شهدت حقبة ما قبل تأسيس المملكة، مجتمعا متناثرا تحكمه عصبيات القبيلة، حيث كان أغلب السكان من البدو الرحل وقليلا من أهل المدن، تبعا لذلك فإن البدوي في الجزيرة العربية وخارجها ظل محكوما بقانون وتقاليد القبيلة، وهو قانون بسيط وإن كان صارما وضابطا في كثير من الأحيان. فالقانون القبلي كما هو معلوم غير مكتوب أو مدون، وإنما محفوظ في الممارسات والسلوكيات ووجدان الناس، ويعرفونه جميعا، وكان لا يثير أية إشكالية أو تساؤل، فالبدوي آنذاك لا يفكر في مناقشة القانون، بل فقط الالتزام به والنأي عن اختراقه. المجتمع القبلي مجتمع «جمعي» لا فردي، أي أنه لا يعطي قيمة للفرد من حيث هو فرد، بل يمنح له من حيث انتمائه للجماعة، أما المجتمع المدني فهو قائم على مفهوم الفرد ومبدأ الفردية، لذا ترى أنه مجتمع غير قبلي، والبنية المؤسسة للمجتمع هي الأسرة أو العائلة بوصفها مكونة من أفراد مستقلين، أما البنية في المجتمع القبلي فهي القبيلة، والأفراد فيه لا يتمتعون بأية استقلالية إلا في حدود ضيقة يرسمها لهم قانون القبيلة وموروثاتها. يرى كثير من الباحثين أن هناك اختلافا بين القبائل في مناطق المملكة، والجامع بينها أنها كلها تأثرت بالتطور الذي شهدته البلاد، معتبرين أن عام 1990 هو العام الذي تطورت فيه القبيلة بتطور المملكة، ويطلق علماء الاجتماع على قانون القبيلة الذي ذاب في الدولة العصرية اسم العادات والتقاليد، وهي مختلفة عن القانون العام، لكنه اختلاف مرن، فقد تتصادم المؤسسات مع أعراف القبيلة، وقد تتصالح الجهتان. والتصالح حدث في بلادنا؛ حيث نجد أعرافا أو عادات قبلية تجاور النظام المؤسسي دونما صراع. والحالة الوحيدة التي يبرز فيها الصراع الضمني هي الخلاف الجوهري بين قانون المؤسسات العصري الذي ينهض على احترام الفرد من ناحية المبدأ، وأعراف القبيلة التي لا تعرف للفرد كفرد حقا من الحقوق. مرشحو الشمال والانتخابات تعتبر منطقة الحدود الشمالية من أكثر مناطق المملكة احتضانا للقبائل التي يتمثل أغلبها في قبيلتين إضافة إلى قبائل أخرى بدرجة أقل كثافة. وكانت الانتخابات البلدية السابقة خير دليل على وجود القبلية في المنطقة، فقد كان تأثير القبيلة على المرشحين كبيرا فحققت القبلية النسبة الكاملة في فوز أبنائها، إذ بدت سطوة القبيلة أكثر وضوحا في تلك الانتخابات. ويتركز أبناء القبائل في الحدود الشمالية في المدن الرئيسية مثل عرعر، رفحاء، طريف، والعويقيلة ويشكلون ما نسبته أكثر من 90 في المائة. أما في القرى والهجر فالنسبة فيها تصل إلى 100 في المائة. وما زالت القبيلة تحتفظ بالكثير من العادات والتقاليد وهي عادات جميلة في كثير من جوانبها، وإن كانت بنسبة أقل عن ذي قبل مع بروز جيل جديد من الشباب أصبح لا يرى في القبيلة أي شيء جميل، مع التطور الجديد، ما يمكن أن يحقق له طموحه ورغباته. الدحة.. رقصة الحرب القبائل في الحدود الشمالية بمختلف أطيافها وأنواعها وأعدادها تختلف عاداتها من قبيلة لأخرى، لكنها حتما تتفق على حب الوطن والولاء له دون أدنى نزاع أو شك. ولا يمكن بأي حال من الأحوال المساس بأمن الوطن بشكل عام، وشيوخ القبائل يرفضون بشكل قاطع أي عبث بأمن البلاد واستقرارها وسلامتها. وما زالت القبائل تحتفظ بعادات وتقاليد، وما زال البعض يمارس الاحتفاظ بتلك الموروثات كنوع من الفلكلور الشعبي الذي لا يمكن الاستغناء عنه. ففي كل أفراح المنطقة تقريبا لا بد أن يمارس أبناء القبيلة الفلكلور الشعبي الشمالي الشهير ب«الدحة». ولم يقتصر الدور على الكبار في ممارسة الدحة بل إن الصغار وقبلهم الشباب أصبحوا يمارسون اللعبة الشعبية في الأعراس والمناسبات الخاصة. وتعتبر الدحة (رقصة الحرب) أحد أبرز العادات والتقاليد عند قبائل الشمال. ولا يزال أبناء القبائل الشمالية يحتفظون بإكرام الجار وكرامته، فنادرا ما تجد أحدا يسكن في منزل جديد إلا وقد التف عليه جيرانه يتناوبون على دعوته ترحيبا به وإكراما له وفرحة بنزوله قريبا منهم. وكانت القبيلة سابقا ملاذا لما يسمى بالدخيل وهو الذي يقوم بعمل شيء مخالف ربما يصل إلى جريمة قتل، وبالتالي يذهب إلى قبيلة أخرى ليدخل في حماها حتى لا يتعرض للأذى ويتم تقديمه فيما بعد للمحاكمة. قرارات جماعية وشورى كانت، ومازالت الثقافة القبلية تحافظ على مكانتها كلبنة بناء في وحدة المجتمع السعودي. وتمثل قبائل الحدود الشمالية النسيج الشمالي بأكمله. أما فيما يتعلق بتركيبات القبيلة في الماضي فتتكون من الشيخ، وكبار القبيلة، والفرسان، والكرماء الذين يبذلون المال، و«العويندي» وهو الشخص العادي وهم الأغلبية والرعاة. والقبيلة في الماضي كانت تنزل في مواقع معينة وتغادر أخرى حسب قوة القبيلة، لكن القرارات تصدر بصورة جماعية، بعدها يقرر شيخ القبيلة بعد أن يأخذ رأي الكبار والفرسان. وكان التشاور يطال مواضيع مكان الإقامة الصيفية والشتوية، الأمر الذي جعل اسماء القبائل الرحل تلاصقهم. وتعتبر مشيخة القبيلة في منطقة الحدود الشمالية شيئا متوارثا يحافظ عليه الشيخ وإخوانه وأبناؤه ويذعن بقية الأفراد لتعليمات الشيخ حفاظا على طقوس القبيلة وتماسكها، وعدم اندثارها بين القبائل الأخرى أو حتى ضعفها. وتتكون قبائل المنطقة من أفخاذ عدة، وما يحدث عندها من عادات هو ما يحدث عند الجميع، فالجزية تعرف عندهم ب«الودي» وتدفع عن كل صاحب حلال لشيخ القبيلة. وما زالت بعض القبائل تحتفظ بإنشاء صندوق الدية، في حين تركت قبائل أخرى هذا الأمر، كما أن بعض القبائل تنشئ صناديق لدعم أبناء القبيلة من المتفوقين والمحتاجين. النفط والقبلية في الشرقية في مدن المنطقة الشرقية برزت آثار الحضارة والتطور والمدنية بعد اكتشاف النفط في الظهران، إذ كانت المدنية تظهر بشكل كبير في وظائف شركة أرامكو، وفي باقي مناحي الحياة الأخرى التي رسمتها انعكاسات النفط على حياة المجتمع، حيث انخرط أبناء القبائل في وظائف النفط والوظائف الأخرى. وبدأت المدنية تزداد مع مرور الأيام وكذا الحال ينطبق على تقلص وانقراض كثير من العادات الاجتماعية التي كانت سائدة فيما كان يعرف بحياة ما قبل النفط. ومع تداعيات الحضارة التي لم توفر لا صغيرا ولا كبيرا وأجبرت الجميع على الانخراط في ركبها وملاحقتها والبحث عن كل جديد فيها، انعكس ذلك على نمط الحياة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي؛ فأصبح ابن البادية والقبيلة لا يحمل كثيرا من السمات المعروفة عنه، وتناقص كثير من العادات إزاء ذلك. عزوف عن الموروث أخذ الطابع المدني صورة أكثر وضوحا في المنطقة الشرقية بعد توافد أبنائها من خارج المنطقة للعمل في الدوائر الحكومية والشركات، وظهرت لهم تجمعات جديدة أخذت الطابع المدني بشكل لافت خلال الفترة الماضية. وأصبحت هناك مجالس تجمعهم بشكل شهري أو في المناسبات العامة، وإن كانت أقل وبكثير مما كانت عليه في السابق في مواقعهم الأصلية، إذ إن ظروف العمل وطبيعة الحياة الجديدة فرضت عليهم نمطا جديدا من العيش، مع أن هناك العديد منهم بقي متمسكا بكثير من العادات والأعراف القديمة. ويقول المواطن خالد هدوان العنزي «لا شك أن موروث القبيلة في كل مكان له تأثيره على أبناء القبيلة، وينخفض ويرتفع التأثير بحسب اقتناع ابن القبيلة بكثير من العادات، خاصة أننا نرى اليوم كثيرا من أبناء القبائل لا يلتزم بكثير من عادات قبيلته. نرى البعض منهم الآن يمقت بعض تلك العادات، والبعض الآخر يتمسك بها ويشجع عليها، ويؤكد بأنه نواة للمجتمع». أعراف الضبط الاجتماعي في المنطقة الجنوبية، تعتمد التركيبة السكانية على القبيلة، وتتفرع من كل قبيلة أفخاذ وعشائر مندرجة تحت مظلة واحدة أو اسم قبيلة أو عشيرة معينة، ويتمتع شيوخ القبائل بسلطة كبيرة في قبائلهم، فهم أصحاب الحل والعقد في معظم أمور أفراد القبيلة فيما يخص الجوانب الاجتماعية وعلاقات الأفراد. ويعمل شيوخ القبائل على تعزيز العادات الحميدة من خلال تطبيق الضبط الاجتماعي في المجتمعات القبلية. وتستند عملية الضبط في الأصل إلى العرف القبلي القائم لدى كل قبيلة، أما دور شيخ القبيلة فينحصر في تطبيق الأعراف بصرامة تامة وما زالت غالبية القبائل الجنوبية مستمرة على النهج. محاربة الظواهر الطارئة يحكم العرف علاقات أفراد المجتمع، وهو أمر متعارف عليه بين القبائل وتحاكمت إليه، وبموجبه حكم في أكثر من قضية حتى أصبح مألوفا ومعتادا. وتسن القبيلة قانونا لحدوث أمر جديد، إذا اتفق الجميع على صحته تصبح قاعدة تحكم سلوك المجتمع، ومن أمثلة ذلك تحديد المهر للحد من غلاء المهور ومنع المزايدة فيه. ولعل من إيجابيات هذه الأنظمة القبلية، التلاحم بين الأفراد وقوة الروابط الأسرية والقبلية والسمع والطاعة للكبير واحترامه واحترام رأيه والتعاون في مصالحهم، ومساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم والدفاع عن ثقافة القبيلة، وحرصهم على تنفيذ الأحكام واحترام القانون. وتنتشر في المنطقة الجنوبية صور متعددة للعادات القبلية التي تعد وسيلة من وسائل التكافل والتعاون وما زالت قائمة إلى عصرنا. وتصور الثقافة القبلية في المنطقة الجنوبية أنماطا من المظاهر منها: • الوجه: إذا أعطى الرجل الوجه وقال فلان أو الأمر الفلاني في وجهي، فمعناه أنه تحت حمايتي أو أنني سأفي به، أو «في لحيتي أو التزم لك به». وإعطاء الوجه يستخدم في الخلافات بين القبائل أو الأفراد بأن يكون الوجه عند شيخ في قبيلة والوجه الآخر عند شيخ القبيلة الثاني، كما يستخدم في حل النزاعات بين الأفراد خاصة في الأراضي والممتلكات، بعيدا عن الإدارات الحكومية وقاعات المحاكم، لتنتهي إلى مكاتبات توثق من قبل شيوخ القبائل ثم المحاكم الشرعية. • العوض: مبلغ من المال أو أي شيء آخر يدفع لمن فقد شيئا أو خسر، وتعطى في جميع الأحوال حتى في الخسائر القليلة، فإذا فقد أحدهم أمرا جاءه من يقول «أبشر بالعوض»، فيرد الثاني «عوضك السالم أو راسك العوض»، وهذا الأمر خلق نوعا من الترابط القوي بين القبائل. • العقال: ويطلق عليه أيضا المعدال أو العلق، ويكون من السلاح الأبيض أو البنادق. ويأخذه من يريد الإصلاح بين المتخاصمين سواء كانوا أفرادا أو قبائل كرهان مقبوضة للقبول بالصلح وإعطاء الحق، ويرد إلى صاحبه بعد الصلح. • القرعان: إذا قال شخص ما كلمة «مقروع» أو «مقروع بوجه الشرع والأمر»، فإن ذلك كفيل بمنع من قيلت له من التصرف بأي شيء مهما كان الأمر، دون أن يلجأ إلى الشرطة أو مراكز الإمارات أو المحافظات.