دأب مهرجان الجنادرية على تكريم عَلَم من أعلام الوطن.. وذلك كل عام.. وفي هذا المعنى اعتراف بأهمية الشخصية المكرمة.. هو بالأصالة ألصق.. وبالتميز أحق وأجدر.. ولا شك أن الوطن يمتلئ بالمبدعين الأعلام.. بل يكاد يزدحم بالمواهب التي تستحق التكريم.. ولو رحتُ أُعدِّد هؤلاء الجديرين بالتكريم لتغير عنوان مقالتي هذه ومضمونها.. أعني بذلك الشاعر الأديب عبدالله الجشي الذي تم تكريمه في دورة الجنادرية الأخيرة.. فكان التكريم الذي يستحقه الجشي عن جدارة. وكغيري من الشباب المتأدب.. وجدت في شعر الشاعر ما يخاطب نفسي الطموحة.. وروحي الظامئة إلى الحب والحرية والجمال.. وجدت ذلك في شعره الأصيل المتفرد. ولحسن حظي أني ظفرت بديوان الشاعر (الحب للأرض والإنسان) حيث قرأته أولاً معجباً.. ثم أعدت قراءته ناقداً.. وهاآنذا أقدمه للجمهور بقراءة انطباعية وذوق شخصي: ضمّ الديوان أكثر من 60 قصيدة.. وقد بدا الشاعر من خلالها منحازاً إلى تقاليد آدابنا العربية الأصيلة.. بل هو يلتزم بالبناء الخليلي للقصيدة.. لم يوغل في التجديد الشكلي.. ولا غامر كثيراً بالمضمون على حساب أحاسيسه التي تبدو مرهفة إلى حد كبير.. بل مرهفة بغير حدود.. وهي صفة يشترك فيها مع الرومانسيين الذين تلتهب أحاسيسهم دائماً ليس فيما يمارسونه واقعاً.. بل حتى فيما يخترعونه بخيالهم المجنح.. غير أن رومانسية الجشي ليست بذلك العمق المعروف عند الرومانسيين.. بل فيها شيء من الموازنة بين الواقع والخيال أو بين الفكر والقلب.. ثنائية واضحة.. تتصارع في ذات الشاعر: عشتُ في الحرف كما عاشت أساطير وحكْمَه آه لو جددت نفسي في غد أجهل رسمه فيه آمال وأحلام وضيئات لأمه أملي أن تزوع الحكمة في سفحٍ.. وقمّه كنت قبل اليوم ذا فكرٍ.. وصار الفكر وصمه وأغانيّ التي أزفرها أشلاء نغمه قدري يفرض ما أصنعه من دون رحمه هذه بعض مأساة الشاعر التي يحاول الإعلان عنها.. فالأمر لم يعد سراً.. إنما هو القدر الذي شاء الله أن يمضي على الشاعر.. لو ظل عقلي طفلاً لكنت أسعد حالا لكن كبرت فصار.. الرضا لديّ محالا لا المال أغنى طموحي ولا التوجس زالا ولا الهوى هز روحي فصار حبي دلالا ولم ينور حياتي ولم يعرش ظلالا وما سقى فيّ نبتاً ولم يزدني اعتدالا عمري زمان قصير يزداد مثلي اكتهالا ماذا سأجني بعمري إن شاخ عقلي ودالا؟ الملاحظ أن الشاعر يمتح ألفاظه من قاموس شعري غير مقيد، بل الشاعر متمكن من اللغة الفصحى؛ لهذا تأتي الألفاظ طيّعة .. سلسة.. سهلة وفي مكانها المناسب.. والمقطوعة التالية تؤكد ذلك وتوضحه: عشقت بلادي أرضها وبحارها وواحاتها حتى الجزائر والربى وعشت ربيع الفاتنات مرفهاً يرشفني فيه الرضاب المحببا بلادي فيها.. فجّر الحب طاقتي وصرت خبيراً.. بالغرام مدربا وقد يهرم الإنسان فكراً وصورة ولكن حبي ظل في ميعة الصبا أود لنفسي أن تصان كرامتي وما حيلتي إن أهدرتها يد الغبا وما غلّت الأيام صوتي فإنه جهير وصوت الحرِّ لن يتهيبا هي الشمس يبدو ضوؤها متوهجاً وإن عميت عنها عيون تعصبا سيمضي كلانا حاسد ومحسد ومن عاش في القصر المنيف أو الحبا حياة الفتى في علمه وفنونه وما قيمة الإنسان إن عاش مجدبا بالتأكيد! لا قيمة له.. كالأرض البلقع لا نبات فيها ولا حياة، لكن قيمة الإنسان فيما يحمله من مواهب فنية وطاقات إبداعية.. وهذا ما أشار إليه الشاعر مرة أخرى في قصيدته الحائية (بين الشعر والفن) ص161: لكل فنون في بلادي مطمح وكل ربيع للخيال مجنحُ وللشعر فينا مولد متقادم وللفن فينا مستراد ومسرح هما مصدر إلهامنا وفنوننا وإبداعاتنا حيث المواهب تنضح تبارك في هذا الرعيل عطاؤه وبورك جيل فكره متفتح وبورك في فتياننا وبناتنا مواهب في كل الأفانين ترجح إلى أن يختم قصيدته هذه الموجهة نحو الأجيال المتأدبة الموهوبة ببيت حكيم ملفت للنظر جدير بالتأمل: فأشجع فكر ما يجدد نفسه وفي كل تجديد.. مريد ومصلح فالشاعر مع التجديد.. لا شك.. بل هو مع المواهب الصاعدة يفسح لها الطريق لتأخذ دورها في الحياة والإبداع الفني.. أما القضايا الكبرى.. أو الوضع الراهن لحال أمتنا فللشاعر رؤية خاصة.. تبدو بعيدة النظر.. لكنها تستحق الوقوف عندها طويلاً: الوضع ينذرنا أنّا إذا أغتُصبت صبحاً فلسطين ودعنا ضحى حلبا لذلك فإن القدس وما حدث له يسميها الشاعر نكبة لا تبعد كثيراً عن نكبة الأندلس التي ضاع فيها مجد عربي وإسلامي عظيمين: بل نكبة جددت مأساة أندلس وصدّعها بُعيد الآن ما رؤبا عظمت من نكبة جلت رزيتها نصب العيون بها الإسلام قد نكبا كأننا لم نقم في الغرب دولتنا غداة قدنا إليه الجحفل اللجبا وبعد هذا كله يتساءل الشاعر وفي السؤال مرارة: هل يعيد المخلصون من أبناء الأمة ما أُخذ بالأمس.. بل هل يعود إلى الإسلام عزته.. فيجتمع الشمل الذي شعب وانصدع؟: أهل تعيد جهود المخلصين لنا ما ابتز مستعمر منا وما استلبا؟ عسى تعود إلى الإسلام عزته ويجمع الله شمالا كان قد شعبا أما وفاء الشاعر للأزمنة والأمكنة.. وللأشياء والأحياء فواضح كل الوضوح في قصائد الديوان.. والوفاء.. لا كما يقول المتشائمون من أنه عاطفة سلبية.. لكنه - برأيي - عاطفة نبيلة تدل على أصل المحتد والنشأة الطيبة لمن اتصف بها.. من هنا فالوفاء عميق عند شاعرنا الجشي.. يلاحظ هذا عندما عاد إلى جزيرة (أوال) بعد فراق استمر 36 عاماً: باكر (أوال) وقد غنت شواطئها لحناً كما سلسل الأنغامَ أوتار قد ذكرتني أناشيد مجنحة تحلو بهن أحاديث وأسمار فلي بها رفقة كالزهر ما برحت يستنشق العطر منها الضيف والجار وشواطئ (أوال) التي يحن إليها الشاعر إنما هي جزء من بلاده التي أحب أهلها وترابها وظل وفياً لها حتى الثمالة: تلك الشطوط بلادي كم أحنّ لها وإن تناءت بنا عن قربها الدار كم زرتها في ربيع مشرق عبق فالأرض والجو جنات وأعطار وفي فؤادي ربيع من فتوته أزهاره البكر آمال وأوطار وفي قصيدة (ذكريات الصبا) ص176.. يبدو الشاعر مشدوداً إلى ماضيه البكر.. حيث البراءة واللهو..لا مسؤوليات تثقل الكاهل ولا أحزان تنغص العيش وتبعث الهموم: قال لي: قم معي إلى البحر نلعب لعبة الصيد والهوى والشراع نتحف النفس نشوة وانتعاشاً ونغذي الخيال بالامتاع صِبْية كالورود لم يتفتق عنهم برعم طري القناع يحسبون الحياة لهواً وايقاعاً ورقصاً في مسرح الإبداع كل ما في قلوبهم من أمان أن يظلوا في متعة واجتماع إلى أن يقول في المقطع الأخير الذي تتغير فيه القافية لكن الموضوع لا يتغير.. ذكريات الصبا.. وحنين إلى أيام ذلك العهد الطري الناعم: كل شيء لنا مباح.. متاح كل شيء في عالم الإمكان ليس للمستحيل أي وجود في خيال الصبيان والفتيان كرنفال.. ما مثله كرنفال رقصت فيه روعة الألوان كم تمنيت لو تسيل القوافي في لساني وترتوي من بياني لزرعت الشطآن من أغنياتي ومنحت الأصداف أغلى الجمان ونشرت السلام والحب والفل وزهر الليمون والأقحوان أما هناء.. فقصتها قصة، حيث خصها الشاعر الجشي بقصيدة عصماء.. عنوان القصيدة (هناء).. وهذا الاسم الأنثوي الذي يدل على السعادة والفرح يتكرر كثيراً في أبيات القصيدة: (هناء) كانت قطرة من مطري ونسمة فواحة من زهري حاولت أن أبقيَ سراً خبري كالدر في المحار عبر الأعصر فلم تزل (هناء) عبر سرنا نقية مثل شعاع القمر إنه الحب الذي لا يخفى سره.. وإن حاول الشاعر إخفاءه.. (هناء) كانت وتراً في مزهري هل نسي المزهر لحن الوتر؟ كانت ليَ الحلم الذي رافقني عشرين عاماً متعباً في مهجري تزهو كأزهار الربيع غضة بيضاء ترفل في وشاح أخضر ولم تزل عبر خيالي طفلة لاهية بين الصبايا الأخر (هناء) يا قلبي الذي رافقني حنانه كقطعة من عمري كنت هناءً لفؤادٍ لم يذق طعم الهنا في عمره المبعثر (هناء) يا سري الذي أغرقته في خاطري وما طفا في نظري! ووفاء شاعرنا يمتد فيشمل الأموات.. لذلك عندما توفيت شقيقته الوحيدة (صباح) أطلق هذه الصيحة الهامسة عبر أبيات شعرية اختار لها البحر الكامل.. وهذا البحر هو الأنسب من بين كل البحور لعاطفة الحزن والرثاء: كانت وكان بها الزمان منوّر وجنانها رغم المآسي يكبرُ ما لي سواها في حياتي مؤنس ستين عاماً طاب فيها المعشر كنا كجذرٍ واحد نبت الإخا فيه.. بغصني فرحة تتجذر فإذا المحبة وهي جنة عمرنا يفتر منها.. كل ما هو مزهر إلى أن يقول بعد ذلك مسترجعاً ذكرياته العذبة مع أخته التي حان أجلها.. فتركته وتركت الدنيا بأسرها: أختاه كم في الذكريات حقائق تبقى على مر الزمان وتؤثر إني أرى في كل ركن صورة لك ما يزال بحسنها يستبشر وأرى الطهارة وهي سر نقائها كالشمس لاح لها جبين أزهر قل للقطيف فقدتِ أجمل درةٍ كانت بشطآن النجوم تخطّر إن القطيف إذا خلت من مثلها عقم الوفاء بها وشاخت أعصر والقطيف هنا هي المدينة المعروفة في شرق المملكة العربية السعودية حيث بها ولد الشاعر عام 1926م من أسرة تتعاطى الأدب والفقه وتجارة اللؤلؤ.. وقد ألّف الشاعر عبدالله الجشي غير الشعر بعض المؤلفات النثرية منها (الدولة القرمطية في البحرين)، و(تاريخ النفط في العالم)، و(بحوث تاريخية) وأحسب أن محبي الجشي ومريديه حريصون على إخراج مجموعته الشعرية التي ستكون بالتأكيد ضخمة في محتواها.. تستحق القراءة والدراسة؛ فالشاعر عبدالله الجشي مؤرخ متمكن وباحث مهتم بالجيد من المواضيع والظواهر الاجتماعية المختلفة. (*) شاعر وكاتب سعودي- القصيم - البدائع ص.ب 525