انخفاض سعر الروبل أمام العملات الرئيسية    مصرع 10 أطفال حديثي الولادة جراء حريق بمستشفى في الهند    "سلمان للإغاثة" يوزّع 175 ألف ربطة خبز ضمن مشروع مخبز الأمل الخيري في شمال لبنان    يدعوان جميع البلدان لتعزيز خطط العمل الوطنية    استمرار تشكل السحب الممطرة على جازان وعسير والباحة ومكة    مهرجان صبيا.. عروض ترفيهية فريدة في "شتاء جازان"    سوق بيش الأسبوعي.. وجهة عشاق الأجواء الشعبية    اكتشاف مخلوق بحري بحجم ملعبي كرة سلة    وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    "أخضر الشاطئية" يتغلب على ألمانيا في نيوم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    زيلينسكي يقول إن "الحرب ستنتهي بشكل أسرع" في ظل رئاسة ترامب    ترامب ينشئ مجلسا وطنيا للطاقة ويعين دوغ بورغوم رئيسا له    إسبانيا تفوز على الدنمارك وتتأهل لدور الثمانية بدوري أمم أوروبا    نجاح قياس الأوزان لجميع الملاكمين واكتمال الاستعدادات النهائية لانطلاق نزال "Latino Night" ..    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    منع استخدام رموز وشعارات الدول تجارياً في السعودية    نيوم: بدء تخطيط وتصميم أحياء «ذا لاين» في أوائل 2025    اختتام مزاد نادي الصقور السعودي 2024 بمبيعات قاربت 6 ملايين ريال    "الشؤون الإسلامية" تختتم مسابقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غانا    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    "سدايا" تنشر ورقتين علميتين في المؤتمر العالمي (emnlp)    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    منتخب مصر يعلن إصابة لاعبه محمد شحاتة    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    ابن جفين: فخورون بما يقدمه اتحاد الفروسية    القوات الجوية السعودية تختتم مشاركتها في معرض البحرين الدولي للطيران    جدة تشهد أفراح آل قسقس وآل جلمود    بعثة الاخضر تصل الى جاكرتا استعداداً لمواجهة اندونيسيا    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    قادة الصحة العالمية يجتمعون في المملكة لضمان بقاء "الكنز الثمين" للمضادات الحيوية للأجيال القادمة    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    الخرائط الذهنية    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



« الجزيرة » تخرج من علقم البطالة شهداً!
المجهر الاقتصادي
نشر في الجزيرة يوم 12 - 05 - 2005

قبل سنوات طويلة كان الحديث هنا في المملكة عن البطالة حديث أولئك السادرين عن الشأن العام فلا يستهويهم إلا أغربه وأقله نفعاً للناس.. لم نكن نعادي يومها إلا نوعاً من البطالة.. (البطالة المقنعة!) التي ربما أصبحت بلسماً في نظر الكثيرين اليوم! البطالة أصبحت مهنة كثير من الشبان والشابات! واليوم وبعد أن أعيتنا البطالة وأصبح إقناعها متعذراً، وكثر الحديث والكتابة عنها والبحث في أسبابها وإشكالاتها وعواقبها.. أصبح من فضل القول التذكير بأنها تتخفى في أكثر من زي.. تتبدل في أكثر من جلد! وأنها - عارية - ليست إلا مشكلة اقتصادية سببها نمو سكاني يفوق حركة النمو في الاقتصاد!
بعد أن قمنا بدورنا الإعلامي الوطني في متابعة هذه المشكلة إعلامياً كان يمكن لنا في (الجزيرة) أن نبقى مع تلك الألوف المتزاحمة لرجم شجرة البطالة الكئيبة! كان يمكن لنا ألا نبرح المكان! لكننا اتخذنا القرار بالاقتراب من تلك الشجرة أكثر لقطف ثمار قليلة تحملها الشجرة عرضاً يمكن أن تحوي بعض العلاج للبطالة ولأمراض اقتصادية أخرى..!
هنا في (الجزيرة) ومن واقع إيماننا بدور جديد يمكن للصحافة أن تشارك به بحثنا في الجانب الذي يفرضه علينا اختصاصنا وهو النمو الاقتصادي لنطرح حقيقة تشير إليها بعض الدراسات العلمية الأكاديمية.. وهي أن البطالة قد تكون أحد محفزات النمو الاقتصادي بل ربما بوتيرة أكبر من النمو الاقتصادي التقليدي المعتمد على تراكم رأس المال!
*****
رأس الحربة في تحقيق مثل هذا النمو هم أقوام يعيشون بيننا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق! كثير منهم قد يكون اليوم في بطن حوت البطالة المظلم! كثير منهم ربما يكون مستلقياً الآن في (ملحق) أو استراحة أو مقهى! يعرفهم الجميع وفق مصطلحات وأوصاف كثيرة تطلق على أحدهم في مجتمعنا أوصاف كثيرة: ذكي، داهية، فاهم! ومن يعيه الوصف يدخلهم ضمن الوصف التقليدي العام.. (العارفون.. من أين تؤكل الكتف!)
مثل هؤلاء القوم هم الذين تتفيأ الاقتصادات اليوم بظلال أحلامهم وأفكارهم.. أولئك المبدعون.. المغامرون.. من لا تفرض عليهم الموارد حدودها.. من شادوا أسطورة السيليكون فالي.. لهم في كل أرض وجود.. في أرضنا حتماً منهم أقوام.! يسمونهم في الإنجليزية Entrepreneurs وفي العربية لا يزالون فيهم مختلفين!
العثور على مؤسس المثلوثة!
حاولت أن أجد أحد هؤلاء.. أن أحاوره وأسمع منه.... كان يهمني العاطلون منهم! المنسيون.. المهملون على قارعة الاقتصاد! المدفوعون بالأبواب! من بطالتهم يعطل خلق كثير! أولئك الذين أشار بعض الباحثين في تأثير البطالة الإيجابي عليهم وبأن نفوسهم الخلاقة تستطيع تحويل العقبات إلى محفزات والتحديات إلى إنجازات!
كنت أتساءل كيف سأعثر على مثل هؤلاء الأشخاص! البعض يقصرهم على التقنية والمعلوماتية ويقسم أن لا أرض لهم سواها للإبداع الاقتصادي! والواقع أنهم في كل مجال.. في كل صناعة.. في كل تجارة.. في كل خدمة! ذكوراً وإناثاً.. صغاراً وكباراً.. أقصر الطرق إلى لقائهم كان التوجه إلى مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله لرعاية الموهوبين.. من السهل عليّ أن أجد أحد أولئك هناك.. لكنني لم أشأ اختيار ذلك الطريق؛ أولاً لأن من علمت عنهم المؤسسة فلا خوف عليهم في حضنها ولا خوف عليهم مع رجل مثل د. حمد البعادي.. بالمعنى الشعبي هؤلاء (يسنعون أنفسهم!) رغم أن طريقهم لا يخلو أيضاً من عقبات!.. ثانياً لأنني لم أشأ قصر مفهوم الإبداع بالمعنى الذي تسجله براءات الاختراع.. المعنى الأسطوري الذي لا يتحقق إلا مع العباقرة الأفذاذ! أولئك الذين تنسج عنهم الخيالات والروايات! أرجو أن يقدر القارئ الكريم صعوبة وصف من نقصدهم من أهل هذا الإبداع! ولذا كان أفضل وصف هو ما قاله أحد الباحثين إنه لا يمكن لك أن تعرفهم إلا من خلال ما يقومون به وما يصدر عنهم من إنجازات!
من هؤلاء القوم امرأة أربعينية.. تستند إلى زاوية في أحد الشوارع تنتظر زوجها الذي يتأخر ساعة أو نصف ساعة قبل أن يغادر مكتبه ليترافقا إلى المنزل.. يتكرر الموقف يومين أو ثلاثة! ومن رحم ذلك الانتظار وملله وفي لحظة منه تخطر للمرأة فكرة (الكوفي - شوب).. تؤسس مشروعها.. تنشئ سلسلة.. تتوسع شهراً بعد شهر! يتجاوز النجاح المرأة.. ومدينتها.. ودولتها.. بل وقارتها ليصبح سوقاً وتجارة بمليارات الدولارات في كل زاوية من زوايا الأرض التي لم تنتظر المرأة فيها يوماً!
منهم أيضاً امرأة تضطر إلى الهجرة مع زوجها لظروف عمله.. يؤثر المناخ الجديد في بشرتها.. تبدأ في تركيب وصفات خاصة لمعالجة نفسها والمحافظة على بشرتها! .. تثبت الوصفات نجاحها.. تبدأ المرأة في إهداء هذه الوصفات لجيرانها وأصدقائها.. تتكاثر عليها الطلبات.. تقرر الاستفادة اقتصادياً من الفكرة.. تفتتح محلاً صغيراً لمستحضرات العناية بالبشرة.. يتوسع المشروع.. يفتتح أكثر من فرع.. يتجاوز حدود وطنه! ليصبح إحدى كبرى شركات مستحضرات التجميل في العالم! والتي أصبحت تهاجر إلى كل أنحاء الدنيا فلا يخلو بلد من فروع لها!
وللرجال منهم نصيب! فهذا رجل يختصم مع مديره.. يتوعده المدير بالطرد.. يتم المدير وعده! تتركه زوجته.. لا يجد ما يقيم أوده! يسكن مرآب بيته وليقضي على الحزن والفراغ.. يبدأ العمل على إعادة تأهيل سيارته القديمة التي هجرها وأهملها منذ 15 سنة! تنجح الفكرة يشتريها أحد جيرانه! بدأ البحث عن سيارات مشابهة.. تتكرر التجربة.. هذا الرجل اليوم أحد البارزين في تجارة السيارات الكلاسيكية ورئيس أحد أكبر أنديتها في العالم!
ربما تكون تلك القصص المختصرة.. أفضل تعريف لأولئك الذين نقصدهم! أولئك الذين يمكن أن تحفزهم البطالة والعقبات والتحديات ليس فقط لإيجاد عمل لهم بل لألوف الناس معهم! كتب أحد المفكرين يوماً أن إنجازات البشرية جمعاء مدينة لأوقات الفراغ!
كنت أتحدث إلى أحد الأصدقاء حول هذا الموضوع فأخبرني عن شخصين يعرفهما (إبراهيم ومحمد) أتبع تقديمهما بلقبين غريبين عرفت فيما بعد أنهما (عياره!). سألته: أين أجدهما؟ اتصل من هاتفه الجوال: إبراهيم (الجزيرة) ترغب في إجراء حوار معك! أجاب إبراهيم: وقتي لا يسمح! أجابه الرجل: الأمر جد وليس بمزحة! أخذت جهاز الهاتف قدمت نفسي إليه! أجابني: أول مرة أسمع بك.. من أنت؟! شعرت بشيء من الإهانة لكن الذي هوّن الأمر عليّ أنها الحقيقة! أخبرته أني أريد منه حديثاً ليخبرني عن تجربته مع الإبداع في مجال المشاريع والأفكار التجارية.. تغير أسلوبه في الحديث.. بدا أكثر جدية وسلاسة! قال لي: حتماً أخبروك عن قصة المثلوثة؟! قلت له: لا! لكن أتمنى سماعها منك!
بدأ حديثه: صدق أو لا تصدق.. أنا من ابتكر الفكرة! نعم أول من فكر في إنشاء مطعم مثلوثة هو أنا! خطرت الفكرة لي وأنا أتردد على منزل عمي (عبد الرحمن)! رجل ذو مجد سابق! لم يكن مجداً بالمعنى الدقيق لكنه كان كذلك بالنسبة للعائلة! حين كان على رأس العمل كان يستطيع في أحوال كثيرة نقلك من حال إلى حال! أخي أحد الذين تفيأوا ظلال ذلك المجد! ساعده على إيجاد وظيفة في يومين! كل معاناة البطالة التي تسمعها منذ سنوات لم يمر أخي بها ولم يشعر بمآسيها! لم تكن البطالة قد تفاقمت في تلك الأيام! في ذلك الزمن كان عمي يملك واواً سحرية تحول البطالة إلى بطولة! الفرق حرف واحد بينهما! لا يهم إن كنت تستحقه أم لا! المهم أن تحصل عليه في زمن شحت فيه الواوات القادرة على العمل! حتى الواوات يعاني كثير منها البطالة اليوم! حرف الواو - يا عزيزي - أصبح اليوم معتلاً أكثر منه حرف علة!! شعرت بأن الرجل بدأ يتحدث في فلسفة لا تنفعني ولا تنفع القراء.. حاولت أن أقاطعه لولا أنه بدا متحمساً في إكمال قصته قائلا: أما أنا فقد تخرجت في الوقت الضائع! في أندلس عمي الضائع! فلم يعد عمي اليوم.. عمي الذي أعرفه قبل سنوات! يومها كنت أتردد بين الإدارات والشركات والمؤسسات بأوراق منه! لا أشبه سوى ساعي البريد الذي يحمل رسالة لعنوان خاطئ! إن لم تكن مررت بالتجربة فلن يستطيع أحد وصفها لك! في تلك الأيام كنت أتمنى وجود مثل هذه البرامج التي تعلن اليوم عن استعدادها لقبول طلبات التوظيف.. هذه البرامج التي أغنت الشباب عن واسطة فلان وعلان! قاطعته لأخبره بأني أحدثه من جهاز الرجل وأن الوقت الذي سيستغرقه في الحديث عن بطالته ربما يكون طويلاً لذلك قد يكون الاختصار مفيداً!
سمعت في صوته أنين جرح غائر وهو يجيبني! يقول: لم تستطع سماع معاناة لخمس دقائق! فكيف بالذي عاشها سنوات؟! هل تطلب مني أن أختزل جرحاً عميقاً ومعاناة طويلة؟! أن أختزل حزن سنوات لأمنحك دقائق سعادة تسطر بها موضوعك؟! إن كانت المثلوثة هي كل ما تريد فلست الرجل المناسب لك! يجب أن تسمع عن المثلوثة وما أحاط بها! بدا في صوتي شيء من الملل.. لم يدم طويلاً حتى بادرني قائلاً: (.. ومع ذلك حتى لا تتضخم فاتورة الرجل سأكمل لك قصتي).. عندما ترك عمي العمل وخبا نجمه أصبح يعوض ذلك بكثرة المناسبات والدعوات.. لم يبق مسؤول في البلد لم يسعَ إلى دعوته! لم يكونوا مسؤولين كباراً لكنهم كانوا يبدون كذلك لنا.. كثير من محاولاته باءت بالفشل! كان يود إشعار الناس بأنه لا يزال نافذاً! لا تسألني لماذا ؟ لكن أعتقد أن ذلك بسبب بطالة كثير من أوراقه أو واواته التي يمنحها للآخرين وأنا واحد منهم! المهم أن هذه المناسبات كانت كثيرة وكنت دائماً ما أتردد عليها بدعوة وبدون دعوة!
في إحدى الولائم قفزت الفكرة إلى ذهني: لماذا لا يوجد مطعم يقدم مثلوثة؟.. لم تكن الفكرة هكذا بدأت على أنه (أكل عزايم!) استقيت الفكرة مما كان يقدم في تلك الولائم! كانت البطالة ومثلوثة (عزائم) عمي هما محور حياتي! ألم يقل المثل: كل إناء بما فيه ينضح! هكذا نضحت! أخبرت ابن عمي عن الفكرة، شرحت له كيف يمكن تطبيقها.. طلبت منه أن يمول المشروع وأنا أقوم بإدارته والعمل عليه ب 15% فقط! لم يبدِ اهتماماً بما كنت أقول! وبعد ستة أشهر عرفت من أخيه أنه افتتح المطعم! حقق نجاحاً كبيراً في بداياته كما علمت.. عندما واجهته بالأمر حاول أن يقنعني بعدم تذكره الأمر وأن الفكرة من بنات أفكاره، وقبل القصة التي أتحدث عنها بكثير! (حاولت ألا أدخل في تفاصيل اتهاماته وإشكالاته مع ابن عمه)! سألته: (ولماذا لم تنفذ المشروع بنفسك؟ لماذا تطرح المشروع عليه؟) أجابني بسخرية: (وهل كنت في حاجة لنصيحتك لكي ترشدني إلى هذا الطريق؟! القضية كانت اقتصادية بحتة! مختصرها أنه لم يكن في جيبي سوى ما كان والدي يتفضل به عليّ! حتى والدي عندما طرحت عليه المشروع هزأ بي قائلاً: ما أسرحك بالغنم! دور لك وظيفة أحسن! ماذا كان بوسعي أن افعل؟! هل توجد بنوك تعير لصاحب فكرة أهمية؟! دلني على بنك واحد! هذه البنوك التي منحت فرصة اقتصادية لم تمنح لمثلها في أي بلد! كان المبرر أنها لا تستطيع منافسة الآخر ولذلك يجب أن توفر لها الحماية! الحماية التي عشنا ضحيتها لسنوات طويلة، ها هي تستيقظ اليوم على حقيقة أنها غير قادرة على المنافسة حينما تشرع على أبوابها! هذه البنوك التي بدأت تتمسح بالمنتجات الإسلامية ولا يخلو كثير من إعلاناتها الترويجية من مصطلحات تراثية لم تكن في الأمس مطروحة حتى في خيالات أصحابها! أصبحوا اليوم خبراء في المضاربة والمرابحة والإجارة! يريدون منا أن نضحي اليوم لأنهم أصبحوا أتقياء! ويجب علينا أن نسهم في دعم هذه التقوى بغض النظر عن مستوى الخدمة!) شعرت بأن الأمر قد قذفنا بعيداً وأن الحديث كله أصبح مثلوثة! وأن الأمور قد تداخلت فلا أعرف هل الحديث عن البنوك أو منتجاتها أو.. لم أكد أقاطعه حتى استدرك قائلاً: (الشاهد أن الرجل سرقني! أقصد سرق فكرتي! ولم أتمكن من تنفيذها لأنه لا توجد جهة تمولني فألجأ إليها! مأساتي أن كل ما أملكه أفكار! هل سمعت أحداً في مجتمعنا يقول إن أحداً قد سرق فكرته! وإن سمعت فهل تعرف أحداً صدقه؟! أرجوك أن تنظر لفكرتي بعين العقل! قبل سنوات لم يوجد مطعم يقدم مثلوثة بالمعنى الشعبي المتاح اليوم! اليوم استقل سيارتك وجب المدينة وسترى كيف أصبح سوق فكرتي التي سرقت! وأصبحت مهدورة الربح بين المطاعم! ربما لو أتيحت لي الفرصة لأطبقها كما حلمت بها لأصبحت اليوم مثل رواد الوجبات السريعة في أمريكا ما الفرق؟ فقط الوعي!).
توقف إبراهيم فجأة عن الحديث وسألني: (هل ستنشر ما قلت؟ أليس فيه ما يفيد موضوعك؟!) أجبته: (سيحكم القارئ فيما بعد! لكني أعدك بأني سأكتب للتاريخ أنك مؤسس منتج المثلوثة بمعناه الاقتصادي اليوم!) ضحك قائلاً: (يا كثر المثلوثات! في أمان الله). انتهت المكالمة وأخذت أفكر فيما قال: (يا كثر المثلوثات!) كان يعني مثلوثة الرز والقرصان والجريش! وأنا أعني مثلوثة الإبداع والتمويل والإنتاج!
أنقذ الله النقل الجماعي!
بعد أن أغلق جهاز الجوال نظر إليّ صديقي قائلاً: (من سيدفع فاتورة المكالمة البطالة أم الإبداع أم الذين ذكرت.. الطرارير؟!) يقصد Entrepreneurs تصورهم كذلك! والحقيقة أن خطأه صواب! فهم كذلك في بعض المجتمعات! سألته عن الآخر؟ عن محمد؟ أجابني مستهزئاً وهل تود إكمال الحديث معه! لن ننتهي إليه! أصررت على ذلك! اتصل مكرهاً بجهازي المحمول هذه المرة! نظر إلي صديقي مازحاً ومتشفياً في الوقت نفسه (لن يرد! لأنه يسكن خارج الرياض.. رجل قروي.. لا بد أن يكون نائماً الآن.. انظر إلى الساعة!) قبل أن يكمل الصديق شماتته أجاب محمد (نعم!) كانت سعادتي غامرة بتلك (النعم) لأنها أنقذتني من شماتة الأصدقاء! سألني محمد: (من المتحدث؟!) أجبته: (الصحافة..) أجابني: (قاطعناها!) بعد حديث طويل لمعرفة من المتصل! ما زال محمد مصراً على رأيه في الصحافة مواصلاً حديثه: (لم نعد في حاجتها.. اليوم أستطيع أن أقرأ من وكالات الأنباء مباشرة! هنا من قريتي أستطيع أن أجوب العالم بأكمله! اليوم أنا أكثر اطلاعاً على الأحداث منكم معاشر الصحفيين!) شعرت بوطأة ما يقول وبالصعوبة التي يعانيها صحافيو اليوم.. بالتحديات التي يفترض عليهم مجابهتها! كان في السابق أرقى أنواع الصحافة ما ينتمي إلى فئة (إعادة النظر) فالصحافة كلها اليوم موضع إعادة نظر! أي مستوى من الصحافة يجب على الصحفيين بلوغه ليخرجوا من هذه الدائرة المفرغة! قلت لمحمد: لكننا (الجزيرة)! ضحك بصوت عال: (من؟ النصابون؟!).. شعرت بالحرج تفصّدت جبهتي الصحفية عرقاً! أكمل حديثه (أن تكذب فتلك مشكلة تخصك.. الكذب نتاج نفسي.. الصغير والخائف والجاهل كلهم يكذبون لأنهم يخافون من المجهول! المجهول الذي يرسمونه على مقاس أوهامهم! الصغير يدرك مدى عجزه عن التأثير في الواقع ولذلك يضطر إلى خلق واقع بحجمه يمكن له التأثير فيه! الكبار لا يلجأون إلى الكذب ولا يجدون أنفسهم مضطرين إلى الرد على أهله! لأنهم يدركون مدى تأثيرهم في الواقع لا الوهم! المصداقية والحيادية وتقدير الرأي الآخر هي أن تخبر الناس الحقيقة في سياقها لا أن تضع حقيقة في سياقك!
كان كلامه قاسياً.. مؤلماً.. غامضاً! أقسمت له أني لا اعلم عن ماذا يتحدث وأي كذب يقصده! حدثني عن قصص وأمثلة كثيرة! عرفت من يقصد! .. أخبرته أن لا علاقة لي بمن يعنيهم فأنا انتمي إلى جزيرة الحرف لا الصورة! ضحك مرة أخرى قائلاً) اعذرني اللي ما يعرفك ما يثمنك !(تنفست الصعداء.. سألته) رغم انك تعيش في قرية إلا انك واسع الاطلاع ؟! (بدت نبرة صوته مستهجناً) لماذا لا تقولها صراحةً.. ساكن القرية يفترض به أن يكون جاهلاً! .. أن كنت صحفياً وتؤمن بهذه الفكرة فلا عتب على الآخرين! يا أخي انتهى صراع القرية والمدينة! اليوم العالم كله قرية! ألم تسمع بهذا التعبير؟ ألم تقرأه؟ ما دمت صحفياً لا بدّ أنك سمعته وقرأته بل وكتبته! ألم تسمع عن هجرة الشعراء والأدباء والكتاب والمفكرين إلى القرى؟ ربما سمعت لكنك لم تتدبره! ليت الصحفيين اليوم يأخذون بنصيحة والد ابن النديم حينما قال: لا تسطر إلا ما تعيه! قاطعته قائلاً: أرجوك بطارية جهازي على وشك الانتهاء! ولا علاقة لابن النديم ووالده بكل ما نتحدث حوله الآن (ضحك بصوت مضحك!) عن ماذا تريدني أن أتحدث؟! (أجبته) أخبرني عن تجربتك مع الأفكار التجارية! عن تجربة منافسة النقل الجماعي! (سألني) من الذي بجانبك؟! (أخبرته عن صديقي.. سألني مصراً) ماذا قال لك عني؟! (أجبته) كل خير! (قال لي واثقاً) أعرف أنه تهكم بي! أخبرك عن قصة مشروعي بسخرية! الحمد لله أنه لا يعرف كل المشاريع التي فكرت ولا أزال أفكر بها! على أية حال لا يهمني الرجل فهو رجل متواضع عقلياً لا خلقيا! أعجبتني هذه كثيراً.. أضحكتني.. كان صديقي يستمع إلى ما يقوله محمد.. لم يستطع الصبر.. رد عليه قائلاً: (هذا الرجل المتواضع كما وصفته أفضل منك في كل شيء! انظر أين أوصلتك أفكارك وعبقريتك! وأين هو الآن!) شعرت بشيء من الألم! لا أعلم إن كان مبدعاً أم لا، لكن المأساة حين يكون كذلك ويعيره البعض بفشل المجتمع في الاستفادة منه! سألته: (حدثني عن مشروعك الذي كدت تزاحم به سابتكو في السوق!) أجابني: (لم أقل ذلك.. هم سخروا مني بهذا الوصف! لكن لو قدر لي إنشاء مشروعي يوم كان الجميع غافلاً عنه! ثم أتيحت لي الفرصة للتوسع في أفكار النقل التي أفكر في إدخالها إلى السوق! ربما كنت رقماً مهماً في السوق! ربما!) سألته: (وما هي أفكارك؟!).. أجابني: (كل أفكاري ولدت في قرية! القرية التي استكثرت عليها رجلاً يتحدث بشيء لا تعلمه! فأنا من سكان القرى.. تستطيع أن تسميني قروياً! ولا أظن الرجل بجانبك قد وصفني بغير ذلك! تخيل قروياً في قرية يبحث عن عمل في زمن عمت فيه البطالة المدن! أجمل ما في بطالة القرى أنها تدفعك إلى مجالسة كبار السن.. اضُطررت إلى ذلك! حينما كنت أحدثهم عن البطالة! لم يدركوا أبعاد ما كنت أقصده! كان كثير منهم يصر على أن البطالة اختيار الفرد! بإمكانك إلا تكون عاطلاً فقط إذا أردت! كنت كثيراً ما أغضب من انتقاداتهم لهذا الجيل ولم يكن يهون عليّ الأمر سوى استثنائي من الجيل برمته باعتباري أجالسهم! يوماً ما قررت أن أعمل بنصيحتهم.. طرحت على بعضهم ممن اعتادوا زيارة الرياض أن أحملهم بسيارتي مقابل نصف ما يدفعونه لسيارات الأجرة! كان عرضاً مناسباً لهم وأكثر مناسبة لي! تجاوزت حدود دوري كسائق أجرة وأصبحت أقضي لهم بعض مراجعاتهم في الرياض.. اقترح أحد كبار السن أن أكافأ على ذلك مما زاد دخلي وشجعني على تسويق خدماتي في القرى الأخرى.. تجاوزت مشكلة بطالتي.. أصبحت أحصل على دخل جيد..) قاطعته قائلاًك (كل ما ذكرت لا علاقة له بالأفكار التجارية! ولا علاقة له بالنقل الجماعي!) أكمل حديثه قائلاً: (نعم لكن في أحد مشاويري بين القرى كنت أسمع معاناة بعض الأسر في نقل بناتهم ممن تم تعيينهن خارج مناطق سكنهم! فكرت في إنشاء مؤسسة نقل خاصة لهذه الفئة من المحتاجين - أقصد المحتاجات - كانت فكرتي تتجاوز حدود إمكاناتي التي لم تكن تتجاوز اثني عشر ألف ريال! حاولت أن أجد ممولاً لأسطول يحقق حلمي ويهون على أولئك المعلمات! في حساباتي الأولية كان المشروع يحقق أرباحاً هائلة.. لم أجد أحداً يمولني لأبدأ ولو بباص واحد! قبل أن يتقزم حلمي كنت قد ذهبت إلى أحد البنوك في مدينة الرياض.. تحدثت إلى مدير الفرع وحينما فرغت من حديثي! أجابني مدير البنك: لم أفهم ماذا تريد! عدت إلى القرية وحاولت أن أبحث عن أحد يقرضني.. تحدثت إلى كثيرين! منذ ذلك اليوم تسربت هذه الدعابة عني! أصبح الشباب يتهكمون علي.. فك الله سابتكو.. أنقذ الله النقل الجماعي! هذه الفكرة جعلت مني سخرية الجميع! وها أنت الآن تنضم إلى جموع الساخرين!).
انتهى حديث الرجل.. أغلق سماعة الهاتف.. بدأت أفكر في هؤلاء الشباب وأفكارهم التي تبدو تافهة للبعض وقيمة للبعض الآخر! ليس ثمة فرق بين تفاهتها وعظمتها سوى أن تطبق! كيف لا يجد المرء وسيلة للحصول على التمويل لفكرة تجارية تقوم على منتج أو خدمة جديدة لم يسبقه إليها أحد؟ تذكرت ما قاله جون هاغيل وجون سيلي براون في كتاب The only sustainable edge (إن الإنتاج أصبح يعتمد على مدى السرعة التي تبني بها الاقتصادات مواهبها وقدرتها ذات الصلة بالإبداع والابتكار في العمل التجاري!).. كنت أتأمل ذلك المصطلح الدارج عن أمريكا أنها أرض الحلم! وكيف ظن البسطاء أنها أرض لكل أحلام الناس! لكن باطنه كان يكمن في جذب هؤلاء الناس من كل أصقاع الدنيا، لم تكن مصادفة أن تبدأ جل مشاريع الأرض التي غيرت وجه العالم من هناك!
أخيراً.. قد يسأل سائل: أين الشهد؟! والجواب أنه في جهود مثل هؤلاء.. لكن لن نتذوق العسل قبل تأسيس مؤسسات تعتني بالأفكار وتنميتها.. مؤسسات تعتني بالإبداع التجاري والأفكار التجارية.. ليست مؤسسة تمويل فقط وإنما مركز متكامل للبحث والدعم والمساندة والتقييم والتمويل.. مركز، وليكن اسمه (المركز السعودي لتنمية الأعمال) هو مركز على غرار المراكز الموجودة في الدول المتقدمة اليوم! ما قرأنا عنه مؤخراً حول مشروع وطني جديد من جملة المشاريع الوطنية المباركة هو برنامج كفالة تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة.. هذا البرنامج الذي ينضم إلى حزمة البرامج الشاملة التي تستهدف تنمية الاقتصاد السعودي وفق رؤية اقتصادية ثاقبة تستشعر التحديات الداخلية والخارجية.
نحن في انتظار هذا البرنامج الفريد الذي يؤكد مرحلة جديدة للسياسة الاقتصادية في وطننا الغالي تتجاوز الأشكال التقليدية.. ما نتمناه ألا يغفل هذا البرنامج عن المشاريع القائمة على الإبداع والابتكار وأن يعاملها معاملة خاصة تستثنيها من كل أنواع الضمانات.. ولتكن دراسة الجدوى الاقتصادية وبحوث التسويق لهذه المشاريع هي الضمانة الوحيدة. إن المطلع على أثر هذه المشروعات في الاقتصاد يدرك أنها تستحق التضحية من أجلها بدلاً من تركها والتضحية بأصحابها!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.