حثهم على الرفق واللين، ودعاهم إلى التبشير والتيسير أكثر مما حث ودعا إلى غيرها من خصال هذا الدين الذي أنزله الله عليه. شهدت له زوجه عائشة فقالت: (ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتهك حُرمة الله فينتقم لله عز وجل) (رواه البخاري). عاش أصحابه حياتهم معه فكانت الرفق كله، فقد تعلموا منه ان الرفق واللين من رسالة هذا الدين، وأن هذا الدين أبعد ما يكون عن العنف والقسوة، فالرفق واللين رحمة، والعنف والقسوة ظلم، وما أرسله الله لهم إلا ليكون مبشراً لهم ورحمةً بهم، ألم يقل له ربه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }. خرج عليهم ذات يوم يبشرهم فقال: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هينٍ سهل) (رواه الترمذي). وأضاف: (يسروا ولا تُعسروا، وسكّنوا ولا تُنفّروا) (رواه البخاري)، وزاد في حثهم على الرفق فجعله الخير كله فتسابقوا على الرفق تسابقهم على فعل الخير، وفي قلوبهم يتردد صدى صوته: (من أعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حُرم حظه من الخير) (رواه الترمذي). ومع ذلك فإنهم في بعض المواقف ينسون الرفق - خاصة إذا تعلق الأمر بالدين - فيكون بينهم يذكرهم ويعلمهم. دخل أعرابي ذات مرة المسجد وبال فيه، فغضبوا وثاروا عليه حتى كادوا أن يقعوا به، فتبسم وضرب له رسول الله المثل في التعامل بالرفق وقال: (دعوه.. وأهريقوا على بوله سجلاً من ماء، فإنما بُعثتم مُيسرين ولم تُبعثوا معسرين) (رواه البخاري). ثم رأوه يرفق ويتسامح حتى مع مَنْ يحاول المساس بحياته أو إيذائه، ففي إحدى غزواته تجاه نجد أدركتهم حرارة الشمس فنزل وأصحابه في مكان كثير الشجر يستظلون به، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة علق عليها سيفه، فإذا به يصحو على أعرابي واقف أمامه وقد أخذ السيف، فقال الإعرابي له: ما الذي يمنعك مني؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: الله.. وكررها ثلاثاً (رواه البخاري)، فلم يحرك الأعرابي ساكناً ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عفا عنه وتعامل معه برفق ولين أثار دهشة مَنْ معه، ولكن ذلك خلقه ومنهج الإسلام في التعامل مع الأصدقاء لتمكين محبتهم ومع الأعداء لكسبهم وكف أذاهم. روى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا من التسامح والرفق واللين من تاريخ الأنبياء السابقين، ذلك أن نبيا من الأنبياء ضربه قومه حتى سال دمه فأخذ يمسح الدم عن وجهه ويقول: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (رواه البخاري). والتعامل بالرفق واللين والتسامح وسام الخلق الحسن الذي تحلى به طوال حياته واتبعه فيه أصحابه، فلا يكون المسلم ليناً رفيقاً متسامحاً وميسراً إلا إذا أزال من قلبه كل ذرة شعور بالكبر أو الغرور، وفي هذا قال لهم: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) (رواه مسلم)؛ ذلك أن التواضع يطفئ نار العزة بالإثم في النفس، ويفتح بلين ورفق وتسامح باب الحوار مع الآخر (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ السلام) (رواه البخاري). وضرب لهم مثلاً يبين أثر التواضع في فعل الخير الذي يؤدي إلى الجنة فقال: (مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأُنحِّينَّ هذا عن المسلمين ولا يؤذيهم، فأُدخل الجنَّة) (رواه مسلم). ولو كان في قلب ذلك الرجل ذرة من كبر لما فعل ذلك ولُحرم الجنة. لهذا كان حثه لهم دائما على فعل الخير وإتيان المعروف وعدم استصغاره مهما كان، فهو يردد عليهم بلا كلل أو ملل: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) (رواه مسلم). وبهذا أصبح أمر المسلم كله خيراً: حياته تواضع، ومسلكه يُسر، ومذهبه تسامح، ومسلكه لين على نحو ما يرى عليه نبيه صلوات الله وسلامه عليه، يقول ويفعل.