روى المبرد في كتابه العظيم (الكامل في اللغة والأدب) قصة صلح الحديبية والشروط التي تمت فيه، وكان كاتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - علي بن أبي طالب وذكر بها الخوارج حينما قال لهم- رضي الله عنه- : لي برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسوة، حيث أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: (هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو) فقال: لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك، ثم قال: اكتب: (محمد بن عبدالله)، فقال لي: (يا علي امح رسول الله)، فقلت: يا رسول الله، لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، فقال- عليه الصلاة والسلام-: (فقفني عليه) فمحاه بيده- صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: (اكتب محمد بن عبدالله)، ثم تبسم إلي فقال: (يا علي، أما إنك ستسام مثلها فتعطي). تأملوا كيف تعامل المصطفى مع هذا الموقف، وقد جردوه من أعظم لقب وأزكى صفة يتشرف بها بشر وهي صفة الرسالة المضافة لله جل وعلا، كان غير مهتم بألقاب الدنيا وزخرفها، ولا أدل على ذلك مما ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني شيخ من أهل مكة قديم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث أخا بني عبدالدار، وأبا البختري أخا بني أسد، والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبدالله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاصي بن وائل، ونبيه ومنبه ابني الحجاج السهميين اجتمعوا، أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، ولقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك به رئي تراه قد غلب عليك، وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا، فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما أدري ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقال له عمه أبو طالب بعد شكوى قريش منه فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق! فظن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم استعبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً، وكان يوصي أصحابه الكرام بالحذر من الدنيا وزخرفها وألقابها، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)ولا أدل على ذلك من قوله للصحابي في الحديث المتفق عليه: قال لي النبي- صلى الله عليه وسلم-: (يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفّرْ عن يمينك وأتِ الذي هو خير). لأن النبي- عليه الصلاة والسلام- رأى أن الإمارة مسؤولية كبيرة، قال سيدنا عمر قال: (والله لو تعثرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها لِمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟ فكلما عرف الإنسان الله عز وجل معرفة أوسع كلما شعر بأمانة اللقب الذي يحمله، وأنه مسؤوليات وليس صلاحيات فقط، وكلما ازددت معرفة بالله يزداد شعورك بالمسؤولية، وقال في حديث عند مسلم وصيته لأبي ذر. قال- صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفاً وإني أحبّ لكَ ما أحب لنفسي لا تأمرنّ على اثنين ولا توليَنَّ مالَ يتيمٍ). في حين نرى أناساً يتمسكون بالألقاب ويبحثون عن المزيد حتى أنني سمعت أستاذاً يفتخر بجمع سبعة ألقاب ثم يختمها بقوله (ولا فخر) في صورة لا تختلف عما كان يعشعش في ذهن الأديب محمد زكي مبارك عندما حصل في 21 من المحرم 1356ه 4 من ابريل 1937م على رسالة الدكتوراه الثالثة والأخيرة من الجامعة المصرية عن رسالته (التصوف الإسلامي) التي وصفها بقوله: (كتاب لم يسبقني إليه سابق، ولم يلحقني فيه لاحق) حيث كان يلقب نفسه في خريف العمر بلقب (الدكاترة زكي مبارك)، وكانت رسالته الأولى في (الأخلاق عند الغزالي) حصل بها على درجة الدكتوراه، ولكنه لم يقنع بهذه الدرجة العلمية التي نالها من الجامعة المصرية فسافر إلى باريس، وحصل على الدكتوراه في الآداب من السوربون عن رسالته (النثر الفني في القرن الرابع الهجري)، ثم يكتب عنه بحث قدمه محمد الشافعي يدل على إفلاسه بعنوان (الدكاترة زكي مبارك: قلم جارح وقلب جريح) بعد ان كان مولعاً بالنقد والمواجهات والألقاب حتى قال عنه بعض أصدقائه: (إن مباركاً رجل ثائر لا تروقه الحياة ولا يستطيب العيش إلا بالغزوات العلمية، ولو جاز وصف المساجلة كمعركة حربية وتشبيه الأدباء بالجيش لتمثلت مباركاً ضابطاً من الضباط يزدان صدره بالأوسمة والنياشين لكثرة ما نازل من الأقران). لقد كسر بعنفوانه وكبريائه ولم تنفعه ألقابه، وقد جاء في مقدمة كتابه عبقرية الشريف الرضي، أن مباركاً لم يقف من الشاعر الذي درسه موقف الأستاذ من التلميذ، وإنما وقف منه موقف الصديق من الصديق، ثم يقول: والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جداً، ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق، فقد عانى في حياته ما عانيت في حياتي، كافح في سبيل المجد ما كافح، وجهله قومه وزمانه، وكافحت في سبيل المجد ما كافحت وجهلني قومي وزماني، غير أنه مع هذه الإشارة إلى التشابه بينه وبين الرضي يقول: ولكني عاملته معاملة الصديق الأمين فنبهته إلى عيوبه بتلطف وترفق، نبهته تنبيهاً دقيقاً جداً لا يفطن إليه إلا الأذكياء) وقال عن نفسه (فما عرفت اللغة العربية في تاريخها القديم، وتاريخها الحديث، قلما أمضى من قلمي أو بياناً أبلغ من بياني). مما يدل أن الحرص على اللقب بهذا الغرور يكون نتيجة عقد اجتماعية يحتاجه المعقد لإثبات شخصيته، وما يتعلق بها للسمو تحت ضغط التهميش. الذي تفجر في حديثه عن موهبته الشعرية حين قال (ولن يستطيع ناقد متحذلق أن يكتب حرفاً في نقد هذا الديوان). تلك الحمى لم يسلم منها صغار الموظفين حينما نجد كثيراً من هؤلاء وضع على مكتبه لوحة يكاد يختفي وراءها سجل عليها ألقابه ومناصبه ومسؤولياته نعم يبتسم- صلى الله عليه وسلم- في وجه علي- رضي الله عنه- ازدراء لهذه العقلية بسبب تمسكها بثقافة الطمس، ويجيبها ماسحا لقبه الذي هو تشريف من الله جل وعلا، وليس من بشر بريقه الطاهر مترفعاً عن سفاسفهم وسطحيتهم وقصر نظرهم الذي لا يتجاوز أرنبة أنوفهم - أولئك المفتونون بحمى الألقاب - حسداً من عند أنفسهم، وهم الذين قالوا لو أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، وكأنهم يستكثرون عليه- صلى الله عليه وسلم- أن يكون رسول ربه إليهم... وهذه المحنة في جمع مزيد من الألقاب والقتال عليها مما تميز به الجنس العربي على مر التاريخ، ولذلك عاب عليهم كسرى في مناظرته النعمان قائلاً (ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من المذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس) وجواب النعمان له بقوله، وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضاً، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفاً، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه انما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأزمتهم، وأما العرب، فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطف بالعسف. لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين، هذه باختصار القصة، ولذلك ما زالوا مختلفين فيمن يسكب له الفنجان الأول في المجلس، مع أن الهدي النبوي البدء من اليمين، وما زالوا مختلفين فيمن تذبح له الذبيحة، وانسحب هذا على صبغ الأجواء الديمقراطية في الخيام بهذه الفلسفة في مرحلة تتناقض مع أبسط المبادئ، وأصبحت التكتلات والولاءات للأشخاص والفكر والموروث، ونسيت المصلحة الوطنية، والأمانة في انتخاب الأصلح مما يؤدي إلى انعكاس هذه المشاركات الرسمية إلى ضرر حينما لا تراعى حقوق الوطنية، وتقدم عليها الحقوق الأخرى مع العلم أن الوطن أول عند شعوب الأرض كلها والله من وراء القصد. الإمارات العربية المتحدة