يوماً بعد يوم تضمحل المساحة المخصصة للحديث عن القمّة العربية ونتائجها على صفحات الجرائد العربية والتي انعقدت في الجزائر في الأسبوع الماضي. وقد يقول قائل، بأن الحديث عن القمّة، أو حتى عن أيّ قمّة، يكون على قدر نتائجها وما تحدثه من تأثير على محيطها أو على المشاركين بها، وهو على الأصح، يتعلق ذلك بمقدار ما تكون هذه النتائج ملبية لطموحات الشعوب العربية وتطلعاتها. وهي بذلك تشابه عملية إلقاء حجر في بركة ماء ساكنة فكلما كان حجم الحجر أكبر اتسعت معها دائرة التأثير لحركة المياه فيها. ويمكن القول بحق إن القادة الذين اجتمعوا في الجزائر كانوا على قدر كبير من الحذر، بحيث إن هذه القمّة لم تشهد تجاذبات كبيرة بين المجتمعين ولم نشهد مناقشات حادة، التي قد يكون أغلبها قد تم في مناقشات وزراء الخارجية التي سبقت القمّة، ولم يصل الخلاف في الرأي لدرجة كبيرة بحيث تتجذر معها الخلافات الثنائية بين الدول العربية. وإذا استثنينا الخلاف على مضمون (المبادرة الأردنية)-التي لم يحسن وزير خارجية الأردن هاني الملقى طرحها وتقديمها بالمزيد من الدبلوماسية على حدّ تعبير الملك الأردني عبد الله الثاني- لتفعيل (مبادرة السلام العربية) التي طرحها الأمير عبد الله ولي العهد في المملكة العربية السعودية في قمّة بيروت 2002 والتي تبنتها هذه القمّة أيضاً على أنها تمثل الحدّ الأدنى للشروط العربية بعد اختيارهم لطريق السلام مع الدولة العبرية كخيار استراتيجي!، فإن القمّة قد نجحت من هذا المنظور، بحيث إنها لم تقدم المزيد من التنازلات العربية في وجه الدولة العبرية لتطبيع العلاقات مع الدول العربية مجتمعة دون أن تتقدم هذه الأولى قيد أنملة على طريق السلام ومستحقاته التي تتلخص بالعودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967بما في ذلك الأراضي السورية واللبنانيةالمحتلة وتطبيق قوانين الشرعية الدولية. مع ذلك فإن إسرائيل رفضت تفعيل هذه المبادرة من جديد حين قالت على لسان معظم المسؤولين الإسرائيليين بأن القمّة لم تقدم شيئاً جديداً، وهي بذلك تكرر ما فعلته في السابق حين ارتكبت مجزرة جنين في وقت لم يجف معها حبر البيان الختامي لقمّة بيروت ومبادرتها. وفي المقابل، وعلى نفس المنوال، فإن واشنطن لم توافق أيضا على نتائج هذه القمة أيضاً حين اعتبرتها (فرصة أضاعها العرب) للتقدم بشيء يُعتدّ به ويؤهلهم الاضطلاع بدور الطرف المقبول محاوراً وشريكاً!. فعن أي فرصة تتكلم؟ لا شك أنها فرصة الإذعان الكامل للشروط الإسرائيلية ولمفهومها حول (عملية السلام) إضافة للشروط الأمريكية في إعادة رسم لخريطة المنطقة قسرياً أو ما بات يُعرف بالشرق الأوسط الجديد وخطة بوش لنشر الديمقراطية والحرية فيها على الطريقة الهوليودية! ولو دققنا النظر في البيان الختامي لهذه القمة نجد أنه قد تم صياغته بعناية ودقة كبيرتين بحيث إنه لا يشكل في مضمونه إحراجاً لأحد. إذ حفل البيان بعبارات: يؤيد القادة، يستنكر، اطلع ويدعم القادة وما شابه ذلك.. وعليه فلقد أصبح البيان الختامي هو أكثر ما يهمّ المجتمعين من القادة العرب في قمتهم بحيث إن كل واحد منهم ينال ما يريده من هذا البيان لترضية خاطره. فلا مناقشات جديّة للقضايا الساخنة على امتداد دول العالم العربي: من العراق مروراً بالوضع السوري-اللبناني، إلى القضية الفلسطينية وقضية دارفور في السودان وصولاً إلى قضية الصحراء الغربية وغيرها إضافة إلى قضايا الإصلاح في العالم العربي. مع العلم بأن هذه القضايا وغيرها قد تمت مناقشتها بشكل كبير في الكواليس وفي اللقاءات الثنائية التي حفلت بها هذه القمة، كما غيرها، وهي تُعدُّ سمة إيجابية توفرها عادة مثل هذه المناسبات النادرة في عالمنا العربي. ولقد عاب الكثيرون على القمة عدم تعرضها للقضايا الساخنة على امتداد الساحة العربية وفي مقدمتها الوضع السوري- اللبناني أو الوضع في العراق والمخاطر التي تواجه هذا البلد واحتمال تصدير هذه المخاطر والفوضى التي يعيشها إلى دول الجوار. مع العلم بأن هذه القضايا تناقش يومياً في المحافل الدولية والإقليمية ويأتي في مقدمتها الوضع في لبنان ومضاعفات اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري والضغوط الكبيرة المستمرة على سوريا حتى بعد إعلانها لسحب جيشها بالكامل من لبنان وبدء الانسحاب الفعلي وقرب تقديم جدول زمني لسحب بقية القوات قبل حلول موعد الانتخابات البرلمانية اللبنانية في نهاية شهر أيار-مايو. وقد يكون السبب في ذلك هو لقناعة الطرفين، السوري واللبناني، بعدم وجود جدوى أو فائدة لطرح هذا الموضوع على القمة العربية، وإن خيّم هذا الوضع وألقى بظلاله الواضحة عليها، خاصة وإن الأطراف العربية ستكتفي، على الأغلب، بإعطاء النصح والإرشاد، كما فعلت بعض الأطراف العربية قبل انعقاد القمة من خلال تقديم النصح أو نقل رسائل بعض الأطراف الدولية الضاغطة على سوريا لسحب قواتها وفقاً لقرار مجلس الأمن 1559 وبالتالي لن يتعدى الأمر إلى طرح مبادرات عربية خاصة وأن اتفاق الطائف هو عربي المولد والهوية برعاية دولية كان من الأجدى للقمم العربية السابقة التي تلت الطائف أن تتابع ما تنفذ من هذا الاتفاق وأن تملك الآلية لمراقبة تنفيذ مضمونه من قبل الحكومتين السورية واللبنانية. وقد يكون الأمر كذلك، بسبب وجود قناعة لدى معظم القادة العرب بأن ليس باليد حيلة بعد أن وصل الأمر إلى مجلس الأمن أو(الشرعية الدولية) وأصبح الوضع اللبناني -السوري يتم تناوله يومياً على مائدة الدول الكبرى، أو قد يكون لاعتبار أن ذلك يخصّ العلاقة بين دولتين عربيتين من غير الممكن مناقشة أمر هذه العلاقة طالما لم ترد طرحه أيّ من الدولتين على جدول الأعمال. ولقد شكّل غياب ثلث القادة العرب خاصة من دول المشرق العربي وكان الغياب الأكبر هو لولي العهد السعودي الأمير عبد الله سمة إضافية خاصة لهذه القمّة، في مقابل حضور دولي مكثف من المنظمات الدولية والإقليمية وفي مقدمتهم أمين عام الأممالمتحدة الهارب من وطأة فضائح ملف برنامج (النفط مقابل الغذاء العراقي) إضافة لمنسق السياسة والأمن في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، ورئيس الوزراء الاسباني ثباتيرو ووزير الخارجية الفرنسي وغيرهم الذين طرحوا هموم المواطن العربي أكثر من القادة أنفسهم!. وهناك بعض القادة العرب حضروا ولكن لوحظ غياب واضح لكلماتهم وفي مقدمتهم الرئيس السوري بشار الأسد الذي اكتفى بمداخلة واحدة أثناء الحديث عن (ترويكا) عربية لمتابعة نتائج القمّة وخاصة فيما يتعلق بتفعيل مبادرة السلام العربية وشرحها لدى الأوساط الدولية وهو الذي اعتاد إلقاء خطاب في كل قمّة يحضرها. هذا الغياب سمح لبعض القادة بالمقابل أن يثبت أنه حاضر بقوة، حتى وإن كانت دولته هي من أكثر الدول العربية المقصرة بتسديد التزاماتها المالية تجاه الجامعة العربية، والحديث هنا يدور عن الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي الذي صال وجال في الجلسة الختامية وفرض على الحاضرين حديثاً مشتتاً، كعادته، قرابة الساعتين. فلقد قدّم القذافي نفسه كفيلسوف يحلل الوقائع ويقدم النصح لعرب آسيا للحاق بأفريقيا بعد أن التحقت الدول الأوروبية بأمريكا، والتحق هو منذ زمن بعيد بأفريقيا، طبعاً بعد أن اكتشف - كما يزعم- خيبة العرب وبأن المستقبل هو لأفريقيا!، وهو بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار! فهل من تعليق يمكن أن يجود به قلم أي كاتب أومحلل؟ وباستثناء حديثه المنطقي عن القدسية للقرار 1559 دون غيره من قرارات الأممالمتحدة كونه يخص دولة عربية أو دولة مغلوبة كما قال في مقابل عشرات القرارات التي ترفض إسرائيل تطبيقها فإن حديثه كان مناسبة للمجتمعين للترويح عن النفس والضحك مرددين مع الملايين من المواطنين العرب الذين تابعوا القمّة عبر شاشات الفضائيات (شر البلية ما يُضحك)!. لقد كان واضحاً منذ البداية أن الجزائر ممثلة بقيادتها لا تريد لهذه القمة أن تكون نتائجها أقل من غيرها ولا أن تكون مكاناً لتصفية الحسابات، ولا أن تكون قمة تشرعن التطبيع مع إسرائيل عندما عبّر أكثر من مسؤول جزائري بأن من يريد أن يُطبّع فليقم بذلك في بلده، ولقد كان واضحاً أيضا بأن الجزائر حريصة من هذا الجانب على تجنيب القمّة الفشل أو الانزلاق إلى مطبّات غير محسوبة النتائج، من هنا يمكن أن نسجل للرئيس الجزائري قيادته الموفقة لهذه القمّة لتسلم من النقد العنيف، وهي بذلك لم تختلف عن غيرها من القمم السابقة من حيث جدول أعمالها ونتائجها أو بيانها الختامي الذي سُمّي بإعلان الجزائر، ولقد تضمن هذا الإعلان الموافقة على قيام برلمان عربي مركزه دمشق سيتم تعيينه في المرحلة الانتقالية. من هنا نجد بأن هذه القمّة من حيث نتائجها أتت أقل بكثير من طموحات الشعوب العربية وآمالها من قمّة أُريد لها أن يكون مجرد انعقادها هو غاية الغايات. إن الشعور السائد الآن هو أن القمّة، طبعاً بعد اتفاق القادة على ذلك، تركت كل دولة تواجه مصيرها وقدرها بيدها في وقت تشتد معها أهمية التكتلات الإقليمية والدولية الاقتصادية منها والسياسية في مواجهة التغيرات العالمية والتحديات المعاصرة. إن مصداقية أي قمّة تأتي بالتطبيق الفعلي لقراراتها السابقة وبخلق آلية فعَّالة لمتابعة تطبيق قراراتها الحالية حتى تنعقد القمة القادمة. وهذا ما نأمله أن يتحقق في القمّة العربية القادمة في السودان، قولوا إن شاء الله. * معهد الإدارة العامة