ما زلت تصدحين بلحنك المعتاد.. ولثغتك الساحرة يا صغيرتي.. لتشعريني أن هذا الفضاء الواسع قادر على استيعاب صوتي كما هي أصوات الآخرين.. لأغرد كيفما أشاء.. تماما كبلبلة صغيرة حطمت قضبان الأقفاص وأنشدت في الفضاء قصيدة حالمة استيقظت على لحنها مأساتي.. وأدركت عندها أن دموع اليأس تحمل طعماً آخر. قد لا يأبه الآخر يا صغيرتي بألم ما قد يعانيه الفؤاد اليتيم.. فيقرأ مأساتك على روية.. وكل حرف فيها يوغل حد الاحتضار في قسوته.. فيستمتع بالنظر إلى تلك الروح وهي تلفظ كل حقوقها خارج نطاق ما ترغبه.. وتتجرد من طموحها الواعد لتحقق غاية أو مبدأ يستأنس به. وقد تخوضين غمار أحداث الحياة وتسبري أغوار غموضها وتكشفي عن ما قد يغيب عن حدس الآخرين.. لكن ما يخوضه الآخرون قد يغيب عنك أنت.. فتحركين مجاديفك البالية وتبحرين في هذه الحياة وربما أجبرتك أن تتجردي من عواطفك الصداقة.. وأن تسيري كالآخرين.. تماما كتمثال للإنسانية، وتصطفيك لتكوني وحدك من تلفظين حروف الوداع وترسمين تبعاته على صفحات عمرك.. ثم تحملين أمتعتك وترحلين.. وأنت على يقين بأنك بحاجة ليد رحيمة تدثرك وتمسح دموع الفراق التي تناسلت على خديك. البون الشاسع بين ملامحك البريئة يا صغيرتي وبين قسوة أولئك البشر يعيد الرعشة ثانية لأطرافي الباردة.. فلك أن تتصوري إذا حدثت المعجزة الإلهية واستوعب عقلك الصغير - كيف أرضعوك الأمن.. وغرسوا بذور الأمل والطموح في ذاتك.. وحين أيقنوا أن بذورهم قد أمست أشجاراً زاهية الثمار اجتثت أناملهم جذورها - في جنح الظلام وفي مأمن منك - فعانقت ثمارها الثرى.. لحكمة لا ترضينها وتستعصي على فهمك.. فلا يسعفك عقلك لصنع مبرر لما يفعله الآخرون سوى الصمت!!. تقدمي يا صغيرتي.. فخطواتك ترسم عشوائية بريئة على هذه الأرض اليباب التي تفتقت عن زهرة أقحوان يتيمة هي أنت.. لكنني أخشى أن ينذرك قدرك في ساعة شلت فيها عقارب الزمن أنك قد أمسيتِ في مفترق الطرق والخيار لك وحدك في أن يتسمر جسدك في ذات المكان الذي اغتيل به أمنك أو أن تواصلي السير وتخوضي عراكاً ما قد يلتهم زادك.. ويثني عزيمتك.. وإذا جن عليك الليل حدقي يا صغيرتي في الفضاء.. فإن خطف بصرك جمال ذلك البدر الذي توسط كبد السماء فاعلمي أنه الآخر الذي يجزل في عطائه الباذخ.. ويسرف في البحث في أوراقي.. يفتش عن هوية الفرح المقتضب فيها.. لكنه كاللاهث خلف السراب. أولم تقطعي معي عهداً يا صغيرتي على أن لا يأخذك النوم بعيداً إلا بعد أن تنصتي للظلام عندما يبوح بوحيه الذي أستمتع بالإنصات اليه كل مساء.. ها هي عيناك الوديعتان تطبقان أجفانهما وتنكثان العهد.. وجسدك يرتخي في أحضاني.. أخشى يا صغيرتي أن يلقنك أولئك البشر فلسفة أخرى غير هذا الحنان الذي سقيتك من نبعه.. وذاك الأمن الذي تشبع به فؤادك.. أو تعبث أيديهم الطولى في النيل من كبرياء صمودي الذي تغذى به فؤادك.. وأخشى أن لا يعقب هذا الظلام ضياء تشرق فيه شمس الطمأنينة.. فلا يأتي النهار الذي أحدق في شمسه التي أحرقني الشوق للنظر إليها يا صغيرتي رهف.