عالم البادية مدرسة تجد نفسك بها تتلقى عادات وتقاليد أصيلة وتكتسب الصفات الحميدة وتمارس الحياة الطبيعية التي فطر الناس عليها مروراً بمراحلها فتكون الابن المطيع ثم الأب المسؤول تؤسس ذلك في نفسك وتؤصله بأبنائك، وبذلك استطاع أبناء البادية والقرى إنجاب أبناء صالحين يصبحون أعضاء فاعلين بمجتمعهم يحملون شهادات عليا يخدمون بذلك وطنهم ودينهم يرتكزون على أساس الوطنية التي تبدأ بالولاء داخل الأسرة في صورة تكافلية تتسع دائرتها إلى أن يضمنا منزلنا الكبير بحدوده المترامية، فأبناؤه يحمونه ويحافظون عليه بعون الله، ولأننا نعيش في هذه الأيام ذكرى اليوم الوطني ونسترجع ما كان من أمجاد ونستعرض بناءنا للمستقبل ونستنكر ما يقوم به البعض من أبناء تنكروا لدينهم ووطنهم وانتسبوا للإرهاب.. أين الوطنية من أبناء اتبعوا طريق الشيطان حتى شاعت وانتشرت قضايا النصب والاحتيال؟.. وفي محاولة منا في طرح بسيط وربط الأبناء بأصولهم عن طريق آبائهم، فقد توجهت (الجزيرة) إلى شخصية عرفت بوطنيتها الصافية وحبها للخير وتكريم العلم والعلماء وإصلاح ذات البين بين الناس والسعي الدؤوب لإرساء مفاهيم حب الأرض والوطن واستلهام العبر من قادة أفذاذ سجل لهم التاريخ مواقف مشهودة في أنصع صفحاته، شخصية اجتماعية عُرف عنه انشغاله بما يفيد الأبناء لمستقبلهم وحاضرهم لا يدخر فرصة إلا ويستثمرها لإبداء النصح والإرشاد والحث على طلب العلم والاستقامة والاستزادة من فضل الله في الدنيا والعمل للآخرة، ولم ينس تربية أبنائه على ذلك حتى نالوا الشهادات العليا والمناصب المرضية، ذلكم هو الشيخ بندر بن نايف بن حميد، حيث تحدث ل(الجزيرة) عن هذه المعاني الوطنية السامية فيقول: عرفت الدنيا وأنا ابن الصحراء أقمت في القرية والمدينة وأسكن في قلب العروس تعلمت إكرام الضيف وحسن الجوار وصلابة الرأي وورثت العادات الحميدة وقوة العزيمة تعوَّدنا على الظلام والوحوش فلا نهابها نحزن لحزن الآخرين ونفرح لفرحهم ونتكاتف في الصعاب، ومرت بنا الظروف فأكلت لحم (الهرش) المغلوث ولحم الغزال، شربنا الماء الكدر والزلال، أكلنا من العشب واستمتعنا بالفقع، كان حليب الخلفات غذاء لنا ومرَّ بنا الجوع والعطش، ويضيف الشيخ ابن حميد: نشأت وترعرعت من البادية إلى القرية، لم أعرف والدي الذي وافاه الأجل ولم ِأعرف التعليم تزوجت وعمري سبعة عشر ربيعاً ورزقت بأبناء عملت على تربيتهم التربية الصالحة وهم الآن يخدمون الوطن بشهادات عليا، عشت بقريتي عروى بنجد غرب الرياض إلى أن بلغت من العمر سبعة وثلاثين عاماً ثم إلى الرياض واستقررت في قلب العروس جدة. وقال الشيخ ابن حميد: لا أنكر أن هناك سناً معينة من العمر يمر بها الشباب (وكنت أحدهم).. بعض الطيش ولا أعصم نفسي من الأخطاء، لكنني لا أعود لتكرارها وأستغرب كيف يحتال أبناء الوطن الآن وهم أبناء البيت وأحب أن يستمع مني هؤلاء الشباب لهذه القصة: فقد كان هناك رجل لا يحضرني اسمه لكنه من فخذ الشيابين من قبيلة عتيبة تجاور مع آخر من فخذ المقطة في وقت كان العيش ضنكاً فاستعارت زوجة الشيباني إبرة من زوجة الأخير لتخيط بها ملابسها في زمن ندرة للإبر وعدة المخيط فجاء القدر فافترق الجاران فما كان من الشيباني إلا أن حافظ على هذه الإبرة ثم باعها بقليل من السمن ثم باع السمن بحمل ببطن أمه ثم كبر الحمل فباعه ببكرة في بطن أمها فطرح الله بركته بها، لكن صاحب الأمانة وافته المنية فما كان من الأبناء إلا البحث عن صاحب الحق وهي المرأة زوجة جار والدهم حتى وجدوها وساقوا لها سبعة وعشرون رأساً من الإبل وكانوا في وضع معيشي يُرثى له فقالوا لها: هذه قيمة الإبرة التي تركتها لدى والدينا ونطلب منك أن تسامحيهما وتدعو لهما، فما كان منها إلا البكاء والدعاء، ومن ذلك استشهد ثم أتساءل: ما بال بعض شبابنا الآن ينصبون ويحتالون على الغير، فمثلاً يفتحون المساهمات الوهمية المختلفة، فأقول ارحموا أبناء وطنكم ودينكم يرحمكم الله لا تسعوا وراء الثراء السريع يتبعه الفقر السريع وارضوا بالقليل يأتيكم الكثير.ويذكر شيخنا ويقول: لقد التقيت الشيخ فهيد بن رميل الشمري مع إبله وكنت ابن العاشرة أيام الصبا، وسألته عن عادات البادية وكان عمره زهاء ثمانين عاما فقال: لكل قبيلة حمى وحدود معروفة ولا يدخل حمى القبيلة إلا من أخذ الأمان من أي فرد من القبيلة حيث يضع على عصا الدخيل وسم إبله وهم في ذاك الوقت يأتون أفرادا للتجارة أو غيرها وكانت تمتد حدود بعض القبائل لمساحات شاسعة تصل إلى ألف كيلو متر، بعد ذلك يستطيع أخذ الأمان من شيخ القبيلة فيكون بذلك وصل إلى رأس الجبل ومن هنا أقول: ما بال بعض شبابنا يقتلون رجالاً وينتهكون حرمات وولي أمرنا يعطيهم الأمان.. ذلك ليس من خلق الإسلام ولا من شيم العرب حاضرة وبادية. واستطرد الشيخ بندر بن حميد بقوله: لقد رأيت في الماضي من حياة القرية رجلاً يبني بيتاً من الطين وهو معلم البنيان، وأبناؤه وبناته هم العمال والأبناء.. كانت جلودهم ملطخة بالطين الذي تقوم البنات بخلطه وهو منظر يعبِّر عن مدى التعاون بين أب وأسرته حيث كانت الأم تأتيهم بالزاد والماء في موقع البنيان في صورة تكافلية لبناء منزلهم فمن حق الأبناء على أبيهم أن يوجههم إلى الحق والصواب وهو معلم البيت والباني وحق الأب على أبنائه المساعدة في البناء والإخلاص.. يأتي بعد ذلك حفظ أنفسهم من الزلل ونحن هنا بالمملكة العربية السعودية وهي بيتنا الذي نسكنه من الشمال إلى الجنوب ومن الخليج إلى البحر فهي منزلنا الكبير ووالدنا هو ولي أمرنا نسمع منه النصح والإرشاد ونقدم الطاعة والولاء فأقول أخيراً في كلمة أوجهها إلى أبنائنا وشبابنا ورجالنا وبناتنا ونسائنا: حكِّموا عقولكم على درب الخير قبل أن يتحكَّم بها الآخرون على درب الشر.