أزاحت السيدة الستارة من شباك غرفة النوم، ونظرت من خلال زجاجها الندي إلى بعض النجوم التي ومضت في زرقة فجر بدأت في التلاشي. ثم عبرت الممر الصغير إلى الغرفة المقابلة، أوقدت ضوءا خافتا، فظهرت على اليسار خزانة ملابس وطفلتان ترقدان على سريرين متماثلين، وعلى اليمين سرير صغير تطوقه حواجز حشي بأغطية بدت زرقاء ظهر من بينها رأس طفل لا يتجاوز السنة بكثير، ودون السرير مكتبة صغيرة عليها حقيبة مدرسية كبيرة متعددة الجيوب. تقدمت السيدة نحو اليسار ودنت تلمس إحدى الطفلتين قائلة بصوت منخفض: (هيا حبيبتي، أمل، استيقظي). ولما ظل جسد أمل هامدا لم يبد أي استجابة كررت: (أمل، استيقظي!) ثم التفتت إلى الرضيع واستمرت: (أمل! ستجعلينني أوقظ أخاك، هيا حبيبتي، انهضي). وقبل أن تتحرك أمل، تحركت الطفلة الأخرى ثم نظرت إلى السيدة وقالت: (أمي، المدرسة صح؟) أجابت الأم: (ندى، لماذا استيقظت؟ نامي من جديد). فابتسمت ندى وهي تمط يديها، وأخذت تنظر إلى أمل التي بالكاد رفعت جسدها وغادرت الغرفة متذمرة: (آه، طبعا الحمام بارد). اتجهت الأم إلى خزانة الملابس واستخرجت منها ثوبا صغيرا وجاكيتا منتفخا، ومشطا وبعض مشابك الشعر، ثم جلست على سرير أمل التي خرجت من الحمام بعد بضعة دقائق، فقالت لها: (هيا حبيبتي، اقتربي). اقتربت أمل ثم لمست الجاكيت وقالت مبتسمة: (يا ليت يكون في مدرستنا كل يوم حفلة حتى تشترين لي كل يوم جاكيتا جديدا). ثم استمرت: (أيضا أريدك أن تلبسي أجمل الملابس أنت حتى تعرف صديقاتي أنك جميلة). أجابت الأم: (مؤكد حبيبتي، ولكن اخفضي صوتك، أخوك سيستيقظ). وأخذت تساعدها في تبديل ملابسها. قالت أمل بصوت منخفض: (أبي يعرف أنك ستأتين، صح؟). - (طبعا يعرف فهو من سيأخذني إلى مدرستك). - (ستذهبين إلى مدرستك أولا وتتصلين على ابي ليحضرك عندنا؟) - (نعم). - (وضعتِ هاتفك في حقيبتك؟) - (كلا، لم أعدّ حقيبتي بعد). - (أمي، أخاف أن تنسي هاتفك مثل أمس، ضعيه في حقيبتك بسرعة قبل أن تنسيه). ضحكت الأم وقالت: (اليوم كلا، لا يمكنني الذهاب بدون هاتفي، إن تركته فالأفضل لي أن أبقى معه في البيت). واستطردت (انتهينا. وبعد أن تنتهي من الصلاة والأذكار فورا اذهبي إلى البهو، ولا تنسي أن تضعي الفوطة على ثوبك عند تناول الفطور). ثم انصرفت. وبدأت أمل تصلي، وتركت ندى فراشها واتجهت إلى غرفة والديها، حيث وقفت أمها أمام المرآة تضع الزينة، فاندفعت نحوها وطوقت فخذيها بذراعيها الصغيرتين وقالت: (أمي أنت جميلة كثير). ثم اتجهت إلى السرير العريض ونادت: (أبي، أبي). ولم تجد أي استجابة من والدها المتدثر تحت الأغطية، فتابعت الوقوف تنظر نحوه، ثم نحو الطاولة الصغيرة التي تزاحمت الأشياء فوقها، فمن اللمبة إلى الكأس الفارغ بجانب قارورة الماء، وساعة اليد، والمنبه الذي أشارت عقاربه إلى الساعة السابعة، وكتيب طبعت على غلافه صورة مسجد، وعلبة مسكن للصداع ودواء آخر، والهاتف النقال الوردي الذي تدلت منه سلسلة فضية. التفتت إليها والدتها وقالت: (حبيبتي، اذهبي إلى سريرك). وارتفع صوت ندى فظهرت حدته: (لماذا لا تنامين معي أيضا أنت يا أمي؟) أجابت: (حبيبتي، عليّ الذهاب إلى المدرسة). (لماذا يا أمي عليك الذهاب كل يوم؟ كل يوم؟ كل يوم؟) أجابت الأم: (أيضا كل يوم أعود من المدرسة وأحضر لك الشوكولا، أيضا كل يوم جيني لطيفة معك أنت وأخيك، صح؟). اقتربت من والدتها وقالت بصوتها الحاد المرتفع: (أمي)، وفتحت ذراعيها للأعلى وأكملت: (سأريك كل العصافير التي تتجمع كل يوم كل يوم عند الشجرة). - (أستطيع أن أرى الشجرة عندما أعود، ثم اخفضي صوتك، سيستيقظ أخوك). فهزت ندى رأسها منكرة وارتفع صوتها أكثر: (لا، أقصد العصافير!). - (آه، العصافير! حسنا، أراها عندما أعود إن شاء الله). - (ولكنها كل يوم تختفي عندما تعودين). واستطردت بصوت منخفض: (العصافير تتجمع فقط عندما تكونين في المدرسة). - (حسنا عزيزتي، عودي إلى سريرك الآن). - (ولكني أريدك أن تشاهدي العصافير الكثيرة لما تتجمع وتقول مع بعض: وس وس وس..) أخذت تقفز وتقفز وتكرر بصوت مرتفع: (وس وس وس). حتى وصلت إلى أبيها الذي رفع الأغطية قائلا: (ما هذا يا ندى؟) والتفت نحو زوجته وقال: (سعاد، أخريجها من هنا). قالت الزوجة: (على أية حال، الساعة الآن السابعة والخمس). نظرت ندى نحو الطاولة الخضراء، ثم إلى والدها وقالت: (هيا أبي، اذهب إلى الحمام واغسل أسنانك وفرّش نفسك). فضحك، واستمرت وهي تدور: (يا شاطر لا تغسل بالصابون الأبيض، اغسل بالوردي لأنه لا ينشف الجلد). ضحك وقال: (حسنا، وصايا أخرى؟) ثم نهض وما أن انصرف حتى بدأت تعبث في الطاولة ثم انطلقت إلى غرفتها. وتناولت حقيبتها الزرقاء وبدأت تعبث بها، ثم أخذتها وعادت إلى أمها وقالت: (لا، لا أحب المدرسة، ولا أحب الروضة، ولكن أريد أن أكون في الروضة). - (ستذهبين إلى المدرسة بعد سنتين إن شاء الله، لأن البيت أفضل لك حتى تكبرين قليلا. الشتاء بارد في الخارج وأخشى عليك من المرض يا غاليتي). - (أعرف هذا، لأني دائما مريضة). - (لم أقل ذلك، بل أنت فتاة رائعة وقوية، ولكن البيت أفضل وأكثر دفئا. حبيبتي، توقفي عن الأسئلة). -(أمي ستذهبين اليوم؟) ودخل عادل إلى الغرفة فاشتكت زوجته إليه: (ربما علي أن لا أدعها تنام في الليل مبكرا حتى لا تستيقظ معنا). فالتفتت ندى إلى والدها الذي سألها: (ما بك يا ندى تثرثرين كثيرا هذا الصباح؟) لم تجب، وهرولت إلى البهو، وجلست هادئة بالقرب من أمل فقالت لها: (الأقراص لذيذة، لم لا تأكلين؟) أجابت ندى: (كل يوم آكل الفطور مع جيني)، واستطردت بعد برهة صمت: (لا أحب الفطور في الصبح، أحب العشاء في الظهر وفي الليل عندما نأكل مع بعض كلنا كلنا). وصمتت الطفلتان فظهر من غرفة والديهما أصوات أدراج تفتح وتغلق ثم صوت أبيهما وهو يقول: (آه، كنت أعرف فهي عادتك. لنذهب الآن، لم يعد هناك وقت، علي أن أكلمك بنفسي من هاتف مدرستك). أجابت: (حسنا. يجب أن أوقظ الخادمة قبل أن نخرج، انتظرني ثوان). وبعد لحظات هم الثلاثة بالخروج، فتبعتهم ندى، ولما اقتربوا من باب السور نادت: (أمي!) فانتبه الجميع، ثم سألت: (هل أنت خارجة لمدرستك؟) أجابت: (طبعا). وفتحت ندى حقيبتها الزرقاء، واستخرجت منها الهاتف الوردي وقالت: (خذيه!) ومدته إلى والدتها واستطردت: (هاتفك كان ضائعا في حقيبتي). ضحك عادل بصوت مرتفع وقهقهت معه أمل، واستمر ضحكهما حتى خرجا إلى الشارع، بينما وقفت سعاد وندى في صمت تتحدث فيه عينان إلى عينين، فينصت قلب إلى قلب. لم يستمر الصمت حين قالت ندى بصوتها الحاد: (قلت إنك لن تذهبي للمدرسة بدون هاتفك!) وبكت، وتلا بكاءها بريق حزن في عيني أمها تناولت الهاتف ثم خرجت وأغلقت باب السور الزجاجي واستمرت تنظر إليه حيث لم تزل ندى ترى واقفة من خلف الزجاج حتى ابتعدت السيارة عن البيت وتلاشى عن الأنظار.