انطلق صوت الحق مدوياً: الله أكبر.. مؤذناً لفجر يوم جديد، فجر أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك. انطلق صوت الحق فملأت صيحته أرجاء المسجد الحرام وملأت قلوب المصلين والمعتمرين رهبة وخشوعاً، بعدها أقيمت الصلاة ودوّى صوت الإمام مرتلاً آيات القرآن الكريم لتضفي على الجو سكينة وروحانية، بعدها نادى المؤذن: (الصلاة على الأموات يرحمكم الله). لقد ذكّرنا هذا النداء في النهاية المحتومة لكل مخلوق مهما طال الزمن، بعدها انتهت صلاة الجنازة وتقدم الأقرباء والأصدقاء والمحبون ليحملوا نعوش موتاهم، تقدمت معهم لأشارك في حمل النعش لأقرب قريب، تقدمت والقلب يخفق ويعتصر لأنني أدركت أنه الفراق الأخير، فعندما يودع أحدنا صديقاً أو عزيزاً أو قريباً مسافراً، فإن لحظات الفراق يكون لها في النفس وقع محزن وفي القلب حرقة، لكنه يعيش بعدها على أمل اللقاء المرتقب ولو بعد طول زمن، ولكن كيف يكون حالك وأنت تحمل على كتفك جثمان أقرب قريب، جثمان شقيقك الأكبر الذي هو أقرب ما يكون لوالدك، تحمله وتسرع الخطى، ولكن إلى أين؟ تنظر إليه والأيادي تتناقل جثمانه برفق، ولكن إلى أين؟ إلى مثواه الأخير، ذاك المثوى الذي لا يتجاوز المترين طولاً والمتر عرضاً، ثم ترى التراب بعدها يتهاوى ليغطي جسد ذاك العزيز، ليطوي آخر لحظة مع هذه الدنيا، وبعدها مكث الجميع قليلاً ودعوا الله أن يتغمد الفقيد في واسع رحمته، ولكن لا بد بعدها من العودة إلى منزله لنعزِّي أنفسنا وتلك الزوجة التي اعتصر الألم قلبها وأنهكت السنون جسمها الذي تجاوز الخامسة والسبعين ويكابد ويعاني من فشل الكلى والغسيل لهما يوماً بعد يوم، لقد كانت صابرة، وحمدت الله على كل حال، ولكنها لم تستطع أن تحبس العبرات التي تساقطت من مآقيها حزناً وألماً على فراق من كان يؤنسها ويقوم بخدمتها ومساعدتها في تلك الظروف الصحية الصعبة. لقد ألمّ المرض بزوجها فجأة ودون مقدمات، فلم يستطع الكلام وإنما التعبير بالإشارة، وهذا ما آلم الجميع، بعدها عادت معي الذكرى إلى تلك البسمة التي كانت تعلو محياه حينما كنت أذكّره بموقف طريف علني أخفف عنه معاناة ما يقاسي، ولكن لم تكن الفترة طويلة إذ ودّع الجميع، ودّع زوجته وأبناءه المرافقين، ودّع بناته اللاتي قدمن لزيارته، وإننا لنرجو من الله العلي القدير أن يجعل ذلك في موازين من كان سبباً في جمع شمل الأسرة لوداع والدهم وتقديم الرعاية والخدمة له ليحصل الجميع على ذلك الأجر الذي وعد الله به عباده، والشكر موصول كذلك لأولئك المعزين الذين خففوا بنبلهم وكرمهم هول المصاب، إنه على كل شيء قدير.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.