* للمؤلفين أن يختاروا ما يشاؤون من عنوانات لمؤلفاتهم، فلا سلطان عليهم إلا ما تمليه عقولهم وما يرون مناسباً لما يريدون، ولذلك فإني لم أضق بعنوان كتاب الأستاذة - حليمة مظفر - (هذيان)، فقد يختار الكاتب غير ما يريد، غير أن شريحة منهم يجنحون إلى الغريب من العناوين، ربما لجذب القارئ إلى ما يصادفه من تلك الاختيارات ذات الغرابة.. وأنا لم أتوقف عند عنوان هذا الكتاب، ولكني عرضاً.. * وجدت نفسي أبحر مع كاتبة محلقة تجيد توظيف المعاني في كلمات مجنحة رفّافة فيما يشبه التيه أو في أودية، أو في انطلاقة بعيدة المدى، لأنها تمضي نحو رؤى، كلما قربت منها ابتعدت، لتجعلها تركض وراءها بلا هدف، بل ثم هدف أمام الكاتبة، لعلها لم تقتنصه بعد، لأنه أمل، والأمل يمتد مداه، ويريد من صاحبه أن يسرح وراءه ويسهر، لأن الآمال لا تواتي صاحبها متى شاء، ولكنها تريده أن يطيل التأمل فيها، ثم يلهث خلفها، وأن يكد دون إملال ولا توقف، متعلقاً بحلمه.. وكلنا لنا آمال وأحلام نبتغي أن نصل إليها وأن تصلنا هي إذا كان ذلك متاحاً، لكنها تظل خيالاً أو أمل الأمل، ولعل عدة المنى الصبر، وإذا أعان الحظ فاللحاق بها يتابع الآمال التي فيها الحنو والسعادة والغبطة! * إن الكاتبة الأستاذة حليمة مظفر، لديها المزيد من سبل الخيال المجنح بأحلامها ورؤاها، وهي ماضية فيما تنسج من آراء نحو غاية، قد لا يهمها كثيراً أن يُلحق بها، غير أنها لها أهداف تسعى نحوها، وهي واصلة إليها بعون الله، لأنها جادة ومثابرة وطامحة وصابرة وقانعة، وكل هذه السبل عدة الساعين إلى أهدافهم، لاسيما النبيل منها، وحليمة لها ذلك الهدف وسبله الجادة والصادقة القوية، فهي طالبة دراسات عليا، وهي قارئة مجيدة، وكاتبة قادرة على تصوير طموحها، من منطلق ثقافي متجدد، ليس فيه التواء ولا ريث وركون إلى ضياع الوقت، لأنه غالٍ، فهو حياة الإنسان وأيامه، والذين عندهم هاجس النجاح ويعملون من أجله، فهم واصلون بإذن الله، لأنا وعينا منذ حين أن من جد وجد، وهذه الفتاة جادة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا! * حليمة مظفر الكاتبة، من هذا الجيل الذي يحترقه القلق، فإني أقرأ ذلك في نصوصها، عبر كلمات تطير بلا أجنحة، لأنها في عصر قرب فيه أشياء كثر، ولأنا في زمن متأخر ومتقدم، وقد أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، كما تحدثنا الكلمات المنيرة في سورة يونس، ولست أومئ إلى اقتراب الساعة، ذلك أن الغيب لله، وليست حليمة وحدها حاملة هم الزمن، ففي أجيال مضت وآتية، نجد الإيقاع نفسه، تحمله كلمات قلقة لا تستطيع أن تقول ما تريد، لأن القلق يتطاير من بريق الطموح، وللقلق بريق ذو أصداء وليس صامتاً، وذلك دأب الحيارى في ليل طويل في تخيلاتهم، لا يرقبون له فجراً، حتى أحلامهم التي تغشاهم تارة وتغيب، لا يجدون لها بريقاً، ولعل هموم الزمن، وكل زمن له همومه وكده وعناؤه، لكن يظل القلق هاجس النفوس التي تسبح في يم بلا ماء، له - شبه بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء. إلا أن هذا القلق فيه وميض طموح، يخالطه سعي جاد يتلاشى فيه السراب، وربما يفضي إلى طريق لا يقود إلى فضاء خال، وإنما إلى آمال وغيمات تخصب الأرض بالعشب والربيع، بعد سير قد يطول، لكنه غير مجدب ولا قاحل، ذلك أن السعي الجاد يوصل إلى ربيع واعد، فيحمد القوم السري، لأن الليل يعقبه فجر مشرق للواعدين، وحليمة من هؤلاء السارين بقلق، لكنهم ليسوا محرومين من أمل مشع، يحقق فيه عطاء الغراس في الأرض الخصيبة التي تسقى من الفرات، ليحول القلق والحلم إلى نبات نضير بهيج.. يجيب على تساؤلات تلك الكلمات المتناثرة في نصوص الكاتبة التي تردد: فإن بعض الجنون يهبني العقل، وبعض النصوص تهبني الحياة.. واحتضار الغروب على جدران الزمن، وذوبان الليل بأعين الفيحاء.. وكان يلحفنا سكون الليل، وبعض الوعود وأنغام المساء.. هكذا سبح الكاتبة، وتلك تعابيرها غير الخافتة في أكثر الأحيان، وإنما بصوت عالٍ، كأنها تقول لعقارب الساعة التي ليس لها إلا مسمار واحد نحو الأمام، أريد إدراك المنى.. وأنا موقن أن هذه الكلمات المندفعة من فوهة بركان، أمامها أنهار على صفحاتنا وعناوين تنبض بالحياة والآمال، والإنسان الذي عاش وتقلب في الحياة يدرك العجلة ودوافعها في الإنسان، الذي خلق من عجل كما يعلن الكتاب العزيز. * ستجد الكاتبة ردوداً على تساؤلاتها وقلقها، لكنها بعد أن تفتح نوافذ وأبواب الآمال الطموحة، بعيداً عن اليأس، وكلمات وحروف الكاتبة بقدر ما فيها من قلق فإن فيها - أملاً - مشرع للضوء بدءاً من الفجر الصادق بعد ليلة سبح فيها البدر في الليالي البيض، سهر معه مَنْ سهر من سماره والغادين في شعاعه الفضي الهادئ الجميل الساحر.. تحية لكاتبة عبقة الحروف والمداد، لأنها حياة، بكل ما في الحياة من لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ومن أجل ذلك هي حياة لمن يحياها، ويعمل فيها ولها، هي للطامحين والحالمين بها وفيها، يحرث فيها لليوم ولغد، إنها لكل العاملين بمختلف مشاربهم ورؤاهم.. * إنني أكتب هذه التأملات، عن الكاتبة وكتابها، ولو تركت لقلمي أن يمضي مع تلك الكلمات النابضة الموقدة، لسجل حلقات من هذه الزاوية من خلال الجزيرة المترامية الأطراف الغدقة بمروجها وأنهارها في ماضي الزمان ومقبله، كما قال من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.. إذاً فهذه الكلمات من نهر الحياة ليست أكثر من تحية لقلم جاد ماضٍ نحو النور وغدٍ وضاء حفيل بالسائرين في دروبه بعطاء زاخر بما في الحياة من حياة خليق بالنمو والإيناع، في مناخ حفيل بجد الجد، ذلك أن الأيام لا تحفل إلا بمن يسهم في دروبها بغراس ولبنات في صرح الوطن القيمة، ليكون بعون من الله وتوفيقه وسداده القائل عز سلطانه: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}.