الجولة الثالثة إن قصتي مع الأستاذ محمد حسنين هيكل معروفة للجميع، ولا داعي إلى أن نعيد قصة (تفكيك هيكل) ونكررها من جديد؛ فإن كل جديد أقدِّمه في نقد أفكار الأخ الأستاذ هيكل وتصريحاته إنما يصبُّ أساساً في مصبِّ (التفكيك) الذي أزعم أنني قد نجحتُ في تحديد ما أردتُ قوله تنظيراً وممارسة. وها نحن ذا نراقب عن كثب كتاباته وتصريحاته منذ خمس سنوات على صدور كتابي: (تفكيك هيكل)؛ إذ أجده في بعضٍ منها قد تخلَّى عن أفكاره القديمة، ولكنه بقي يدور في النهج نفسه وعلى المنوال ذاته الذي اختطَّه لنفسه سايكلوجياً وسياسياً بعيداً كل البعد عن حقائق الحياة العربية وعن الواقع العربي الذي يزدحم يوماً بعد آخر بالمشكلات والمعضلات الصعبة من دون أن يرى صاحبنا جذور مشاكل المنطقة ومَن الذي ساهم في خلقها على امتداد نصف قرن مضى من ساسة مضوا إلى حال سبيلهم كان مؤيداً لهم ومناصراً لسياساتهم البليدة. إنني أعجب جداً من رجل عالي الثقافة ويعدُّ من سدنة الصحافة العربية المعاصرة لم يستطع أن يغيِّر من نهجه وأسلوبه مقارنةً بما يحمله من متغيرات في الرؤية والتفكير. ****** أوهام وتخبُّطات في التاريخ ثاني عشر: عن أي خلافة عثمانية تتحدَّث؟ دعونا نسأل هيكل الذي يستخدم التاريخ استخداماً بدائياً من دون أي معرفة تخصصية ولا بالاستعانة بأي مؤرِّخ متمكِّن في (الموضوع) ولا بالإشارة إلى أي وثيقة، يقول: (لما الخلافة العثمانية بدت تضعف، والعالم العربي مشفق على هذا الضعف من هذا الضعف، ومشفق على نتائجه، والضعف العثماني في الآخر انقلب إلى نوع زي أي ضعف انقلب إلى نوع من العنف الشديد، فبدينا نشوف الإمبراطورية الكومنولث اللي كنا فيه جميعاً باختيارنا وبرابط فكري وثقافي وإسلامي يدافع عن وجوده في وسط تزاحم إمبراطوري، بدينا لقينا الدولة العثمانية تلجأ للعنف والعالم العربي بدا.. في اليونان راحت لأوروبا بلغاريا، راحت لأوروبا اللي كلها كانت ولايات عثمانية، لكن العالم العربي الإسلامي فضل متردد؛ لأنه جامع الخلافة بدا له أقوى من أي شيء) (انتهى النص). عن أي خلافة عثمانية يتحدَّث صاحبنا؟ وكنتُ قد سألتُه قبل سنوات في (تفكيك هيكل) أن يصحِّح مفاهيمه الخاطئة حول هذا (الموضوع)، وأن يهتم بالشأن التاريخي لما يقوله ويدعمه بالسنوات والبراهين والأمثلة والمقارنات والشواهد؛ نظراً إلى خطورته.. فلقد كانت الدولة العثمانية دولة سلطنة، وليست دولة خلافة! وكثيراً ما يتوهم المثقفون العرب هذا ويخلطون بين مصطلحي (الخلافة) و(السلطنة)؛ إذ عاشت الدولة العثمانية بطولها دولة سلطانية، ولم يتبنَّ مشروع الخلافة أي سلطان فيها باستثناء السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن ليس في بدايات عهده، بل في نهاياته عندما تبنَّى مشروعاً كان يُرَوَّج وقت ذاك، وخصوصاً بعد أن أشاعه السيد جمال الدين الأفغاني، وبدا كل سلطان أو ملك يحلم وقت ذاك بأن يجمع ولاء العالم الإسلامي تحت ظله؛ كي يُبايَعَ خليفة على المسلمين أجمعين! ولم تُعْلِمْنَا متى بدأت الدولة العثمانية تضعف؟ فلقد بدأت تعاني من الضعف منذ قرن كامل على زوالها وسقوطها.. من هم العرب الذين أشفقوا على هذا الضعف؟ حدِّد لنا ذلك بالأسماء إن استطعت؟ وعن أي عالم عربي تتحدَّث؟ ومن ذاك الذي كان قد أشفق على نتائج ذلك الضعف؟ ما هذا الهذيان؟ وأي ضعف انقلب إلى عنف شديد؟ ما هي أجزاء الكومنولث الذي تدَّعيه والذي كان يدافع عن وجوده؟ عمَّ تتحدث؟ لقد كانت الدولة العثمانية مستسلمة لقدرها مع الأوروبيين على امتداد القرن التاسع عشر.. كانت تدافع عن نفسها ضد هذا بالتحالف مع ذاك.. وترضخ لمطالب هذا على حساب انهياراتها هناك! لقد عانت من المسألة الشرقية بعد حرب القرم وعانت من اقتطاع أجزائها الأوروبية من دون أن تحرِّك شيئاً! لم يشفق العرب على العثمانيين أبداً كما تقول؛ نظراً إلى ما حلَّ بهم من مصائب وأكدار.. لقد كان من نتائج المسألة الشرقية أن انفصلت أقاليم شرقي أوروبا واحداً بعد الآخر في ظل دفاعات عثمانية لم تُجْدِ أي نفع.. كيف كانت كل أوروبا ولايات عثمانية؟ ما هذا الخطل بالتكوينات التاريخية؟ وما هذا الجهل في التاريخ؟ لقد كانت روميليا - حسب العرف الإداري العثماني - هي الأجزاء الأوروبية من الدولة العثمانية، وتجمع ولايات عثمانية عدة امتدت منذ القرن الخامس عشر إلى أوروبا حتى وصلت عمقها على عهد السلطان سليمان القانوني 1520- 1566م لتشمل مولدافيا وولاجيا وبلغاريا والبوسنة والهرسك وهنغاريا واليونان ومقدونيا وألبانيا، وفشل العثمانيون في اقتحام فيينا العاصمة النمساوية مرتين: أولاهما في العام 1529م والثانية في العام 1683م، ومنذ اندحارهم قرب أسوارها بدا الضعف العثماني في أوروبا الشرقية.. ودخل العثمانيون في حروب ضد الروس حتى نهايات حياتهم.. إن كنت لا تدرك الخطوط العامة للتاريخ، فكيف بك تجازف في الإبحار في شؤوننا وتخلط الأمور وأنت لا تفقه أولويات التاريخ، بل وتستخفُّ بالتاريخ، وهذه واحدة من فجائعنا الفكرية نحن العرب! وتقول: (لكن العالم العربي الإسلامي فضل متردد؛ لأنه جامع الخلافة بدا له أقوى من أي شيء).. متى بقي العالم العربي والإسلامي متردداً؛ لأنه جامع الخلافة التي تتوهم أنها كانت موجودة وأنها أقوى من أي شيء؟ ما القوة التي كان يمتلكها هذا العالم العربي والإسلامي؟ ما الذي تقصده بالتردُّد؟ كانت الجزائر قد انفصلت بفعل السيطرة الفرنسية! كانت إيران على الجانب الآخر العدو اللدود للعثمانيين! كانت الدولة السعودية الأولى والثانية من ألد أعداء العثمانيين! كانت مصر محمد علي باشا قد توغَّلت حملتها في أعماق الأناضول ضد الدولة العثمانية! كانت منطقة الخليج العربي قد انفصلت بالكامل عن هيمنة العثمانيين وتأثيراتهم! كان الحسينيون في تونس قد وجدوا لهم ملاذاً في أن يكونوا أسياد أنفسهم! كانت الصراعات الأوليغارية والحروب الطائفية في سورياولبنان لا يمكن أن تجعل الناس يفكرون في مثل هذا (الكومنولث) الذي اخترعه لنا هيكل! عن أي عالم عربي تتحدث يا هيكل؟! ثالث عشر: مصر محمد علي باشا نتابع مع هيكل أوهامه فيقول: (والحقيقة إنه هذا الجامع فضل مؤثر حتى في مصر في هذا البلد الذي اللي بيقول إنه والله أنا أقدم بلد مستقل وأكتر بلد، وصحيح إنه هو ممكن أوي يكون مستقل، لكن أنا أريد أن أفرق بين أن تكون مستقلاً وأن تكون في عزلة عما يجري حولك؛ لأنك لا تستطيع أن تنعزل. طيب لو نفتكر إحنا إنه أكبر الأحزاب الوطنية بلاش نتكلم في محمد علي لما جاء محمد علي، محمد علي لم يكن ثائراً على الخلافة، لكنه كان راغباً في تجديد مشروع الخلافة، وقد يكون راغب في الخلافة لنفسه ولأسرته، لكنه لم ينقض على فكرة الجامع، الجامع المشترك). هذا (الجامع المشترك) الذي أوهم هيكل به نفسه، ويريد أن يوهمنا به أيضاً، لا يستقيم مع الحقيقة أبداً، ويريد أن يفترض أن هناك مَن يقبل أن تكون مصر بلداً منعزلاً! مَن قال بانعزال مصر أو بانكماشها على نفسها؟ إن الاستقلال هو غير الانعزال.. هذه بدهية لا غبار عليها، ولا أعتقد أن أحداً في مصر يقول بانعزاليتها حتى أولئك الذين يتعصَّبون لمصر، ولهم الحق في ذلك أن وجدوا واحداً مثل هيكل يسوِّق بضاعة الجامع المشترك.. فلماذا يخلق صاحبنا من ذلك قضية؟ وما معنى أنه يفتكر بأن أكبر الأحزاب الوطنية..؟ ما دخل هذا بالموضوع؟ ماذا تريد أن تقول؟ ما معنى بلاش تتكلم في محمد علي؟ ثم تتكلم عنه، ودوماً تُفقده سمته الشهيرة، فهو محمد علي باشا، التي نبَّهتك عليها (أي على باشويته) قبل سنوات! ما معنى أن محمد علي لم يكن ثائراً على الخلافة؟ أي خلافة هذه؟ تقصد الخلافة العثمانية؟ ولم يكن لها أي وجود عصر ذاك أيام محمد علي باشا؛ حيث كانت السلطنة وأنه أرسل إلى مصر على رأس قوة عثمانية بأمر السلطان؟ ومَن قال لك إن محمد علي باشا كان راغباً في تجديد الخلافة؟ ومَن قال لك إنه كان راغباً في الخلافة لنفسه ولأسرته من بعده؟ وتعقِّب قائلاً: لكنه لم ينقض على فكرة الجامع؛ الجامع المشترك!! هذا كلام هراء مع احترامي لمكانة صاحبنا التي يعتقد أنها عالية أو أنه لم يزل في المقام العالي.. إنني أتحداك أن تأتي لي بوثيقة واحدة أو قصاصة ورق واحدة أو معلومة تاريخية قديمة واحدة تؤكد مزاعمك! إنك بمزاعمك تشوِّه التاريخ.. والتاريخ الذي استهنتَ به يمكنه أن يخنقك عاجلاً أم آجلاً! أتحدَّاك يا هيكل إن كنت على صواب في الذي تنشره من مزاعم باسم التاريخ الذي جرَّدته من حتى أولوياته. رابع عشر: محمد علي باشا مؤسِّس مصر الحديثة وتستطرد من دون أي وجل ولا أي خوف من انكشاف الحقيقة قائلاً: (وهو رجل يملك حلم، محمد علي قيمة محمد علي إنه يملك حلم، إنه رجل أطل بصرف النظر عن خلفيته وبصرف النظر عن مطامعه رجل أطل على الواقع الجغرافي والتاريخي والسياسي للمنطقة وأدرك أهمية هذه الجامعة، فلما جاء حتى يثور على هذا الجانب لم يثُر بقصد أن يهدمه ولكنه.. أو يفضه ولكنه تصور إنه هو إما يرث وإما يجدد فكان مشروعه مشروع تجديد عثماني. محمد علي عمل حاجة شديدة الأهمية في مصر وفضلت مستمرة، عايز أقول إنه مصر لم تُفكر حتى الحركات طول القرن التاسع عشر ونحن نفكر في مصر المستقلة) (انتهى النص). عليك يا صاحبي أن تدرك جملة من الأمور التي خفيت عنك وأنت تكتب عن محمد علي باشا، وطالما نبهتك سابقاً إلى بعضها في (تفكيك هيكل) من دون أن تدرك الحقائق حتى اليوم، فأنت كما يبدو لي تبقى تكتب أو تسرد وغيرك يكتب لك من دون أن تقرأ.. إنك كما يبدو لم تقرأ تاريخ مصر كما يجب، فلو كنتَ قارئاً متفحِّصاً لتاريخ مصر الحديث لما أوقعت نفسك في هكذا مشكلات ومصاعب لا تُحسد عليها أبداً.. فهل تعتقد أن محمد علي باشا كان يحمل فكرة جامعة أم كان يحمل فكرة توسع؛ فالفرق كبير بين الموضوعين التاريخيين؟ وتقصد الجامعة العثمانية التي اصطدم بها مراراً، وخصوصاً بعد امتداده في بلاد الشام إثر امتداده في الجزيرة العربية.. إنه عمل على توسيع دولته التي لم تنفصل عن العثمانيين بحجة هذه الجامعة التي تعتقد أنه كان يحترمها، بل لأنه لم يجد في نفسه القدرة على الاستقلال التام عن العثمانيين. إنك من أبعد الناس عن فهم تاريخ محمد علي باشا وشخصيته وسايكلوجيته، بل وحتى طبيعة علاقاته العامة.. إنك دوماً تبخسه في خلفيته التاريخية، وحتى إن كانت له مطامع فلقد ارتفع بتاريخ مصر لأول مرة بعد قرون من الانغلاق والانحسار والانقسامات والصراعات المحلية.. لقد أعطى محمد علي باشا وأسرته لمصر الشيء الكثير، وارتقوا بمكانتها بين الأمم، واستطاع محمد علي باشا أن يؤسس حياة مصر الحديثة. إن هيكل يتوهَّم أن محمد علي باشا قد آمن بالجامع المشترك، وكأنه أراد أن يبقى تابعاً لغيره.. لقد نجح محمد علي باشا في خلْق مركزية جيوستراتيجية لمصر في المنطقة، ولم يكن بحاجة إلى أي شرعية يستمدها من هذا الذي تسميه يا هيكل بالجامع المشترك؛ إذ أوجد له شرعيته التاريخية بنفسه، وبنى له علاقات واسعة مع الدول.. ولكنه أبقى على رمز العثمانيين في مصر نظراً إلى انتمائه الأساسي إليها، وهذا ما لم يفعله غيره أبداً. خامس عشر: الخديوي إسماعيل وكيف شوَّهْتُم صورته! ولم تقصر كلامك الواهن عن محمد علي باشا؛ إذ نال الخديوي إسماعيل من ذلك أيضاً عندما تستطرد عنه وتقول: (حتى مع أوهام الخديوي إسماعيل ما كنش جامع الخلافة يعني محمد علي كان راجل عنده حلم عظيم، الخديوي إسماعيل حلم استراتيجي عظيم، الخديوي إسماعيل كان عنده حلم وهمّ ثقافي كبير؛ لأنه صور له إنه المنطقة ممكن تخرج أو إنه مصر ممكن تخرج من المنطقة اللي هي فيها جغرافياً وتلتحق بأوروبا فبقت مصر قطعة من أوروبا، هذه في اعتقادي كانت رغبة في الوصول إلى التمدين والتقدم، ولكنها لم تكن بالمعنى الإنساني والتاريخي انسلاخ عن المنطقة، والدليل إنه عصر إسماعيل في واقع الأمر شاف ظاهرة مهمة جداً اللي هي ظاهرة ظهور القاهرة في هذا الإطار الأوسع والأكبر) (انتهى النص). وتتحدث عن الخديوي إسماعيل كونه صاحب حلم استراتيجي عظيم بعد أن كنتَ نفسك قد ساهمت في تشويه صورة الخديوي إسماعيل التاريخية قبل أربعين سنة.. لقد أساء الكتبة والإعلاميون والمثقفون وحتى الفنانون المصريون إلى تاريخ الخديوي إسماعيل.. لقد شوَّهتَ سنوات عهده الطويل بشكل متعمَّد.. بل وكثيراً ما وجدنا صورة مشوَّهة له من قِبل الإعلام المصري وحتى السينما المصرية عن قصد وسبق إصرار.. ولم نسمع أو نقرأ لمحمد حسنين هيكل في يوم من الأيام أنه دافع عن الصورة المخزية التي رسمت للخديوي إسماعيل على عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ظلماً وعدواناً.. واليوم يأتي صاحبنا ليقول: إن الخديوي إسماعيل صاحب حلم استراتيجي كبير.. وبقدر ما ساهم هيكل في الماضي القومي بإدانة الخديوي إسماعيل أخذ الرجل يدافع عنه من دون أن يعترف بما فعلوه سلفاً. إنني أطالبه أن يعلن لا عن تراجعه هو نفسه، بل أطالبه أن يعلن عن اعترافه بما حدث للخديوي وما حدث لحكام مصر من أسرة محمد علي باشا على عهد عبد الناصر.. وتعلن باسمهم عن اعتذار مصري للخديوي إسماعيل ومَن جاء من بعده من حكَّام مصر بعد الذي نالوه من التقريع والتشويه. والدليل أن هيكل اليوم يتراجع عن أفكاره وكتاباته القديمة، وجاء إلينا ليقول: إن مشروع إسماعيل لم يكن يرمي لانسلاخ مصر، بل لتمدُّن مصر.. وإن القاهرة وجدت تطورها واتساعها على عهد ذاك الزعيم. سادس عشر: مصر للمصريين!! يستطرد هيكل في تاريخه الذي يكتبه مشوَّهاً ليقول مدخلاً الأشياء بعضها في البعض الآخر؛ فهو ناجح جداً في خلط الأوراق والمعلومات بشكل لا يمكن أن يسبقه إليه أحد أبداً ومن دون أن يسمِّي الأشياء بأسمائها، يقول: (بأرجع تاني، الأحزاب المصرية على سبيل المثال لما بدأت حركة الاستقلال بننسى مرات إنه عرابي لو قلنا عرابي هو كان أول حركة استقلال بالمعنى الوطني الواضح اللي مصر للمصريين، مصر للمصريين انعزال بمصر، مصر للمصريين كانت أظن والشواهد تؤكد أنها كانت راغبة في إنه الهجوم هذا الهجوم الأجنبي على مصر واللي بيمتص بالديون ثرواتها واللي بيمتص بالاستغلال مواردها إن هو ده يقف وإنه مصر ما يُنتج فيها يروح لأصحابها، ولكن مصر للمصريين لم تكن في اعتقادي أو في ظني) (انتهى النص). رجعتَ يا هيكل تاني.. ماذا تريد أن تقول عن الأحزاب المصرية؟ ولماذا ننسى أنه عرابي؟ كمِّل جملتك رجاءً.. ماذا تريد قوله؟ بعد ذلك أعطيتَ شرطاً: لما بدأت حركة الاستقلال بننسى مرات إنه عرابي؟ عرابي ماذا فعل؟ أكمل الجملة الثانية رجاءً.. بعد ذلك: لو قلنا عرابي هو كان أول حركة استقلال بالمعنى الوطني الواضح اللي مصر للمصريين.. ماذا تريد أن تقول؟ هل تريد القول: إن عرابي لم يقل بمصر للمصريين؟ هل تريد أن تقول: إن عرابي أراد الاستقلال الوطني من دون أن يعزل مصر؟ طيب قُلْها فهي بسيطة جداً ولا تحتاج إلى كل هذا اللف والدوران.. إن أي كاتب أو مثقَّف قضى عمره في أي مكان يستطيع أن يركب جملة مفيدة، فكيف بعميد للصحافة العربية كما يسمونه؟ إذا لم مصر للمصريين حسب اعتقادك.. فإنني أعتقد كما يعتقد كل العقلاء بأن مصر حالها حال أي بلد عربي له خصوصيته، وأي مكان له خصوصيته لا يمكن أن يتعامل معه إلا أبناؤه.. فمَن قالها فليس على خطأ.. فلا يمكن لأي لبناني أن ينكر خصوصية لبنان، ولكن لا يمكن اعتبار لبنان بلداً منعزلاً أبداً.. وهكذا بالنسبة للعراق والسعودية والإمارات والكويت والمغرب واليمن وكل بلداننا العربية الأخرى. وتبقى يا هيكل في خضم هذا الخطل من التفكير وتقول: (وأنا بقرأ كل الوثائق إنها انعزالية تطلب آه تطلب الاستقلال، لكن حتى عرابي كان متمسك بالجامع المشترك العربي المشترك، وحتى الخديوي توفيق قدامه كان متمسك بالجامع المشترك، وحتى الثورة العرابية لم تفشل إلا بمرسوم السلطان العثماني في اسطنبول اللي قال إنه عرابي عاصي..) (انتهى النص). وأقول مباشرةً بعد سماعنا ما تقول: أي وثائق هذه التي تقرأها يا هيكل؟ أي وثائق تقول بانعزالية مصر؟ نوَّرنا يا هيكل؛ إذ يبدو أن مؤرخي مصر المحدثين الكبار والشباب بدءاً بالمختصين الأوائل، أمثال محمد شفيق غربال ومحمد صبري الصوربوني وغيرهما، لم يطَّلعوا على هذه (الوثائق) المزعومة.. إنك دوماً يا هيكل تُوهم القارئين والسامعين بمسألة وثائقك التي لا أصل لها! أو ربما لا تدرك معنى الوثائق؟ إنني أتحداك يا هيكل أن تبرز على العالم قصاصة من وثيقة واحدة تقول بانعزالية مصر! أو ماذا؟ هل تطلب الاستقلال؟ وهل الاستقلال انعزال يا هيكل؟ ألم نتَّفق قبل قليل أن الاستقلال شيء والانعزال شيء آخر؟ أي جامع مشترك هذا الذي تمسَّك به أحمد عرابي؟ لماذا جعلتَهُ عربياً الآن؟ وهل الفكرة العربية كانت قد بدأت حتى يكون لها جامع مشترك؟ ولماذا قفزتَ الآن من جامع مشترك عثماني إلى جامع مشترك عربي؟ ثم تتذكَّر الخديوي توفيق لتلصق به صفة تمسُّكه بالجامع المشترك.. فما الجامع المشترك عندك يا هيكل؟ هل هو عثماني أم عربي؟ وإذا كان عربياً، فما علاقة الخديوي توفيق به؟ وإذا كان عثمانياً، فما علاقة أحمد عرابي به؟ وأنت تقول: إن الثورة العرابية لم تفشل إلا بمرسوم السلطان العثماني في اسطنبول اللي قال انه عرابي عاصي؟ أقول والعذر فيما أقول: إن هذا كله خبط وخلط وخبص.. وهذا تشويه متعمَّد أو يأتي عن جهل.. وهذا ما يسمُّونه في النقد الأدبي العربي القديم بالمسخ والسلخ والنسخ الذي أودُّ أن يراجع عن أسسه النقدية في كتاب (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير.. ويبدو أن هيكلاً لا يريد أن يستعيد الحياة ويجلس رفقة الآخرين في درس التاريخ ليُعلِّمه الأساتذة كيف يُكتب التاريخ وعلى درجة بارعة من الأمانة والدقة والوضوح. سابع عشر: الصراع والتبعية.. تصنيف ذات العلاقة نبقى نفحص نصوص هيكل التي لا أدري كيف تحمَّل الناس سماعها على شاشة قناة الجزيرة الفضائية، ومن دون أن يثير أي اعتراضات جدية من قِبل العارفين أو حتى المثقفين. يبدو أن الناس مثلي لا تضيِّع وقتها الثمين في سماع مثل هذا الهذيان، يقول: (لم نيجي في الأحزاب المصرية نبص نلاقي إنه الحزب الوطني، وهو أول الأحزاب اللي نشأت بعد الثورة العرابية، كان بيتكلم على الجامع العثماني، أنا هأسيب هوية إنه عثماني، لكن أيضاً الحزب الوطني يدرك أنه هو موجود في إطار كومنولث، في إطار مجتمع من الدول، في إطار مجتمع جغرافي سياسي لا يستطيع إنه يخرج عنه لا أمناً ولا.. مش حكاية التبعية للسلطان العثماني بيتكلم على حاجة ثانية، الحزب الوطني بيتكلم على حاجة بالإحساس حتى موجودة، مصر موجودة، لكن مصر موجودة داخل إطار معين). هذا أمر عادي يا هيكل، ليس خاصاً بمصر وحدها.. المشاعر السياسية في ذلك الوقت بدأت تحسُّ بمعنى الوطن.. الوعي لم يكن مؤهَّلاً في نهايات القرن التاسع عشر حتى يكون قادراً على استيعاب أفكار القرن العشرين.. إن شباب مصر كان قد تربَّى على قيم قديمة ولم يجدوا البديل بعدُ.. ولكن إذا كان مصطفى كامل يدعو إلى الرابطة العثمانية.. ألم يكن هناك في مصر مَن كان يدعو إلى غيرها؟ وهل هذا منحسر كما تعتقد في مصر وحدها؟ اقرأ تاريخ سورياوالعراق ستجد الأمر نفسه.. واقرأ تاريخ تونس وطرابلس الغرب ستجده نفسه.. أتمنى منك أن تقرأ تاريخ العرب الحديث قراءة متمعِّنة لتكسب معرفة جديدة في تصنيف علاقة العرب بالعثمانيين على امتداد أربعة قرون، وستجد أن هناك ثلاثة أنواع من طبيعة تلك العلاقة: علاقة صراع ونزاع كما هو الحال في اليمن ولبنان، وعلاقة حياد واتصال كما هو الحال في بيئات الخليج والمغرب، وعلاقة وئام ورضوخ كما في مصر وسورياوالعراق وطرابلس الغرب. ولا أعتقد يا هيكل أن الجميع كانوا يفكرون في مسألة كومنولث كما تدَّعي؛ فهناك جيوش عثمانية وولايات عثمانية وقوانين إدارية عثمانية حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى كما في ولايات العراقوسوريا وطرابلس الغرب والحجاز، وهناك جاليات عثمانية ومثقفون من أصول عثمانية، وهناك ثقافة عثمانية طاغية كما في مصر وتونس (وحتى في الجزائر بعد مرور عقود طوال من السيطرة الفرنسية)، بمعنى أن مَن ساهم ليس في تشكيل الحزب الوطني بمصر، بل حتى أولئك الذين ساهموا في تشكيل الحركة القومية العربية، كانوا يحملون فكراً عثمانياً أخذ يزول شيئاً فشيئاً.. فلا تستغرب يا هيكل ولا تقل: إن هناك جامعاً أو رابطاً أو سمِّه ما شئتَ! وكل هذا الغثاء لا نحتاجه أبداً إذا ما تمعَّنا جيداً في قراءة التاريخ. ثامن عشر: أي دولة هذه غيَّرت اتجاهها؟ نبقى مع هيكل وهو يقسِّم على مزاجه وهو يطلق الأحكام جزافاً.. ويستطرد مطنباً مسهباً فيقول: (لما جت حتى الخلافة والخلافة.. ما كنش حد بيفكر قوي في إنه ينسلخ، التفكير في الانسلاخ عن هذا الجامع المشترك في واقع الأمر بدأ لما دولة الخلافة مش بس انهارت غيرت اتجاهها وبدأ يطلع اتجاه القومي التوراني التركي، وبالتالي أحس جَمْع هذا المجتمع اللي موجود في هذا الجامع المشترك العربي الإسلامي أحس بأنه والله الرباط بيفك وأننا في حاجة إلى شيء آخر) (انتهى النص). هذا تفسير خاطئ آخر لما كان قد حصل، وأسألك يا هيكل: متى (جت) الخلافة؟ بمعنى أنها لم تكن موجودة.. أسألك متى جاءت؟ وتقول: ما كنش حد بيفكر قوي في إنه ينسلخ.. وأسأل: عمَّن ينسلخ؟ وهل هناك مَن كان يفكِّر (قوي أو غير قوي في إنه ينسلخ)؟ التفكير في الانسلاخ عن أي جامع مشترك؟ ما معنى ذلك؟ لا بدَّ أن تقرأ يا هيكل تطور المفاهيم والأفكار التي كانت سائدة عصر ذاك، والأفكار التي كانت رائجة، ومنها: الملة العثمانية (= الإيديولوجية العثمانية السائدة)، ومن ثَمَّ تبلور الرابطة العثمانية الجديدة التي صرَّح بها العديد من الكتَّاب والمفكِّرين الجدد، وأيضاً تبلور النزعة الطورانية التركية التي نشأت في تضاعيف النصف الثاني من القرن التاسع عشر.. ثم تبلورت فكرة الجامعة الإسلامية في مطلع القرن العشرين من خلال خطاب السيد جمال الدين الأفغاني.. ولم تظهر فكرة الخلافة العثمانية إلا فيما بعد التي التزمها السلطان عبد الحميد الثاني ليعلن نفسه خليفة عثمانياً في مطلع القرن العشرين؛ ليثير عليه ردود فعل عنيفة، وخصوصاً من المفكِّرين العرب، وفي مقدمتهم السيد عبد الرحمن الكواكبي الذي كتب كتابيه: طبائع الاستبداد، وأم القرى، وينتقد فيهما مشروع الخلافة العثمانية، معتبراً إياها ناقصة للشروط التي جاءت بها الأحكام السلطانية لأبي الحسن البصري كوْن الخلافة لا بدَّ من عروبتها وقرشيتها! أعود إلى فقرة هيكل لأسأله: متى انهارت دولة الخلافة حتى تغيِّر الدولة اتجاهها كي يبدأ يطلع اتجاه قومي توراني تركي؟ هذا جهل مطبق بالتاريخ وتشويه له.. إن التاريخ ليس وجهات نظر يا هيكل كي تجلس وتوزِّع نظراتك الخاطئة على الناس فيه.. التاريخ معلومات وحقائق دامغة.. فإذا كنت تخطئ أخطاء شنيعة في ظواهر التاريخ، فكيف يمكننا أن نصدِّق ما تكتبه عن أحداث التاريخ ووقائعه؟! أي رباط (بيتفك)؟ لمَ لمْ تعرف ما الذي أحدثه الاتحاديون في حزب الاتحاد والترقِّي في العام 1908م؟ ولماذا لم تعرف ما الذي فعله الائتلافيون كرد فعل ضد الاتحاديين؟ لماذا لا تعرف متى تطورت الفكرة الطورانية في الدولة العثمانية؟ لماذا لم تعرف متى اتبعت الدولة العثمانية سياسية التتريك لتشكِّل تلك السياسة ردود فعل عنيفة في حياة الملل والأقليات في الدولة العثمانية؟ لماذا لم تقرأ ما كتبه مؤرخون متخصصون عرب وأتراك وغيرهم من أوروبيين حول تطور ذلك وعلاقة مصر والعالم العربي؟ ولا بدَّ أن تدرك أن القومية العربية قد ظهرت على أيدي المثقفين النهضويين العرب من العراق وبلاد الشام. ( انتظر الجولة الرابعة).... * مؤرِّخ عراقي