت علينا وهي والحمدلله تسير على قدميها وأمها بجوارها يتهلل وجهها فرحاً، وقد سعدنا بهذه النتيجة الطيبة التي كان لنا نصيب من الأجر فيها إن شاء الله.. وعدنا بهم الى شقتهم فوقفت والدتها بجوارنا وهي لا تعرفنا ولا نعرفها سوى أننا سعوديون من خلال لوحة السيارة ورفعت يديها الى السماء وقالت: أسأل الله أن يوفقكما يا أولادي وييسر أموركما ولا يريكما مكروهاً.. قلت شكراً يا خالة لا نريد أكثر من هذا الدعاء ثم ذهبنا.. وأحسب أن الله قد فتح لدعوتها أبواب السماء ولا أعتقد أنه بات في أريحا تلك الليلة أكثر فرحا بعد والدتها منّا وفي صباح يوم الاثنين 24-5 الموافق 12 يوليه اتجهنا شرقا ثم شمالا مع طريق سريع الى مدينة حلب(5) وكانت المزارع على مد النظر عن اليمين والشمال على أرض منبسطة ساحرة تسقى عن طريق الآلات الحديثة.. وفي اعتقادي أن كل ما ينبت في أرض الدنيا ينبت في هذه الأرض حيث الهواء العليل.. والماء السلسبيل.. والتربة صفراء لا رمل ولا طين.ومدينة حلب قديمة قدم التاريخ قيل إنه سكنها سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكان يحلب فيه غنمه في الجمعات ويتصدق به فيقول الفقراء (حلب.. حلب) فسميت حلب وفي وقتنا الحاضر تعتبر المدينة الثانية في سوريا بعد دمشق العاصمة وهي مدينة كبيرة مترامية الأطراف معظم أنواع الصناعة السورية تنتج بها ويسكنها أسر توارثت التجارة والصناعة من القدم، يتوافد عليها التجار من أنحاء البلدان للشراء والمتاجرة في بلدانهم.أعود وأقول كنا عند الساعة العاشرة صباحاً قد أوقفنا سيارتنا في مواقف أمام بوابة قلعة حلب الشهيرة، وهذه القلعة يحيط بها سور عليه بوابة من ناحية سوق المدينة القديم تصعد لها مع درج كأنك تصعد ستة أو سبعة أدوار إلا أن الدرج انسيابي والمساحة بين السور الأرضي للقلعة والقلعة تعطي فرصة للمدافعين عن القلعة رمي المعتدين بالمنجنيق والسهام وغيرها، لمن تجاوز السور الخارجي ويعتبر هذا خط الدفاع الأول، ثم يأتي باب القلعة الأول الذي يعتبر خط الدفاع الثاني وقد رأيت فتحات من فوق رأسي وأنا أدخل القلعة فقيل إن هذه الفتحات تستخدم لصب الزيت الحار على المعتدين عندما يستطيعون فتح باب القلعة والدخول، ثم تجد بابا آخر وهو خط دفاعي ثالث ثم تدخل الى القلعة وتنحرف يمينا فتجد مجلسا كبيرا للحاكم أو القائد له مدخل سري خاص عبر ممر ضيق من الدرج، وبداخل القلعة سوق تجاري وغرف سكن ومسجد وحمامات استحمام وحاليا يجري بالقلعة ترميمات وقد رأيت جزءا في وسط القلعة غير مسموح الدخول له وقيل لنا إن هناك بعثة فرنسية سورية مشتركة عثرت على آثار ومواقع أثرية بالقلعة تعمل الآن على استكشافها وترميمها. وهذه القلعة تقع على تل مرتفع يتوسط أرض حلب المنخفضة.. وبعد ذلك خرجنا من القلعة واتجهنا سيراً على الأقدام لسوق حلب القديم بجوار القلعة ودخلنا به ووجدناه على شكل ممرات ضيقة وطويلة.. الدكاكين على اليمين والشمال وصرنا نسير به وننظر ولا نتكلم وبعد أن أعيانا التعب دخلنا على أحد أصحاب الدكاكين وكأننا مرسلون له وسألناه بعض الأسئلة وكان أول حلبي في هذا السوق نستفسر منه فطلب منا الجلوس وقلنا نحن في عجلة من أمرنا وألح علينا فجلسنا وجاء بالماء والشاي ثم صرنا نتبادل الأسئلة فقال لنا: أي مكان تريدونه سوف أذهب معكم وأدلكم عليه وأصر على ذلك وأغلق دكانه وذهب معنا فصرنا في حيرة من أمر هذا الرجل فتوقعت أنه ربما يريد مقابل ما يقدم من خدمة مبلغا من المال وقد تنبه لذلك فقال: يا أخي أنتم ضيوف علينا ولأول مرة تأتون حلب وسوف تعودون لدياركم ورجل واحد من أهل حلب قد يعطيكم انطباعا طيبا آخر قد يأتي بالعكس.. اسمع يا أبا مهند لا يمكن في هذا المقام أن أجمع (الفلوس والناموس) وهو يعني أنه لا يمكن أن يأخذ فلوسا وفي نفس الوقت يكسب ناموسا فعرفت أنه طالب ناموس، فقلت: بارك الله فيك وكثر الله من أمثالك فصار معنا طوال ثلاثة أيام أقمناها في حلب لا نفترق إلا وقت النوم وعرفت منه فيما بعد أنه يملك أكثر من أربعة محلات تجارية تركها وفرغ نفسه معنا أسأل الله أن يمد في عمره ويحسن عمله ويزيد رزقه. ومن عمل هذا الشاب تأكدت ان الأصالة العربية ما زالت تجري في عروق أبناء أوطاننا، وتذكرت دعاء تلك الأم التي نقلنا ابنتها للمشفى فقد مشينا أكثر من كيل في سوق ممتلئ بالناس لا نسأل أحداً حتى وصلنا محل (مصطفى أشتر) (أبوعبدالرزاق) الذي صحبنا وكأنه مرشد سياحي حتى تركنا مدينة حلب أقول يا أبا عبدالرزاق أكثر الله من أمثالك لقد نقلت لنا صورة عن الشاب الحلبي السوري العربي المسلم نفتخر ونعتز بها. ومن المصادفات الجميلة أن أخي (غتار) كان قد تعلم على يد أحد المدرسين السوريين من أهل حلب قبل خمس عشرة سنة وبقي هذا المدرس في ذهنه لاخلاصه في عمله فصار يسأل عنه ووجدنا بالمصادفة من دلنا على رقم هاتفه فهاتفناه وقضينا احدى الليالي معه في منزله وكانت ليلة للذكرى بينه وبين أخي وهذا المدرس في أواخر العقد السابع من عمره وهو (محمد سعيد الطحان) ولقد أسمعنا بعضاً من أشعاره الفصحى التي كان يخفيها عندما كان مدرساً عندنا في محافظة (تثليث) التابعة لمنطقة عسير.مكثنا في حلب يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وفكرنا في الذهاب الى مدينة الرقة بالجزيرة إلا أن الوقت لم يسعفنا حيث كنا في حاجة لأسبوع حتى نتتبع مدن وقرى بادية الشام بالجزيرة شمال وشرق سوريا وإن شاء الله يكون لها زيارة أخرى.وفي صباح يوم الخميس 27-5 الموافق 15 يوليه ذهبنا شمالاً مع طريق رئيسي ومررنا بقرية حريتان ثم اتجهنا الى مركز عزار على الحدود السورية التركية وتجولنا به وتناولنا وجبة الغداء به ثم اتجهنا غرباً الى مركز عفرين وهو يقع على نهر عفرين وبه مزارع ممتدة على ضفاف النهر وأشهر انتاجه وأجوده التفاح والخوخ (الدراق) ثم اتجهنا جنوبا ومررنا بمركز دير سمعان وبه قلعة تجولنا بداخلها وهي عبارة عن معابد دمرها أحد الزلازل فتجد أحجارها متناثرة في كل مكان وسليمة ويمكن اعادة ترميمها بنفس أحجارها ولم نجد بهذا الموضع الأثري سوى سواح من أوروبا.. ثم استمرينا مع طريقنا حتى الطريق السريع المزدوج الذي يربط حلب بدمشق وعندما صارت حلب خلفنا متجهين جنوبا تذكرت قول الشاعر: وما أمتعت جارها بلدة كما أمتعت حلب جارها هي الخلد يجمع ما تشتهي فزرها فطوبى لمن زارها وقبل وصولنا دمشق اتجهنا غرباً الى مركز الزبداني ثم بلودان وهما موقعان يقصدهما السواح بعوائلهم وخاصة الخليجيين وبعد صلاة العشاء كنا في أحد بيوت الشَعر التي في أعلى الجبل وكان يقدم الخدمة شاب اسمه (فريد) ولقد أخذ من اسمه نصيب فهو فريد في عمله وفي لباقته ونشاطه وقد التف علينا ثلة طيبة من الشباب السوري من غير ميعاد، فكنا نشرب من ماء النبع.. ونلعق من العسل الجبلي كثير النفع.. ونتجاذب أطراف الحديث ما بين شعر ونثر وسجع.. حتى أخرج فريد من حفرة المندي.. الكبش الهرفي.. فأكلنا حتى تمددت الكروش.. ونزلت الرموش..فتناولنا الفروش.. ونمنا وقد اشتد البرد.. وما صحونا وإلا والظلام قد تبدد.. فودعنا صحبنا وسافرنا وكان ذلك يوم الجمعة 28-5 الموافق 16 يوليه وبعد صلاة العصر كنا قد جاوزنا الحدود السورية ودخلنا الحدود الأردنية. بقي أن أقول: لقد وجدت في بلدي الثاني سوريا الحبيبة، البحر والنهر.. والسهل والوحل.. والآثار والعمار.. والماضي والحاضر.. والحر والبرد.. وجدت فيها عمود الكهرباء والهاتف.. في كل مكان واقف.. والطريق مزفلت ممتد.. من الحد الى الحد.. والأسواق ممتلئة بالصناعة المحلية.. والخضار والفواكه البلدية.. وجدت الفنادق في كل مكان.. والشقق المفروشة تبحث عن السكان.. وجدت الدولار.. يكفيك ربع نهار. لقد وجدت ما هو أهم من ذلك كله (الأمن) فخلال رحلتي لم أجد رجل أمن يعترض طريقي.. ولكني عندما احتاجه أجده أقرب من ريقي..في الختام يطيب لي أن أوجه أربع رسائل: الرسالة الأولى: لأصحاب رؤوس الأموال العرب وأخص الخليجيين منهم حيث فرص الاستثمار السياحي كثيرة في هذا البلد وجميع مقومات السياحة موجودة وأنا على يقين لو كان في هذا البلد مشاريع سياحية استثمارية كبيرة لاستقطبت ملايين السواح سنوياً. الرسالة الثانية: للشباب العربي وخاصة الخليجي أقول السياحة ليست الذهاب الى عاصمة الدولة التي تذهب اليها أو احدى مدنها الكبار والسهر في الليل والنوم في النهار.. بلادنا العربية فيها الكثير الذي لا نعرفه وليكن أجدادنا قدوة لنا حيث كانوا يمتطون النوق ويجوبون الصحارى والمدن والقرى ويدونون ملاحظاتهم ومشاهداتهم ويستمتعون برحلتهم مع ما يكابدونه من مشاق أما الآن فليس لدينا عذر فكل شيء ميسر لنا.. فما أمتع أن تبيت في قرية أو على سفح جبل أو ضفاف نهر.. أن تتجول بداخل قلعة أو متحف أثري أو تحضر حفلة زواج ريفية أو بدوية.. ما أمتع أن توزع أيام رحلتك بحيث كل ليلة يكون المبيت في مكان غير الذي بت فيه ليلتك السابقة تطرد الملل وتبحث عن الجديد أدعوكم لهذا وجربوا ستجدون ما يسركم.. سيبقى الذهن صافياً، والجيب غافياً، وتزداد صحة وعافية. الرسالة الثالثة: للشعب السوري العربي المسلم أقول: لقد وهب الله لكم أرضاً معطاء وقيادة شابة لمسنا نحن الزائرين هذا العام الكثير مما عملت على أرض الواقع فما سلكنا طريقاً إلا وجدناه قد جددت زفلتته.. ولا زرنا مدينة إلا استطعنا السحب من حسابنا عن طريق آلات الصرف وما كان ذلك متيسراً في الزمن القريب وما.. وما.. فالتفوا واسندوا قائدكم وادعوا له بالثبات والتوفيق. الرسالة الرابعة: للقائد الفذ.. الشاب العربي المسلم الأصيل د.بشار الأسد.. أقول أنت بشار وأنا أبشرك أنني لم أتحدث مع كبير وصغير في مدينة أو قرية من أبناء شعبك إلا وجدته يحبك.. ولولا أن هناك أعمالا صالحة لمسها أبناء وطنك لما سمعنا هذا الحب الذي كان يقال لنا دون خوف أو تحفظ.. وكمواطن عربي مسلم يهمني أن أرى بلداني العربية تتقدم للأفضل أرجو الاهتمام بالمنافذ الحدودية فهي واجهة البلد وعنوانه وايجاد كتيبات وخرائط تدل السياح عند المنافذ على مواقع السياحة والآثار توزع بالمجان أو بقيمة رمزية. رحلنا وزرنا بلاد الأسود نظمنا القوافي جوار السدود بلاد العروبة ودار السلام بلاد الحضارة بلاد الجدود وجئنا دمشق وطاب المبات وزرنا حَمَاة وحمص الفهود ودُرنَا بجبلة مع بانياس وباللاذقية سعدنا سعود مررنا بطرطوس وأيضا القلاع صعدنا النوايف وعالي الرجود رحلنا شمال مع سهل غاب قاصدين حلب بالصناعة تجود وإن جئت نهراً وسداً وغاب صار فكري مع الحسن يذهب ويعود هذه رحلتي في مرابيع شام دار حافظ وبشار تلك الأسود ***** ص.ب 13035 الرياض 11493 ***** الهوامش 1- فتحت في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح في السنة 14ه واتخذها الأمويون فيما بعد عاصمة لدولتهم (معجم البلدان: لياقوت الحموي). 2- فتحها المسلمون بقيادة ابن الجراح سنة 15ه (معجم البلدان). 3- بنيت سنة 1031م وسكنها جالية كردية عسكرية واحتلها الصليبيون سنة 1099م واستولى عليها تنكر أنطاكية سنة 1109م وأخرجه منها السلطان بيبرس سنة 1271م (القلاع أيام الحروب الصليبية قولفغانغ مولر - قيز) ترجمة محمد وليد الجلاد. 4- فتحها المسلمون من سنة 15ه بقيادة عبادة بن الصامت.. بنى فيها معاوية بن أبي سفيان حصناً في عهده أسكن به الجند، استعادها صلاح الدين من الصليبيين سنة 584ه (معجم البلدان). 5- حاصرها عياض بن غنام الفهري بأمر من أبي عبيدة بن الجراح سنة 15ه وطلب أهلها الصلح وصالحهم وأقر أبوعبيدة هذا الصلح وفي نهاية القرن العاشر الميلادي صارت عاصمة لدولة صغيرة يحكمها الحمدانيون، ومن أشهر حكامها سيف الدين الحمداني الذي خلد ذكر شاعر العرب أبوالطيب المتنبي وفي 962م دمرت المدينة بعد أن هزمه القائد البيزنطي (نيقفور فوكاس) وفي أول القرن الحادي عشر الميلادي أصبحت من أملاك أمراء السلاجقة، وبعده استعادت المدينة مكانتها كمركز تجاري معهم (معجم البلدان - القلاع).