كأن الشمس استيقظت لذلك اليوم باكراً لتسلب الدجى شيئاً من وقته، كاتمة ما بقي من أنفاسه الأخيرة بيد خيوط الشروق لتسجل أطول أيام الحزن والشحوب على ملامح البراءة في حياة حنان ذات الثمانية أعوام. صوت غير مألوف يتردد في ردهات غرفتها بكلمات تعودت على سماعها كل يوم استيقظت مفزوعة على صوت خالتها وهي تردد (هيا حبيبتي انهضي لأصفف شعرك وتلبسي مريولك لتذهبي لمدرستك باكراً) نهضت تثقل خطواتها كثيراً من الأسئلة يلجمها صمت الطفولة، ما الذي جاء بخالتي في هذا الصباح؟ أين أمي لماذا لم تأت لإيقاظي ككل يوم؟ في الممر المؤدي لدورة المياه مر بها أخوها حاتم على عجل كموجة ساخنة لم يعرها أي اهتمام زادت الأسئلة خطواتها تشبثاً بالأرض لماذا لم يشاكسني كعادته لماذا لم يقل أسطوانته التي يرددها على مسامعي كل يوم (هيا بسرعة يا دبدبوه لا تؤخريني عن الجامعة)، في طريق عودتها وقعت عيناها على صوت أبيها واقفاً بجوار غرفة أمها لم يعرها هو أيضاً اهتماماً، بل لاح بوجهه بسرعة عنها وهو يتمتم بكلمات لم تفهم منها شيئاً دخلت غرفتها شاردة الذهن تعصف بكيانها الأسئلة، قطع دخول خالتها صمتها المتأجج. أخذت المشط وبدأت تغرس أسنانه لتتناثر تلك الأسئلة في أرجاء الغرفة لعلها تجد من يمنحها شيئاً من الإجابة، على حافة سريرها يضع والدها بضع ريالات في عجل قائلاً: هيا جارنا أبو علي ينتظرك بالخارج ليوصلك مع بناته للمدرسة، عند خروجها كانت تحاول استراق النظر لباب غرفة أمها لعلها تلمح شيئاً من ابتسامتها المشرقة أو تشتم شيئاً من رائحة قهوتها الصباحية لكن صوت والدها يدفعها بقوة من الخلف هيا بسرعة لا تتأخري، يزداد اتساع محيط الأسئلة في مخيلتها لماذا لم يقم حاتم بإيصالي كعادته وإن كان مشغولاً لماذا لم يقم بذلك أبي رغم كليهما موجودين؟، فور جلوسها بجوار زميلتها خولة تنهال عليها بوابل من الأسئلة أين ذهبت في يومي الخميس والجمعة؟ هل حليتي واجب الرياضيات؟ هل أنت مستعدة للاختبار؟ تجيبها بحركة مشلولة برأسها وهي تردد، يا إلهي ما هذا اليوم المملوء بالأسئلة، يقطع ثرثرة خولة وصولها لباب المدرسة دخلت وكأنها تقاد إلى عالم مخيف مملوء بأشباح من الأسئلة، يوم شاحب كئيب طويل هيأ لها بأنه لا غروب لشمسه، تمر الحصة الأولى والثانية، والثالثة، وهي متشبثة بماصتها ومقعدها لم تغادرهما حتى وقت الفسحة، الحصة الرابعة تدخل المعلمة بوجهها البشوش وابتسامتها الطيبة قائلة: لن نأخذ شيئاً لهذا اليوم من المنهج، بل ستكون حصة شائقة سنتحدث فيها عن منبع الحنان الذي نرتوي منه كل يوم، عن ذلك الصدر الحنون الذي لا نمل من احتضانه، عن من جعلت الجنة تحت أقدامها، سيكون موضوعنا هذا اليوم يا أحبتي عن الأم، فلتضع كل واحدة منكن ورقة خارجية أمامها، لتبدأ بالكتابة عن ما قامت به أمها هذا اليوم منذ إيقاظها حتى خروجها إلى المدرسة، سأجمع الأوراق بعد عشرين دقيقة. ارتعش جسدها من طلب المعلمة، عاودت الأسئلة دورتها بشكل أكثر ضراوة، لماذا هذا الموضوع في هذا اليوم بالذات؟ هل أحداث هذا اليوم كابوس مخيف يطاردني؟ مضى نصف الوقت وهي محملقة في سطور صفحتها البيضاء وكأنها تخاطب ملامح أمها، وارتعش قلمها العقيم في يدها شاردة الذهن كسيرة النفس بدأت المعلمة تتجول في الفصل، استرقت النظر لورقتها فوجدتها خاوية من الكلمات، قطعت شرودها عندما ربتت على كتفها قائلة: الوقت يوشك على الانتهاء وأنت لم تكتبي حرفاً واحداً، ماذا بك؟ ألم تكوني أول المشاركات عندما يكون الحديث عن الأم؟ ألست من فازت في بداية العام بأجمل مشاركة تكتب عن الأم؟ هيا لا تتأخري أكتبي أي شيء، همست بنبرة تخنقها العبرة حاضر يا أبلة، كانت تسترق النظر للمعلمة حتى ابتعدت عنها قليلاً ثم كتبت في منتصف الصفحة بخط كبير: (أعذريني يا أمي لن أكتب عنك شيئاً لأنني لم أراك اليوم) وطوت الورقة طيات متعددة. تفز كملدوغة عند سماعها صوت جرس انتهاء الحصة الأخيرة، تخرج بسرعة البرق إلى بوابة المدرسة، تجول بنظرها يميناً ويساراً بين السيارات لعلها ترى حاتم، أو سيارة والدها، لكن صوت خولة يسدل خيبة الأمل على بصرها عندما سحبتها من يدها قائلة: أبي يقول نحن من سنوصلك إلى البيت. في منتصف الطريق يقطع مرة أخرى ثرثرة خولة المستمرة صوت رنين جوال والدها يرد: - أهلاً أبا حاتم.. نعم إنها معنا.... ثم يصمت قليلاً.. وبصوت خفيف مخيف يرد، (عظم الله أجرك). - ....... - دعها تنزل عندنا ريثما يهدأ الوضع.. - ...... - كما شئت سأقوم بإيصال بناتي ومن ثم سنحضر أنا وهي - مع السلامة. يا إلهي ما هذه السيارات المجتمعة أمام منزلنا؟ ما هذه الأحذية المتراصة أمام الباب، في وسط الصالة سمعت صوت خالها يحيي، يا إلهي ما الذي جاء به من قريته البعيدة؟ ماذا يردن هؤلاء النساء العابسة وجوههن في منزلنا في هذا الوقت من الظهيرة؟، رمت بحقيبتها وأخذت تجتاح كل تلك الجموع من النساء إلى غرفة أمها فهي الوحيدة التي ستجيب عن كل أسئلتها، يقيد الخطوتين الأخيرتين اللتين تفصلانها عن غرفة أمها صوت نحيب جدتها وعمتها، حاولت إحدى النساء الإمساك بها دفعتها بقوة وفتحت الباب لتجد ذلك الجسد المغطى في وسط الغرفة.. صرخت، أريد أمي، أين هي؟ كشفت عن وجهها وهي تردد استيقظي يا أمي ليس من عادتك النوم حتى هذا الوقت استيقظي لتنتشليني من زمهرير أسئلة هذا اليوم الكئيب ووضعت رأسها على صدرها وأجهشت بالبكاء وهي تردد، سامحيني يا أمي لم أكتب عنك شيئاً هذا اليوم لأنني لم أرك، لكنني أشهد على نفسي من أختطفك من بين يدي بأن أجعل من دموعي مداداً ووجنتي قرطاساً لأكتب عنك مدى الحياة.