كنت قد تحدثت عن جائزة الملك فيصل العالمية في حلقتين بعنوان: (من قطوف الجائزة الدانية). وكان الحديث في الحلقة الأولى مركزاً على إنجاز عالمين بريطانيين، هما السير البروفيسور ريتشارد دول والسير البروفيسور ريتشارد بيتو، فازا بجائزة الطب الذي هو أحد فروع تلك الجائزة الخمسة. وكان موضوع الجائزة التي فازا بها: أضرار التبغ على صحة الإنسان. وقد بينا هذه الأضرار تبييناً جلياً، وكشفنا حجمها كشفاً واضحاً. أما الحديث في الحلقة الثانية فكان مركزاً على إنجاز الباحثة البريطانية البروفيسورة كارول هيليبنراند، التي فازت بجائزة الدراسات الإسلامية؛ وموضوعها: (الدراسات التي تناولت دفاع المسلمين عن ديارهم في القرنين الخامس والسادس الهجريين). وكان تاج بحوثها القيمة كتابها (الحروب الصليبية: رؤى إسلامية). وفي يوم الثلاثاء الماضي كتب الأخ العزيز، الكاتب المجيد، قينان الغامدي مقالة في صحيفة الوطن الغراء عنوانها: (كارول والمعنى الحقيقي لإنسانية الإسلام: جائزة الفيصل في مئويتها). وكل ما ورد في المقالة جميل ومفيد، عرضاً ومحتوى. وقد استهلها بإشارته اللطيفة إلى أن كلام تلك الباحثة الفائزة بجائزة الدراسات الإسلامية - في حفل تكريم الفائزين - باللغة العربية الفصحى كان لافتاً للنظر مثيراً للانتباه. واختتم تلك المقالة بإشارته إلى أن كون الفائزين بالجائزة في فروع الدراسات الإسلامية والطب والعلوم غربيين دليل على عالمية هذه الجائزة، ودليل، أيضاً، على الواقع العلمي المتردي لأمة العرب والإسلام، حاثاً على العمل بجد في مجال البحث العلمي لبناء مستقبل جدير بالتكريم والتقدير. وفي يوم الاربعاء الماضي كتبت الأخت الكريمة، الكاتبة المشهورة، الأستاذة الدكتورة هند الخثيلة مقالة في صحيفة الجزيرة الغراء. وجمال هذه المقالة، عرضاً ومضموناً، غير مستغرب عليها. وفي بعض ما قالته التقاء وجهة نظر مع الأخ قينان الغامدي، وبخاصة كون غالبية الفائزين بالجائزة غير عرب، بل غير مسلمين، مشيرة إلى أن هذا يطرح سؤالاً كبيراً متحدياً أمام مفكرينا وأدبائنا وعلمائنا في العالمين العربي والإسلامي المليئين بالمتعلمين، وإلى تكرُّر حجب الجائزة في مجال اللغة العربية والأدب بالذات باعث على الأسى؛ لا سيما أن العرب أهل بلاغة وكلام، وأن تراثهم يتركز في معظمه في الأدب والشعر والدراسات الأدبية. واختتمت مقالتها بكلام لطيف مشابه في مضمونه لما اختتم به الاستاذ قينان الغامدي مقالته من حث على العمل بجد حتى نصل إلى المستوى المأمول. وكان لحديثَي الأخ قينان والأخت هند إغراؤهما لي كي أتحدث عن بعض أمور تتعلق بجائزة الملك فيصل العالمية، وبخاصة نَيْل غير العرب والمسلمين حصة الأسد لها في مجالي الطب والعلوم، وتكرُّر حجبها في مجالي اللغة العربية والأدب والدراسات الإسلامية. وجائزة الملك فيصل - كما هو معلوم - جائزة عالمية، أي أنها متاحة لرواد العلم والفكر من جميع أنحاء المعمورة.. لا فرق بين عربي وغير عربي، ولا بين مسلم وغير مسلم، ولا بين رجل وامرأة، ما دام الإنجاز مفيداً للإنسانية كلها، والعرب والمسلمون جزء كبير من هذه الإنسانية. ولعل مما هو جدير بالذكر والعرفان للجنة الاختيار في مجال الطب بالذات ان كثيراً من الموضوعات التي اختارتها متصلة بمشكلات صحية موجودة في الدول النامية - ومنها العالمان العربي والإسلامي - بدرجة واضحة، مثل البلهارسيا، والتهاب الكبد الوبائي. وكون الريادة البحثية في مجالي الطب والعلوم للدول المتقدمة علماً وتقنية في زمننا الحاضر، فإن من المتوقع أن يكون أكثر الفائزين بالجائزة في هذين المجالين من هذه الدول. وهذه الدول غربية الموقع كأوروبا والأمريكيتين، لا سيما الولاياتالمتحدة وكندا، أو غير غربية الموقع لكنها غربية التوجه العلمي والتقني مالكة لأدوات التقدم مصممة على استخدامها مثل استراليا واليابان وروسيا. وهي بهذا مواكبة للعالم الغربي موقعاً في ركب التقدم والرقي العلمي والتقني. ومن هنا فإن من غير المستغرب أن يكون الفائزون بجائزة الملك فيصل العالمية في الطب والعلوم من الدول المشار إليها. عقول العرب والمسلمين من غير العرب لا تقل بحال عن عقول الغربيين. ولذلك تتضح العبقرية البحثية والإنجاز العلمي لشخصيات عربية ومسلمة غير غربية قُدِّر لها أن تعيش في بلاد متقدمة حيث البيئة المناسبة لإظهار تلك العبقرية. فالمسألة مسألة إرادة موفقة لتبني سياسة مدركة كل الإدراك لأهمية البحث العلمي، وتصميم أكيد على تهيئة بيئة بحثية يتمكن فيها الباحث رجلاً أو امرأة من اشباع رغبته البحثية سعياً لتحقيق طموحه العلمي غير المحدود. وما لم تتوافر في العالمين العربي والإسلامي تلك الإرادة وذلك التصميم، فإن من المشكوك فيه - إن لم يكن مستحيلاً - أن يثبت العرب بخاصة والمسلمون بعامة وجودهم في عالم لا يُحترم فيه إلا مَنْ امتلك زمام العلم والتقنية. أما حجب الجائزة، أحياناً، في الدراسات الإسلامية واللغة العربية والأدب، فإن مما ينبغي أخذه في الحسبان أن الجديد في هذه الدراسات ليس مماثلاً للجديد في البحوث العلمية والتطبيقية، كثرة وسرعة، ولا قريباً منه. ومع أن مجال الدراسات الإسلامية أكثر تنوعاً من مجال الدراسات اللغوية والأدبية؛ إذ قد يكون تاريخاً أو حضارة أو فقها، أو تفسيراً أو حديثاً أو عقيدة أو غيرها، فإنه يقارن بمجالي الطب والعلوم. أما مجال الدراسات اللغوية والأدبية فأكثر محدودية من حيث التنوع والجدة. على أن مسألة الترشيح لها أهميتها. فمما يسترعي الانتباه أن الترشيحات التي تقوم بها المؤسسات العلمية في الدول المتقدمة تأتي مكتملة المتطلبات رفيعة المستوى، لكن ترشيحات المؤسسات العلمية العربية قد تأتي رفيعة المستوى منسجمة مع موضوع الجائزة المعلن، وقد تأتي وللمجاملة دور كبير فيها. والأسوأ - بطبيعة الحال - ألا تقوم الجهة بالترشيح مع علمها بوجود مَنْ يستحقه، سواء من داخل هذه الجهة أو من خارجها، وربما كان سبب الإحجام عن الترشيح الحسد للمستحق أو الخلاف الشخصي معه. وينتج عن الترشيحات الضعيفة أو الإحجام عن الترشيح بسبب من الأسباب حجب الجائزة محدثاً أسى عميقاً لعدم وصول بعض جهات الترشيح إلى المستوى المطلوب في الإسهام البنّاء ليصل التكريم إلى مَنْ يستحقه. وفّق الله الجميع للسداد في كل عمل صالح.