المتصفح لكتاب (الشيخ المسند علم وعمل) تستوقفه -ابتداءً- ملاحظات لافتة يصعب تجاوزها؛ حيث تصبغ الكتاب بصبغتها، وتستشري في التفاصيل فتجعلها جزءاً مكيناً في جميع أجزائها ومضامينها. أول هذه الملاحظات أن الكتاب يحوي تفاصيل مهمة وسيرة دقيقة لشخصية فاعلة ما زالت عطاءاتها ثرية وملموسة في حياتنا. ومكمن الملاحظة أنه قلما يلتفت مؤلفو كتب السيرة إلى أفضال من يعيشون بيننا من أصحاب البذل والعطاء المشهود، حيث تتجه جهودهم واهتماماتهم إلى من غادروا دنيانا، فيرصدون مآثرهم وينقبون عن عطاءاتهم، وهذا ما قد يرمي بظلاله على دقة المعلومات والمحتويات، كما يجعل المهمة صعيبة على راصد السيرة وهو يلملم أشتاتها ويوثق معلوماتها. لذلك تتجاوز محتويات كتاب (الشيخ المسند علم وعمل) إشكالية رصد حياة السابقين، بل وتتجاوز مثلبة الاحتفاء بعطاءات الأفذاذ بعد رحيلهم، فتعطينا مثالاً راقياً للاحتفاء بهؤلاء الذين يسهمون في إثراء حياتنا، فنقر لهم بما أعطوا، ونغوص فيما أنجزوا، ونستجلي عظمة عطاءاتهم وإنجازاتهم، ونرى فيهم -وهم يعيشون بيننا ويعنيهم من شؤون الحياة ما يعيننا- أسرار ما يمتلكون من قدرات ومواهب، وعظمة ما يتحلون به من سجايا وخصال. الملاحظة الثانية أن مؤلف الكتاب لم يكن مجرد باحث راصد لسيرة الشيخ عبدالعزيز المسند، وإنما كان شخصاً قريباً، بل هو من (أهل الدار)، حيث امتزج المنهج العلمي مع المعايشة الشخصية، واختلطت المعرفة الأكاديمية الرفيعة بالمعرفة الإنسانية القريبة. فمؤلفة الكتاب -د. غادة بنت عبدالعزيز المسند- هي كريمة الشيخ عبدالعزيز المسند، وهي -بالتالي- من أقرب الناس اختلاطاً ومجالسة ومؤانسة للشخصية المرصودة، لذلك يكون ما يجيء من قلمها نتاجاً ذا سمات متعددة، منها أن ما تذكره يكون بمثابة (وثيقة) مباشرة تتجاوز صرامة التوثيق العلمي الأكاديمي، فما ترويه يتسم -في بعض جوانبه- بالسماع المباشر والمعايشة اللصيقة، وكفى بذلك من صدقية تطمئن إليها النفس، هذا عدا التفاصيل الدقيقة، والرصد المدعوم بالصورة والوثيقة، والملمح الإنساني الجميل الذي تشع أنواره من الكتاب، حيث يتجلى البر في أجمل معانيه، فيكون الابن، وقد تسلح بالعلم والمعرفة، سراجاً يضيء تفاصيل شخصية الأب، ليصبح النتاج محتوى ثقافياً يطلع عليه الآخرون، ويوثق لفترات وأحداث مهمة في حياتنا المعاصرة، ويبقى مرجعاً مهماً لكل باحث وراصد في مقبل الأيام والسنوات. محطات.. وفصول يبدأ الكتاب بمقدمة رشيقة العبارة، متقنة المفردات، دقيقة المقصد، كتبتها المؤلفة عن والدها بفيض من المشاعر الدفاقة. تقول الدكتورة غادة المسند: (.. فمنذ أدركت وأنا أنظر والدي مكباً على كتاب، أو مقلباً في أوراقه فاحصاً ومجهزاً، أو مزمعاً مقابلة عالم من العلماء الكبار. وهذا دأبه في الحل والترحال، والليل والنهار، وكنت أقرأ ما أستطيع قراءته، ثم بدأت أفكر بين خبايا الإنتاج، فيقصر جهدي وإداركي عن احتواء ما سطر وأنهى، وما أجاد وأوفى، فأعجب إعجاباً فاق إعجاب (كل فتاة بأبيها معجبة) لأنه الحقيقة وليس العاطفة فقط، فعزمت على أن أغوص في بحر إنتاجه، وأشارك في رد بعض أفضاله، وقد اقتصرت على نشأته والمرور على بيئته، ومرحلة طلبه، ورحلاته، بعد أن اقتنعت أنها لا تقتصر على حياة رجل، أو سيرته الخاصة، وإنما هي نموذج لحياة الآخرين، وفوائد وعمل دؤوب يصلح مثالاً يقتدى، ونهجاً لمن أراد الانتفاع من وقته وإيصال النفع لغيره..). وبعد المقدمة يدخل القارئ إلى تفاصيل الكتاب، حيث اجتمع المتن تحت سبعة فصول، حمل الأول منها عنوان (الجد يروي التاريخ) والثاني (تاريخ أسرة) والثالث (الوالد عبدالعزيز ودار التوحيد) والرابع (الدراسة الجامعية) والخامس (العطاء الوظيفي والعملي)، والسادس (النشاط العام) والسابع (الرحلات). وانضوى تحت كل فصل من الفصول العديد من العناوين الفرعية والمحطات السردية والتفاصيل المهمة، فضلاً عن الصور الفوتغرافية النادرة التي أضفت على الكتاب المزيد من المتعة وحيوية الطرح وقوة الجذب والتأثير. ولعل من المحطات العديدة والمتنوعة التي احتواها الكتاب والتي توثق لبعض الفاصيل التاريخية والعملية والمهنية ما جاء تحت عنوان (العمل والوظائف 1374ه) من خلال الفصل الخامس من الكتاب. تقول مؤلفة الكتاب نقلاً عن أبيها: (إنني مثل زملائي تخرجنا لا نفكر ولا نعرف الوظيفة ولم نسع لها، وحصلت محاولة لأخذنا للقضاء، إذ دعا الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ، وكان وكيلاً لوالده رئيس القضاء في المنطقة الغربية، ودعاني أنا والشيخ صالح الناصر، وعبدالرحمن الدخيل، وحاول إقناعنا لتولي القضاء في الباحة وعسير، فرفضنا بإصرار، ولم تُفِد الإغراءات التي يذكرها، وكنا في السنة الثالثة من كلية الشريعة، وفور خروجنا من بيته عمدنا إلى الشيخ محمد بن مانع، مدير المعارف، نستفزع به للوقوف دون أخذنا، فجرت مخاطبات انتهت بتركنا حتى نكمل تعليمنا، وشاء الله غير ذلك. فحين انتهى الاختبار دعاني الشيخ عبدالله بن خميس -وهو زميلنا - فقال: إن رئيس تحرير (جريدة البلاد) عبدالله عريف قد دعاني وطلب مني أن أرشح أحد زملائي للتصحيح في الجريدة ممن يجيد اللغة العربية وأنت مجيد، فأقترح أن تبقى في الإجازة وأقوم أنا وأنت بالتصحيح، وبعد إلحاح -وكنت استعد للعودة إلى بلدي- وافقت. وبدأنا عملنا مع الأستاذ الرفاعي، وعبدالغني قستي، وكان عبدالله عريف رئيس التحرير يعتمد عليّ في تعديل وتصحيح (همسة) التي يكتبها يومياً في الصفحة الأولى.. وكنا -الأربعة- نجلس في فتحة الدرج، وفي مكان لا يسعنا، وفي نور غير كافٍ. فكل الجريدة في مكان متواضع، والصف يدوي ولا ينتهي إلا قبل الفجر، ولا كهرباء، فيقوم الأستاذ عبدالعزيز ساب -يرحمه الله- سكرتير التحرير، بإمساك (التريك) لرجل من جاوة يصف الحروف، ويبقى معه حاملاً (التريك) حتى يحزم الحروف بخيط ثم يأخذها للصفحة (نسخة بروفة) وتأتي إلينا لتصحيحها، وإذا تأخر الوقت كثيراً خرجنا وتولى عبدالعزيز ساب التصحيح، وكان صبوراً ذا أخلاق دمثة، وبقيت أنا وابن خميس مدة الإجازة في العمل بعد أن أذن لي والدي..). وتحت عنوان (الرئاسة العامة لتعليم البنات) تقول المؤلفة عن والدها: (.. صدر الأمر الملكي بتعيين الوالد رئيساً لتعليم البنات سنة 1410ه خلفاً للشيخ محمد بن عودة، وراشد بن خنين. وعندما خرج من الرئاسة قال: (أرجو أن أكون قد قدمت بعض ما يجب عليّ تجاه ربي ثم حكومتي وبلادي.. والله المستعان). وقد بعث صديقه الشيخ عثمان الصالح هذه الأبيات عندما علم بذلك: لئن تك قد خَرَجتَ فقد تركْتُم لكم أثراً مدى الأيام باق لتربية البنات بذلت فيها جهوداً قد بلغت بها المراقي فما قصرت في علم وفضل تنامى في مدارسهن واق وقد نهلوا من التوجيه كأساً سقاهم في معينك خير ساق وقد بقيت آثاراً تبدت كبدر في السماء بلا محاق لئن هم أسندوا لك معضلات فأنت معالج ولهن واق فإنك يا ابن (مسند) في استناد إلى شرف نراه وذو خلاق..) ووقفات أخرى ويتواصل الكتاب في وقفاته اللافتة، حيث يستعرض في جزء منه علاقة الشيخ عبدالعزيز المسند بالملك فهد التي تصفها المؤلفة بأنها (علاقة قديمة وقريبة مكينة) كما يتعرض الكتاب لبعض المواقف التي جمعت الشيخ المسند بولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. كما يستعرض الكتاب في أجزاء أخرى منه مؤلفات الشيخ المسند، ورحلاته المتعددة، ومحاضراته التي ألقاها، وغير ذلك من تفاصيل متعددة. ولعل مؤلفة الكتاب الذي جاء من القطع المتوسط، وفي ثلاثمائة وست وعشرين صفحة، قد وفقت في جمع مادة ثرية جاذبة تستحق القراءة والاقتناء، كما أنها وفقت وهي تختم كتابها بالقول: (.. ووالدي نموذج للفرد السعودي الذي جدّ واجتهد حتى أدرك العلم فأجاده، وانتفع به ونفع غيره، ثم قدم ما يستطيعه لنفع الآخرين.. لذلك كتبت هذا الكتاب وقدمته للقارئ..).