لا تنهض الكتابة الشعرية في ديوان « هذيان» للشاعرة حليمة مظفر على بنية جمالية محددة، لها هيكليتها أو نسيجها التقني المعين، لكنها تقدم كتابة مفتوحة، تلتمس أن تقدم مشاهدها عبر ما تجود به المخيلة وتطفرُ به الحواس التي تلتقط مواقف وخبرات وتجارب. تضم الطبعة الثانية من ديوانها « هذيان» (23) نصاً، تقدم فيه جملة من الرؤى التي تهيمن عليها الذاتية والوجدانية من جهة، أو التعبير عن الواقعيّ من جهة ثانية. إن حليمة مظفر تسعى أولاً إلى استنطاق الأشياء، وهذه الأشياء تراها بحواسها من أطراف وزوايا متعددة. حيث تستهل بنصها: «ثرثرة مدوية» الذي تشير فيه إلى أجوائها الشعرية الأولية، في جملة من الإضافات والاستعارات الجلية: رائحة الليل، أشباح السفر، هاوية الشيطان، قضبان الخوف، جفن الورق، جدران الزمن، وهي أجواء كما نرى تتراوح بين الذاتي والواقعي، وتتسق مع الرؤية التي تصدر بها الديوان:» في هذيان تجدون بقايا إنسان، كسدت إنسانيته في سوق النخاسة، تجدون ضمائر متهالكة غائرة في جوفنا، تجدون بقايا إنسان حالم يغرق في كأس ماء فارغة. سأهمس لكم سرا ستجدون هنا عمرا مضى وعمرا أتى، وعمرا سيلوح لنا عما قريب» / ص 8 من ثرثرة تنتقل الشاعرة إلى نصوص:» بلا توبة، وهاك سرابي، ومقهى» لتعبر أكثر عن حالات الانكسار والفقد، وهي رؤية مهيمنة على نصوص الكثيرات من الشعراء، كأن هذا الحلم، كأن هذا الرمز المثالي الذي كن يتوخينه في أفق الجمال الشعري ليس بحاضر ولكنه مفقود، والإشارات الضمنية له هي بمثابة نوع من البحث ، ونوع من إعادة هذا المثال ولو بشكل ضمني غير مباشر. في هذه النصوص هناك بكاء، واستعادة ذكرى، والبحث عن ماض مقدس، وجداني أو غير وجداني، : «هاك سرابي.. هاك حلمي ذاكرة مثقوبة تبحث عن أقدامي والطريق» / ص 15 وهناك استعارات تراثية بالإشارة لكتابي «الأغاني» و«لسان العرب» في حوارية شعرية بين :«قال/ قلت» لتصل الشاعرة إلى ختامها ب: «قال: حسبك، ما كل هذا السراب؟ / قلت: حسبنا أننا بين مد وجزر، ويختنق بينهما الهواء» / ص 18 وفي « مقهى» تبحث عن أسئلتها المتتالية، وعو أجوبة ربما لا تأتي: «ما بال الصمت يضج بشوارع المدينة؟ ... ما بالهم يبحثون عن الطريق؟ ..ما بالي أشفق على الأنين؟ «ما بالي أبحث عن الحنين؟» / ص.ص 19-23 في نصوص: «موت المدينة، أيها الجنون، هذيان، موال ، حكاية، أعجوبة الشيطان، غضب» تمثيلا، نعثر على هذه الآفاق المتكسرة، على الطرقات المعتمة التي كسد فيها الزمان، أو بالأحرى كسد فيها ناس الزمان، وتحولت القيم إلى سلع، ومادة، وازدادت كثافة المادي على حساب القيم الروحية والإنسانية. في ظلال هذه الآفاق تجدل حليمة مظفر نصوصها، في جملة من المشاهد المتحركة الطالعة من أفق الواقع نفسه، مارة بالتأكيد على حواس الذات التي تتأملها، وتتساءل فيها لتعيد صنعها من جديد استعارياً وتصويرياً وإشارياً. في طريق بلا أمل كما تعبر: «يظل موالي قبرا مشنوقا في سقفي ولا موال» / ص 44 ويشكل التكرار نوعا من التعفية على حالة السأم التي تنتاب الذات الشاعرة، الذي جعل الذات مجرد أداة تتحرك بشكل نمطي كما في (هذيان): «أجلس، أقف، أمشي ، أتحدث، أصمت.. أفق ينادي ويبتلعني الصدى، أشيائي قد انتصبت معتوهة حولي وبين الورق، رماد المعاني تنفثها الريح نحو الملأ» / ص 35 بالديوان محاولات للتخلص من صدأ العقل، ومن كشف الأقنعة، كما تأمل بعض النصوص، لكن الانكسارات تحولت دلاليا إلى مشاهد درامية ومشاهد مفارقة، ربما ينبت الهذيان حول مجالاتها، لكنها في التحليل الأخير تصغي إلى ما هو قيمي وتحاول استعادته أو ابتكاره من جديد.