نزل الوحيُ من السماء مُعظماً، وكان الوحيُ عمادَ شرائع الأنبياء وكانت صحفُ ابراهيم وموسى، وكان التوراةُ والإنجيلُ، والزبور، ثم كان القرآن فرقاناً ومهيمناً ومصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (سورة المائدة 48). واندرست الكتبُ السماويةُ وبقي القرآن الكريم محفوظاً علياً {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أجل إن حفظ القرآن معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن الإسلام رسالة الله الأخيرة للبشر. بالقرآن حفظت أخبار الأنبياء ودعوتهم إلى أقوامهم، وبالقرآن كانتُ الإشارة إلى شرائع السماء، بالقرآن قُصَّ أحسن القصص، وبالقرآن أحكمت الشريعةُ فلا نسخ ولا تبديل ألا ما أتى اللهُ بخير منها أو مثلها وفي حياة محمد صلى الله عليه وسلم فقط وبعد موته انقطع الوحيُ من السماء، وتوارثت أمةُ الإسلام هذا القرآن تحفظه في الصدور، وتجده مكتوباً في الألواح والمصاحف، ومهما أصاب الأمة من نكبات وخطوب، ومهما اجتاح العدوُّ أرضها أو دمر ما دمر من حضارتها فقد بقي القرآن شاهداً على التحدي، وبرهاناً على الحفظ والإعجاز.. لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وكلما ضعف المسلمون عن القرآن هبَّت صيحات تنادي بالعودة إلى كتاب الله، فينبعث للقرآن جيل جديد، وتنبعث همم لحفظه وتدريسه والعناية به وبعلومه، وتنشأ مؤسسات ودور ومعاهد وجامعات للقرآن. وعلى مرَّ العصور وللقرآن رجال ونساء يحيون الليل بالقرآن قراءة وتدبراً وبكاء وخشوعاً، وعلى اختلاف الدول كان للقرآن سلطان، به يساس الناس وبأحكامه يؤخذون وبهديه يهتدون. وعلى اختلاف الأحوال حضراً وسفراً وصحة ومرضاً كان القرآن للمسلم رفيقاً ومؤنساً.. يتلوه المسلم قائماً وقاعداً وعلى جنب وبقي القرآن خير جليس ومؤنس في حال الغربة والوحشة.. فالقرآن يتلى في غياهب السجون.. ويترنم السجناء بآياته وهم في قبضة الأعداء يُسامون سوء العذاب ويعاملون بوحشية مُفرطة، ويعزلون عن أهليهم ومجتمعاتهم في جُزرٍ بعيدة الأعماق نائية عن الأمن والإيمان هناك في (غوانتنامو) يُسمع دويُّ للقرآن ويُنفس المكروبون عن أنفسهم بترتيل القرآن، ويناجون ربّهم بالقرآن ولكن الظلم يتجاوز الحدود، وكرامة الإنسان تُهان إلى الأذقان، بل وشرائع السماء ووحي الله تنتهك إلى حدٍ لا تكاد تصدقه العقول وفي زمن من العلم والعولمة والزعم بتصدير الحرية والديمقراطية؟ أجل لقد نشرت وسائل الإعلام العالمية - وفي مقدمتها وسائل إعلام الغرب - انتهاك الجنود الأمريكيين للقرآن في سجن غوانتنامو.. مُزق القرآن وأهين في المراحيض.. وذلك كأسلوب من أساليب الأذى والتعذيب للسجناء المسلمين هناك.. ولكن الحادث أبعدُ مدى وأوسع انتهاكاً، فهو تحدٍ سافرٍ للمسلمين، وهو استفزاز لمشاعر أكثر من مليار مسلم.. وعلى أثرها احتجت دول، وتظاهرت شعوب وصدرت بيانات واستنكارات من هيئات ومجمعات ولجان ومنظمات إسلامية. ولقد عبرت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة والمنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي باسم شعوب الأمة الإسلامية وعلمائها وفقهائها عن سخطهم الشديد واستنكارهم الكبير لما نقلته وكالات الأنباء العالمية استناداً إلى مجلة (نيوزويك) الأمريكية الصادرة في 9 مايو 2005م من أخبار مزعجة حول قيام بعض جنود الجيش الأمريكي في قاعدة (غوانتنامو) الأمريكية بكوبا بتدنيس المصحف الشريف وإلقائه في المراحيض، بقصد إيذاء السجناء المسلمين ومن وراءهم من عامة المسلمين وأهل الديانات الإلهية المعترفين بأن الكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو كمثله من الكتب المقدسة - التوراة والإنجيل - واجب احترامها وتقديسها. وأشار البيان إلى أن هذا الانتهاك من أشد الموبقات جُرماً، ولا يمكن للمسلمين التسامُح فيه.. (جريدة الجزيرة 9-4-1426ه). ومع أهمية هذه البيانات المستنكرة فينبغي للمسلمين حكومات وشعوباً ألا يقفوا عند حدود التنديد، بل يواصلون استنكارهم حتى توقع العقوبة الرادعة على المجرمين ومن وراءهم، وحتى يعلم العالم أن الإسلام عزيز في نفوس أتباعه، وأن القرآن عظيم في قلوب أهله، وأن للمستضعفين من يناصرهم ويُدافع عن حقوقهم وكرامتهم فالسجناء المسلمون هناك أوذوا وعذبوا وانتهكت حقوقهم وقد آن الأوان لنصرتهم والدفاع عنهم وينبغي أن تعرى أنظمة الغرب المدعية لحرية الأديان، والزاعمة لتأمين الديمقراطية للشعوب، وها هي اليوم تمارس العنصرية والاستبداد والانتهاك بأبشع صورها، وترسم مشهداً موحشاً للغرب وجنوده، يتجاوز الإساءة للبشر إلى الإساءة وقلة الأدب مع الله وكلامه ووحيه، ويطال ذلك شرائع السماء كلها. اللهم إنا نبرأ إليك مما صنعه المجرمون ونسألك أن تسلّط عليهم من ينتقم منهم إنك قويٌ شديدٌ المحال. وبالمناسبة نذكر المسلمين وغير المسلمين ولا سيما من أهل الكتاب أن القرآن خضعت لعظمته الأفئدة، وخرّ للأذقان سُجداً أهلُ العلم من أهل الكتاب حين تُلي عليهم، وسُجل الموقف الرهيبُ في القرآن وتحدى اللهُ من أعرض عن القرآن ولم يؤمن به فقال تعالى مادحاً أهل العلم من أهل الكتاب، وقادحاً على من كذب به وأعرض عنه من أهل الأوثان: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (سورة الإسراء 107-109). قال السعدي رحمه الله: (وهؤلاء كالذين مَنَّ الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك (تفسير السعدي 4-322). والمشهد هنا يفوق الوصف ولا تكفي الألفاظ لتصوير الموقف، فتنسكب الدموع معبرة عما يجيش في الصدور. أين هؤلاء المدنسون للقرآن والممزقون لما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ممن سبقهم من نصارى قال الله عنهم: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}(سورة المائدة 83) اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وممن يعظمن القرآن. القرآن في غوانتنامو تدنيس أم تكريس؟ هل ما نُسب إلى الجنود الأمريكيين هناك تدنيس للمصحف الشريف أم تكريس للعدوان على المسلمين بشكل عام؟ أهو تدنيس للمصحف كما صنعوا أم هو تكريس للاهتمام به من قبل المسلمين كما ينبغي، فالمسلمون يدركون أن القرآن هادٍ لا يُضل وناصح لا يغش، ومحدث لا يكذب، فيه زيادة من هدى ونقص من عمى، وشفاء من عي شافع مشفع وقائل مصدق. إن المسلمين لا ينبغي أن ينطلقوا في عنايتهم بالقرآن من ردود الأفعال ولكن مثل هذه الأحداث المؤسفة تذكرهم بواجبهم تجاه القرآن تعلماً، وتعليماً، وعناية ودعماً، ودعوة ونشراً للقرآن. إن حادثة تدنيس القرآن هناك تذكر المسلمين بموقف أعدائهم من القرآن والإسلام وتنبههم إلى تعظيم الله بتعظيم كتابه، وإغاظة الأعداء بالعودة للإسلام وحمل القرآن. ولقد فهم السابقون أن القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونه بالليل ويتفقدونه بالنهار - وكذلك ينبغي أن يفهم اللاحقون من المسلمين - (كما أثر عن الحسن بن علي رضي الله عنهما) (التبيان للنووي - 28). وقفة ومصارحة ماذا وراء احتجاجنا وغضبتنا لما يصنعه الأعداء بالقرآن؟ وشكراً لك أيها المسلم وأنت مُثاب حين تغضب لله وتدافع عن القرآن ولكن قل لي بصراحة: ما وردك اليومي من القرآن حين تغضب للقرآن؟ وكيف تعظيمك لأحكام القرآن حين تدافع عن القرآن؟ وما مدى عنايتك بتعليم وتحفيظ أبنائك للقرآن؟ (وخيركم من تعلم القرآن). يا أيها الموسرون والمقتدرون.. هل يدعوكم هجوم الأعداء على القرآن إلى البذل من أجل القرآن تشجيعاً للحفظة ودعماً لحلق القرآن وجمعيات تحفيظه، وتوزيعاً للمصحف لمن به حاجة إليه؟ وحين تشكر وزارة الشؤون الإسلامية ممثلة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - ورابطة العالم الإسلامي ممثلة بلجنة الإعجاز للقرآن، وسواهما من الهيئات والمنظمات الإسلامية العالمية المعنية بالقرآن فهل يزاد من طباعة المصحف وتوزيعه إذ لا تزال الحاجة قائمة ولا يزال في المسلمين من يتعاقب على المصحف الواحد؟ وهل يا ترى تزداد العناية بترجمة معاني القرآن بعدد من اللغات ليصل القرآن الى كل راغب في البحث عن الحقيقة والوقوف على الجوهرة الثمينة؟ وهل من مشاريع أخرى لخدمة كتاب الله؟ وإذ نسمع بين الفينة والأخرى عن مسابقات محلية أو عالمية في القرآن، ونحيي هذه البوادر الطيبة، فكم نتمنى أن تُرحل هذه المسابقات للمسلمين في بلادهم ليتيسر لأكبر عدد من أبناء المسلمين الاستفادة من هذه المسابقات وكم هو طموح لو زيد في مدارس ومعاهد وكليات القرآن في مشرق العالم ومغربه، ليبلغ القرآن ما بلغ الليل والنهار. مشاريع كثيرة يمكن أن يفكر بها المسلمون ويدعموها في سبيل تعليم القرآن، وحينها ينتشر الهدى، ويكون الشفاء بالقرآن، ويعم النور وتنور البصائر، وتعم البشائر، وتعلو الفضيلة، وتنساح الحكمة، ويرتبط الناس بحبل الله، ويفرح المؤمنون بفضله ورحمته وذلك خير مما يجمعون.. وحينها ينقلب السحر على الساحر، وينقلب المكروه إلى محبوب، ويعلم الأعداء أن للقرآن وزناً عن المسلمين.. وأن التحدي والاستفزاز يدعو المسلمين إلى مزيد من الاستمساك بالقرآن وتعظيمه ونشره. على أن حادثة تمزيق المصحف في غوانتنامو - تلفت نظر المسلمين إلى ما يلقاه أخوانهم المسلمون المعتقلون هناك من إهانة وتعذيب آن الأوان لأن تنتهي وينصر المسلمون إخوانهم المستضعفين هناك فثمة تأوهات تذهب أدراج الرياح.. وثمة أنين وحنين لا يسمع في لج البحار. وثمة ظلم تعفيه الأمواج كالجبال ولكن الله يسمعه من فوق سبع سماوات.. أما أن للظلم أن يرفع وللمظلومين أن ينصروا؟! لقد أفرج عن عدد من المعتقلين لاحتجاج هيئات، أو مدافعة محامين.. وبقي أعداد من المسلمين ينتظرون فرج السماء وشفاعة الأقرباء.. اللهم فارج الكربات نفس عمن سُجن ظلماً وعدواناً.. اللهم آنس وحشتهم، وثبت قلوبهم على الحق، وأنزل عليهم السكينة والرحمة وأخرجهم من الظلم والظلمات سالمين غانمين.. اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين عم أهلك وخاصتك ،وانصر أهل القرآن على من دنسوه، اللهم من أرادنا وأراد إسلامنا وبلادنا بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليهم، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.. ودمّر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين. [email protected]