Jean-Jacques Luthi. La Vie Quotidienne en ƒgypte aux Temps des Khژdires. الحياة اليومية في مصر في زمن الخديوية. L'Harmattan, Paris. 1998. 252 Pages. في الخامس من صفر 1284 8 حزيران/ يونيو 1867 صدر في استانبول عن السلطان عبدالعزيز فرمان يقضي بتسمية "عامله" على مصر، اسماعيل باشا، باسم "الخديوي"، وهو لقب مستعار من الفارسية ومعناه: السيد، الأمير، العاهل، وقد ورث اللقب من بعده ابنه توفيق باشا، ومن بعده حفيده عباس حلمي. وعندما أعلنت بريطانيا في 18 تشرين الثاني نوفمبر 1914 نهاية الوصاية العثمانية على مصر وخلعت عباس حلمي لتنصب مكانه عمه حسين كامل، آثر هذا الأخير ان يعود الى التلقب بلقب "السلطان". وفي 1922، وفي عهد السلطان فؤاد، تحولت مصر من سلطنة الى مملكة، ثم آلت الى جمهورية بعد خلع فاروق، ابن فؤاد، وتنحية ابنه فؤاد الثاني عام 1953 من قبل حركة الضباط الأحرار. الحقبة الخديوية في تاريخ مصر الحديثة لم تدم اذن أكثر من خمسين سنة. ولكن نصف القرن هذا كان حاسماً. فهو الذي شهد استكمال مشروع تحديث مصر الذي كان رسم خطته الأولى باشاها محمد علي. ومن هذا المنظور فإن استمرارية التحديث تمثل بلا جدال حلقة الوصل بين مصر الباشوية ومصر الخديوية. ولكن، ما فعله باشوات مصر الثلاثة محمد علي وابناه ابراهيم وسعيد في اطار من السيادة والاستقلال فعله الخديويون الثلاثة، اسماعيل وابنه توفيق وحفيده عباس، في اطار من التبعية، بل الاحتلال. ففي 1876 اضطر اسماعيل الى القبول برقابة فرنسا وانكلترا على مالية مصر. وفي 1892 اضطر توفيق الى القبول بالاحتلال العسكري الانكليزي لمصر. وفي عام 1914، ومع نهاية الحقبة الخديوية، كانت مصر قد غدت محمية بريطانية. على أن التحديث الخديوي، على كونه مأزوماً من الناحية السياسية والوطنية، يبقى تحديثاً بالفعل تاريخيا وحضاريا. وهذا الوجه التحديثي، لا السياسي، للحقبة الخديوية هو ما يتوقف عنده مؤلف "الحياة اليومية في مصر في زمن الخديوية". فهو يرصد في المدينة والريف، في الشارع والبيت، في المدرسة والأسرة، في الادارة والمواصلات، معالم الحداثة الغربية التي غزت مصر من كل جانب. فمصر الخديوية هي أولاً مصر يقظة المدن. فبعد طول هجوع شعت القاهرةوالاسكندرية "تتحركان"، في الوقت الذي رأت فيه النور مدن جديدة مثل بورسعيد والاسماعيلية. وبما ان التحديث كان قراراً "سلطانياً" وتعبيراً عن ارادة فوقية، وليس نتيجة لتطور عضوي وتحتي في بنية المجتمع المصري، فقد كان من الطبيعي ان تكون نقطة انطلاقه العاصمة القاهرة: مقر ما يقال انه أعرق بيروقراطية في التاريخ. وبالفعل، ان الخديوي اسماعيل، الذي كان زار في 1867 المعرض الكوني في باريس وشاهد بأم عينه الثورة المعمارية التي استحدثها فيها محافظها البارون جورج هوسمان، عاد الى قاهرته وملء قلبه وعينه ليجعل منها باريساً ثانية. ولقد كان الموعد القريب لتدشين قناة السويس 1869 هو فرصته ليقدم لممثلي العالم الأوروبي الذين سيشاركون في الاحتفال الكبير، صورة لعاصمة حديثة على الطريقة الأوروبية. ولكن الفسحة الزمنية كانت ضيقة: ففي مدى عامين ما كان له أكثر من أن يلصق بالمدينة القديمة مدينة جديدة. وقد أوكل مهمة التصميم والتنفيذ لوزيره علي مبارك الذي كان يشاركه هو الآخر اعجابه ب"الأفكار الكبيرة" لجورج هوسمان. وعلى هذا النحو شرعت آلاف المعاول في هدم سبعمئة بناية في قلب المدينة القديمة لتشق فيها ثلاثة محاور كبرى تربط بينها، تماماً على الطريقة الهوسمانية، ساحات عامة أو "ميادين" تعلوها تماثيل لمشاهير صانعي حداثة مصر، سواء أكانوا من المصريين أم من الأجانب، مثل ميدان ابراهيم، ابن محمد علي، قبل نقل تمثاله الى ميدان الأوبرا، وميدان سليمان باشا، الكولونيل السابق في الجيش الفرنسي ومؤسس الجيش المصري الحديث، الذي لم يحل زيّه الشرقي واسمه الممصَّر دون إنزال تمثاله عن قاعدته عام 1964. وفي عهد اسماعيل تم تمديد 400 جسر حديدي فوق النيل. وأقدم ما لا يزال قائماً الى اليوم جسر امبابة في شمال القاهرة. ومنها أيضاً جسر قصر النيل. وقد استفاد الخديوي عباس من انجاز بناء سد أسوان في عهده لينشئ فوق النيل - بعد ان استقرت ضفافه - جسوراً ثابتة، ومنها الجسر الذي يحمل اسمه والذي يربط جزيرة الروضة بالقاهرة بطول 530م وعرض 20م. ولئن يكن تمديد أول سكة - وهي التي تربط القاهرةبالاسكندرية - قد تم في عهد سعيد باشا 1856، فإنه في نهاية عهد اسماعيل كان طول السكك الحديدية قد تضاعف ست مرات ليصل الى 1449 كلم. وفي عهد عباس بلغ طول السكك 3814 كلم. وكانت القاطرات والمقطورات والمعدات والسكك تستورد بتمامها من انكلترا. وعباس هو ايضاً من مد الخطوط لأول شبكة للحافلات الكهربائية التراموي في القاهرة. فبين 1896 و1917 جرى، بالاستعانة بمهندسين فرنسيين وماليين بلجيكيين هذه المرة، تمديد ثلاثين خطاً ربطت ما بين بولاق والازبكية والعباسية وشبرا والقلعة. وقد أدى هذا التطور الى موت صنعة بكاملها، هي صنعة "الحمّارين" وسائقي عربات الكارو. وفي 1900، ودوماً في عهد عباس، كان أول ظهور للسيارة السياحية والاوتوبيس. وقد أحصي في 1902 وجود 656 سيارة. وكان الوقود يستورد من سومطرة. أما الاوتوبيسات فكانت في البداية من ماركة ديتريش، ولكن اوتوبيسات الفرنسي فيلكس سواريس أصابت شهرة حتى بات اسم سواريس يطلق - ولا يزال - على الاوتوبيس نفسه. وكان جرى التفكير، منذ عهد سعيد باشا، بتمديد أنابيب للمياه الجارية. ولهذا الغرض استدعي مهندس فرنسي مشهور هو ج.م. كوردييه. والاسكندرية هي أولى المدن التي استفادت في 1860 من مياه الشفة الجارية، وتلتها القاهرة في عام 1865. ولكن الأحياء الارستقراطية والحديثة بقيت لردح من الزمن هي وحدها المستفيدة من هذا الامتياز من امتيازات الحداثة. اما الحارات الشعبية فبقيت تعتمد على السائقين. وفي 1867 بدأ في القاهرة انشاء أول مصنع غاز لاضاءة الشوارع. وفي 1882 كان طول الشوارع المضاءة قد بلغ 70 كلم يضيئها 2459 فانوساً. وفي 1893 اقيمت في بولاق أول ماكينة كهربائية. وتدريجاً أخلت الاضاءة بالغاز مكانها للاضاءة الكهربائية. ولكن الطاقة المعتمدة في محطات التوليد ظلت هي الفحم الى ما بعد 1922. ولا تكتمل صورة هذا التحديث بدون الاشارة الى ظاهرة بناء المتاحف والمكتبات في عهد اسماعيل وخليفتيه. فكما كتب اوغست ماريت 1821 - 1881، عالم العاديات المصرية الفرنسي الشهير، في الصفحة الأولى من كاتالوغ متحف بولاق، الذي هو أول متحف للآثار يدشن في مصر عام 1863: "منذ عهد غير بعيد كانت مصر تدمر آثارها. وهي اليوم تحترمها، ولا بد في الغد أن تحبها". وبالفعل، وبالاضافة الى متحف بولاق الذي نقل في وقت لاحق الى قصر الجيزة، انشئ، بموجب مرسوم أصدره اسماعيل عام 1881، متحف الفن العربي شرقي جامع الحاكم. ثم نقل لاحقاً الى ميدان باب الخلق تحت اسم متحف الفن الاسلامي. وفي 1895 اتخذ قرار بإنشاء متحف جديد وكبير للآثار الفرعونية بالقرب من قصر النيل، وجرى تدشينه في 1902 بحضور اللورد كرومر وكتشنر ومئة شخصية من الارستقراطية الكوسموبوليتية. وفي عهد عباس أيضاً تم في 1895 تدشين المتحف الاغريقي - الروماني، وفي 1908 تدشين متحف الفن القبطي. وبموازاة المتاحف تطورت في القاهرةوالاسكندرية ظاهرة انشاء المكتبات العامة. وقد رأت أول مكتبة عامة النور عام 1870، وهي المكتبة الخديوية التي أمر بانشائها اسماعيل ورعاها وزيره علي باشا مبارك ونقل مقرها الى قصر درب الجماميز الذي كان في الوقت نفسه مقراً لوزارته: التعليم العام. وقد تعاقب على المكتبة عدد من الأمناء الأجانب. وفي مطلع القرن العشرين كانت ذخيرتها تنيف على 64000 مجلد، وعدد القراء المترددين عليها يناهز 15000 سنوياً. وفي 1908 نقلت المكتبة الى مبنى جديد في باب الخلق وبقيت فيه الى مطلع السبعينات. وفي الاسكندرية أنشئت في 1892 المكتبة البلدية، وبلغت محتوياتها في ذلك الحين نحواً من مئة ألف مجلد، نصفها باللغة العربية. وبالاضافة الى المكتبات العامة تطورت ظاهرة المكتبات المتخصصة، ومنها مكتبة الجمعية الخديوية للجغرافية، ومكتبة المعهد الفرنسي للعاديات الشرقية، ومكتبة جمعية الاقتصاد السياسي والاحصاء والتشريع، وفي الاسكندرية مكتبة محكمة الاستئناف المختلطة ومكتبة بطريركية الروم الاورثوذكس التي يعود تاريخ انشائها الأول الى القرن العاشر للميلاد. ولئن يكن اسم الخديوي توفيق، الذي حكم مصر بين 1879 و1892، غائباً عن أكثر هذه التحديثات، فإنه يبرز بألق خاص من خلال الانجازات التي تمت في عهده في مجال تحديث التعليم. ففي القاهرة بلغ عدد المدارس التابعة لوزارة التعليم العام 14 مدرسة. وبالمقابل، فإن والده اسماعيل وابنه عباس أوليا عنايتهما لتطوير التعليم العالي والاختصاصي. ففي عهد اسماعيل انشئت مدرسة عليا للزراعة 1867، ومدرسة للقانون 1866، ومدرسة للطب البيطري 1865 - 1877، ودار المعلمين 1872 التي ألحق بها علي باشا مبارك في 1881 دار العلوم. وفي عهد عباس ضُمت عدة مدارس عليا الى بعضها بعضاً لتؤلف نواة الجامعة المصرية التي لعبت الأميرة فاطمة، بنت الخديوي اسماعيل، دوراً رئيسياً في تأسيسها من خلال منحة العشرة ملايين جنيه مصري التي تبرعت بها، وقد كان هذا المبلغ يشكل في حينه ثروة هائلة. وآخر ملمح من ملامح هذا التحديث في الحقبة الخديوية ينبغي التوقف عنده هو الصحافة. فأول دورية عربية رأت النور في تلك الحقبة هي "وادي النيل"، وقد أنشأها السوري - اللبناني عبدالله أبو السعود عام 1866. وتلتها "نزهة الأفكار" 1869 لابراهيم المويلحي وعثمان جلال. ثم انشأ السوري - اللبناني سليم النقاش "المحروسة" عام 1875. وفي العام نفسه كان مولد "الأهرام" في الاسكندرية أولاً، ثم في القاهرة، على يد اللبنانيين سليم وبشارة تقلا. وفي 1881 أصدر المصري عبدالله النديم "القطائف". وفي عهد الخديوي توفيق، وبعد ارتخاء قبضة الرقابة، صدرت صحف المعارضة، ومنها "المقطم" 1888 و"المؤيد" 1889. وبين 1900 و1909 أصدر مصطفى كامل "اللواء" لمقاومة التدخل البريطاني في شؤون مصر. ومن قبله كان سليم النقاش قد رفع في "مرآة الشرق" و"العصر الجديد" شعار: "مصر للمصريين". وانما تحت هذا الشعار انتقلت مصر الى حوار جديد من التحديث أراد نفسه ان يكون هذه المرة "وطنياً" وغير مرهون للممول أو للمنفذ الأجنبي كما كان الحال في الحقبة الخديوية. ولكن تلك قصة أخرى.