جولة - فهد الغريري - سعود الشيباني - حسين فقيه: مرتمياً على قارعة الطريق، غائباً عن الوعي، مفترشاً قطعة (كرتون) وقد طوَّح بيديه، لابساً ثوباً قذراً وقد انتصبت بجانبه زجاجتا مياه صحية، أو هكذا خُيِّل لنا قبل أن نشم رائحتها لنكتشف أنها عبارة عن خمر مصنَّع محلياً (عرق). وفيما سقط شماغ الرجل مفصحاً عن جنسيته كانت عشرات البنطلونات والقمصان تمر من فوقه كأنما هو و(الكرتون) الذي افترشه قد توحَّدا في كيان مشترك بائس وكئيب. إن كنتَ قد أشفقتَ على مواطنك الذي لفظته البيوت الشعبية فإن هناك العشرات ممن هم أسوأ حالاً منه، إنهم الذين لم يجدوا حتى 100 ريال قيمة زجاجة (العرق)، فأقبلوا على زجاجات الكولونيا الرخيصة التي يطلق عليها شعبياً اسم (الخرش) والتي لا تتجاوز قيمتها عشرة الريالات يعبُّون منها حتى تعمى أبصارهم ثم يرتمون في الأزقة والمواقف وبيوت الطين المهجورة. (أكملتُ الآن ستة أيام في البطحاء.. استأجرتُ غرفةً مفروشةً بسبعين ريالاً في اليوم، ويكلفني (الخرش) عشرة ريالات؛ فهو أرخص وأقوى من (العرق) أو (المستورد)، أشرب حتى أدوخ وأنام، ولكني أنسى كل مشاكلي وأحس وقتها أني أملك الدنيا). هكذا تكلم أبو وليد (46 سنة) الذي ترك منزله وزوجته وأولاده في حي البديعة ليبقى قريباً من بائعي (الكولونيا) في البطحاء. وإن كان هو قد أكمل ستة أيام فهناك آخرون قد أكملوا ست سنوات وتجاوزوها بحسب ما صرَّحت لنا به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحي. هكذا كشفت البطحاء عن وجهها القبيح المؤلم بعد الحملات الأمنية.. فرَّت الطفيليات من العمالة المتخلفة مخلِّفة وراءها ضحاياها من أبناء البلد؛ ليكونوا شاهد حال على ما وصلت إليه الحال في تلك الأحياء التي استودعت شوارعها كثيراً من الأسرار حتى فاحت رائحتها. (الجزيرة) قامت بجولة في هذه الأزقة لتكشف الواقع المرير.. فإلي التفاصيل: ******** كانت البداية في حي (ثليم) الذي اشتهر بترويج المخدرات والمسكرات مقابل (سوق البنغالية) الذي اشتهر بالأقراص المدمجة الإباحية وتمرير المكالمات الدولية. وجرت العادة في (ثليم) على أن يكون التفاهم مع مروجي المخدرات عن طريق (الولاعة)؛ حيث تكتفي بضغطة واحدة مطلقاً اللهب عندما ترى أحد الواقفين أمام المنازل في الأزقة، لتبدأ بعدها عملية المفاهمة على الصفقة. كادت تفرغ الولاعة دون أن نظفر بأي تواصل مع أيٍّ من العمالة الذين انتشروا في الحي والذين لحظنا أنهم يلتفتون جميعهم إلينا بمجرد أن نقبل من أول الشارع، وعندما حاولنا الحديث معهم كانت إجاباتهم المرتبكة تنفي وجود أي شيء ممنوع: أقراص مدمجة، تمرير مكالمات دولية، وبالتأكيد الخمر والدعارة. وجبة مخدرة بنصف ريال! لفت انتباهنا بابان متقابلان، دخلنا الأول فإذا بالغرفة الأولى من البيت قد تم تحويلها إلى مطعم صغير، خرجنا منه إلى الباب المقابل فوجدنا نفس المشهد.. وفي كلا الحالين كنا نشاهد أوراق نبات (التمبل) المخدر قد اصطفَّت على الطاولة، وكان العامل يقوم بعمل (خلطة) من إضافات مختلفة على الورقة ليلفها ويقدمها إلى الزبائن بنصف ريال فقط! أولى الضحايا في الأزقة المظلمة إلاَّ من بصيص نور أرسلته الشوارع الرئيسة مررنا مسرعين، ثم انتبهنا لشيء ملقًى على الأرض لنعود أدراجنا ونشاهد ما توقفنا أمامه طويلاً: جثة رجل تمدَّد على قارعة الطريق يرتدي ثوباً وشماغاً وقع عنه على قطعة (الكرتون) التي افترشها بجانب قاذورات تكدست في الشارع الضيق، كان في إمكانك أن ترى بؤساً بمقدار الأربعين عاماً التي وشت بها ملامح الرجل، وضياعاً بدا واضحاً من خلال زجاجتي المياه المعدنية اللتين انتصبتا بجانبه مليئتين بالخمر المحلِّي (العرق) عوضاً عن الماء. وفيما ارتمى الثوب والشماغ بمن لبسهما على الأرض كانت عشرات البنطلونات والقمصان تمر من فوقه يواصل أصحابها حديثهم بلغات مختلفة لم يكن من بينها العربية، كانوا يمرُّون على الجثة الملقاة بلا مبالاة، كأنما هي والقاذورات التي تكدست حولها شيء واحد، كانت اللغات الأعجمية تلقي على الجسد المسجَّى شيئاً من (غرابتها). هجروا بيوتهم بحثاً عن المسكر! في منعطفات (ثليم) رأينا جسداً آخر، اقتربنا منه فوجدناه قد انزوى بجانب أحد الجدران مستلقياً على جنبه الأيمن مفترشاً الأرض بلا (كرتون) ولا زجاجات خمر هذه المرَّة.. كان غائباً عن الوعي بلا سبب واضح، ولكن الهيئة أفادونا أن هؤلاء المرتمين في الأزقة يقابلهم آخرون كثر اتخذوا من بيوت الطين المهجورة ملاذاً يلجأون إليه ويقيمون فيه، تاركين بيوتهم وأهلهم مفضِّلين العيش في (البطحاء) قريباً من زجاجات الكولونيا التي اصْطُلِح على تسميتها ب(الخرش). وعندما تجوَّلنا في بعض بيوت الطين التي تهدمت أجزاء منها وجدنا بقايا طعام وعدداً من البطانيات كفُرش يرتمون فوقها بعد أن يفقدوا الوعي، ولكنَّا لم نصادف أياً منهم؛ حيث علمنا أنهم لا يتواجدون في هذه الأماكن إلا بعد الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل. جولة منتصف الليل عُدْنا إلى نفس المنطقة بعد منتصف الليل لنرى عدداً من الأجساد التي افترشت الأرض بهدوء فرضته حالة فقدان الوعي.. كان الظلام مطبقاً على المكان، حتى إننا لم نستطع التقاط الصور، ولكننا أحصينا ما يقارب الخمسة عشر شخصاً على هذه الحال، فأي بؤس أرسى قواعده هنا؟! ما هو (الخرش)؟ بحسب إفادة الهيئة فإن أكثر مَن يقبضون عليهم من السكارى يتناولون الكولونيا المركَّزة التي ترتفع فيها نسبة تركيز الكحول، وذكروا لنا أن المصنع الذي ينتج هذا المشروب قد تم إغلاقه عام 1408ه بعد أن اتَّضح تأثير الاستخدام الخاطئ لمنتجاته. والآن تقوم العمالة المخالفة بتعبئة مادة (الأثولين) التي تستخدم في صناعة البلاستيكيات، وثبت أنها مادة مسرطنة، داخل زجاجات الكولونيا واضعين عليها ملصقاً قديماً يحمل اسم المصنع الذي تم إغلاقه، ويحمل ذات التاريخ 1408ه، ومن ثَمَّ يبيعونه بأسعار تتراوح بين خمسة وعشرة الريالات. وعلمت (الجزيرة) أنه تم القبض على عامل باكستاني كان يبيع هذه الزجاجات قبل فترة، وتم تغريمه مبلغ 40 ألف ريال لممارسته الغش التجاري، وأن هذا العامل عاد إلى ممارسة هذه الجريمة في حق الإنسانية، ليتم القبض عليه حيث وجدوا في بيته ما يقارب 900 زجاجة كولونيا. وكشفت التحقيقات مع مَن يفترشون الأزقة أن كثيراً منهم قد هجروا بيوتهم وزوجاتهم وأولادهم لمُدَد طوال تصل إلى ثمان سنوات، بل إن بعضهم قد أتى من خارج منطقة الرياض وأقام في بيوت الطين وفي الأزقة ليكون قريباً من مصدر المشروب القاتل! أبو وليد.. نموذج حيٌّ (ميِّت)! مررنا أثناء جولتنا بمركز الهيئة، ليتصادف وجودنا هناك مع قدوم فرقة مكونة من الهيئة والشرطة قد قبضت على أحد متعاطي (الخرش) واقتادته إلى المركز.. رجل في أواخر الأربعين تهدَّلت ملامح وجهه، وفقدت عيناه بريقهما، كما فقد ثوبه وشماغه ألوانهما، وانتشرت فيهما البقع. أبو وليد يبلغ من العمر ستة وأربعين عاماً، متزوج وقد رزقه الله ولدين وبنتين؛ حيث أنهى ابنه دراسته وتوظَّف، فيما تواصل ابنته الكبرى الدراسة الجامعية. ولكن (أبو وليد) فضَّل احتضان زجاجات الكولونيا في البطحاء على احتضان زوجته وأولاده في منزله. في البداية قال لي: إنه في البطحاء من يومين فقط.. وفي آخر الحوار قال: ستة أيام.. والمُخفَى أعظم. شرب أبو وليد المسكر لأول مرة قبل 18 سنة، وقال: إنه كان يُشاهد في الأفلام أجواء السكارى فأحب أن يجرِّب. وكان أول مشروب تعاطاه هو (العرق)، ولكنه استقر على (الخرش)؛ لأنه كما قال (أرخص.. وأقوى مفعولاً). ولا عجب، فمادة (الأثولين) تذهب العقل، وتعمي الأبصار، كما أن لها آثارها السيئة على البدن؛ فقد دخل أبو وليد المستشفى قبل سنة بسبب اضطرابات في المعدة، ولكنه عاد إلى الشرب مرة أخرى. وأبو وليد أحسن حالاً من مفترشي الطرق؛ فهو يملك دخلاً شهرياً يكفيه لأن يشتري زجاجات الكولونيا ويكفي لاستئجار غرفة في إحدى الشقق المفروشة بمبلغ سبعين ريالاً في اليوم، ولكنه عندما يُفلس يعود إلى افتراش الشوارع، تشي بذلك قذارة ثيابه التي عانقت الأسفلت كثيراً. سألنا أبا وليد: ماذا يفعل في الغرفة المفروشة؟ وهل هناك أي وسائل ترفيه أثناء تناوله المشروب؟ فقال: (ليس هناك أي شيء.. فقط أنا وزجاجة الخرش، أشرب فأنسى همومي، وأحس أني أملك هذه الدنيا، وإذا جُعْتُ نزلتُ إلى الشارع أبحث عن أي لقمة آكلها، ثم أعود لأكمل زجاجتي حتى أدوخ وأنام). أبو وليد ترك منزله لأنه على خلاف مع عائلته، فزوجته تهدِّده بأنها ستخبر إخوتها عنه إذا شرب في المنزل، وابنه الأكبر على قطيعة معه، وهو غاضب لأن والده يُعاقر المسكرات. أما ابنته الجامعية فهي حزينة دوماً بسبب حال والدها الذي سألناه إذا كان قد فكَّر في مصير ابنته التي لن يتقدَّم إليها مَن يطلبها إلى الزواج على هذه الحال، فقال بكل ثقة: (وما علاقتي أنا... البنت هي التي ستتزوج، والمثل يقول: إذا بغيت تضمها اسأل عن أمها، ولم يقل: اسأل عن والدها!!). عندما سألنا البائس: هل سبق أن جرَّب أن يشرب الخمر المستورد، قال: إنه يسافر إلى دولة مجاورة إذا توفَّر له المال، وهناك يشرب المستورد، مؤكداً أنه يتمنى لو استطاع توفير المال لشراء هذه الأنواع في الرياض، ولكنها غالية جداً! متفرِّقات * عادت الحياة إلى محلات الاتصالات (الكبائن)، وذلك بعد سقوط أوكار تمرير المكالمات على يد الحملة الأمنية التي قامت بتنظيف البطحاء من السوق السوداء للمكالمات التي كانت تبيع عشر الدقائق الدولية بخمسة عشر ريالاً، محطِّمة بذلك سعر شركة الاتصالات السعودية للمكالمات الدولية، مما نتج عنه خسارة محلات الاتصالات لما يقارب نصف دخلها؛ حيث انصرفت العمالة إلى تلك الأوكار يُجْرُون اتصالاتهم منها. * في أحد الأزقة اشتبهنا بعامل خرج من منزل شعبي، فطلبنا منه الوقوف، ولكنه أطلق ساقيه للريح بسرعة عجيبة؛ مما يؤكد وجود أمر مريب، وعندما عُدْنا إلى المنزل وطرقنا الباب لم نجد أي رد. * ذهبت الفرقة بحثاً عن المرتمي في الأزقة بجانب زجاجات الخمر بعد أن أبلغناهم عنه، ولكنهم لم يجدوا إلا قطعة الكرتون التي كانت فراشاً له، كما أبلغناهم عن المطاعم المخالفة فداهموها وألقوا القبض على مَن فيها. * علمت (الجزيرة) أن مروِّجي الكولونيا المسكرة يستخدمون حافلات النقل كمخابئ لبضاعتهم، كما يضعون بعضها تحت سياراتهم؛ حيث يمارسون الترويج في الطريق. * ينتشر مفترشو الطريق في أزقة البطحاء وثليم، وتعتبر مواقف السيارات وبيوت الطين المهجورة المهدَّمة أفضل خياراتهم التي يقصدونها ليلقون فيها أجسادهم بعد أن يفقدهم (الخرش) وعيهم. * أبو وليد وأمثاله يعودون إلى الشوارع في اليوم التالي، فعندما يتم القبض عليهم وإيداعهم في غرفة التوقيف بمركز الشرطة لفترة يُفرج عنهم بعد كتابتهم ورقة يتعهَّدون فيها بعدم العودة إلى ما فعلوه.. لكنهم يعودون مراراً وتكراراً ليكتبوا نفس الورقة في كل مرَّة!.