(لا يجوز السماح بأن تنشق ثقافة وافدة عن بقية المجتمع، ولابد من أن نلمس لدى القادمين إلينا، رغبة في الاندماج، في مقابل ما نظهره لهم من استعداد)..، هكذا قال المستشار الألماني جيرهارد شرويدر بعد أن أصبحت التعددية الثقافية واقعاً لا يمكن تغييره لا في ألمانيا وحدها، بل في أوروبا بأسرها.. لكن لا يمكن السماح بأي حال في ظل أجواء الديمقراطية التي تعيشها أوروبا بوجود مجتمع موازٍ يعيش على هامش المجتمع الأصلي، يفرض ثقافته وعقيدته وسلوكياته على الآخرين.. فالمجتمع السليم من يعيش فيه أفراد منصهرون في بوتقة واحدة. وقال شرويدر موجهاً حديثه للمسلمين المقيمين في ألمانيا: (يجب عليكم أن تعلنوا بما لا يدع مجالاً للشك ولاءكم لنظامنا القانوني ولقواعد اللعبة الديمقراطية، مشيراً إلى أن بلاده تواجه مهمة الدفاع عن التراث الفكري لحركة التنوير في مواجهة التطرف والإرهاب، ولا يجوز أن يقف المسلمون المقيمون عندنا متفرجين دون تفاعل). يدعو شرويدر المسلمين للاندماج أكثر في المجتمع الألماني والتفاعل مع قضاياه ومشاكله وتوفر الاستعداد للتفاهم والتناغم على أنه المجتمع الأبدي الذي سيحيون ويموتون على ترابه. ويأتي هذا الحديث بعد حادث الاعتداء على مسجد في مدينة زينساهيم بقنبلة مولوتوف حيث تشير أصابع الاتهام إلى أوساط التجمعات اليمينية التي تعادي الأجانب وتؤيد الأفكار العنصرية المناوئة لكل ما هو أجنبي.. لذلك بادر شرويدر بإعلان حالة التسامح التي يشهدها المجتمع الألماني مع المسلمين ومن ثم طالب المسلمين بأن يتفاعلوا أكثر في الاندماج بالمجتمع الألماني ولا يعيشون على هامش المجتمع مكونين مجتمعاً مستقلاً بذاته. فقلق شرويدر مما يحدث في هولندا الدولة المجاورة له هو الذي دفعه إلى إعلان ذلك.. فقد شهدت هولندا تنازعاً بين المسلمين والعناصر المناوئة لها بعد أن أقدم مسلح على قتل مخرج سينمائي، صور المسلمين على أنهم إرهابيون وقتلة، وكان الرد سريعاً على مساجد المسلمين بهولندا، ومطالبات ومساءلات في البرلمان الهولندي بالتضييق على المسلمين في رزقهم وتعليمهم ومساجدهم داخل هولندا!! وهو الأمر الذي دفع حزب الخضر الألماني الشريك الأصغر في الائتلاف الحاكم في ولاية شمال الراين وستفاليا التي تسكنها نسبة كبيرة من مسلمي ألمانيا، إلى الاقتراح بعمل سجل اختياري لجميع مساجد الولاية وتشكيل مجلس إدارة لكل مسجد يتكون من أعضائها مجلس شورى المسلمين يقوم أعضاؤه بانتخاب ممثل عن مسلمي ألمانيا يتحدث بأسمائهم وينوب عنهم في بحث القضايا السياسية والدينية المتعلقة بهم من أجل اندماجهم أكثر في المجتمع الألماني.. وتفويت الفرصة على التجمعات اليمينية العنصرية للانقضاض عليهم أو يكون للمسلمين رد فعل عنيف على ملاحقة العنصريين لهم ويتمزق المجتمع الألماني بعد أن سجل حتى الآن هدوءاً مشهوداً بالتسامح والتعايش. فالقيادات السياسية والحزبية في أوروبا تعمل جاهدة على دمج المسلمين في مجتمعهم والتعايش معهم شريطة أن يلتزموا بقوانين البلاد وبالعملية الديمقراطية التي تفرز الأحزاب والقيادات التي تقود دفة السلطة بها. على الجانب الآخر نجد منا من يكفرون ويؤثمون المسلمين الذين يعيشون بين أظهر غير المسلمين ويطالبونهم بالاستقلال بأنفسهم والانعزال عن عاداتهم وتقاليدهم وسلوكياتهم، ويرون أن الحضارة الغربية هي حضارة مادية إلحادية لا يجب الاقتراب منها فما بال التعاطي والتعامل معها. وكثير من تلك الفتاوى شتت من فكر المسلمين في دول الغرب ومزقت أوصالهم بين الحضارة التي يستظلون بها وبين فتاوى علماء المسلمين بضرورة التنافر مع هذه الحضارة بكل إفرازاتها.. وهو الأمر الذي صعب عليهم التعايش الإيجابي مع تلك المجتمعات.. وبات ضرورياً أن يكون هناك فتوى للأقليات التي تعيش خارج ديار المسلمين لا يقوم بها إلا من عايشهم وتكبد معهم مشاعرهم وقضاياهم ومشاكلهم.. بدليل أن التعامل مع تلك الفتاوى العامة للمسلمين داخل الديار الإسلامية وخارجها صعب على المقيمين خارجها في حياتهم ومعيشتهم والتشكيك الذاتي في سلامة عقيدتهم. فالمسلمون الآن بين فكي رحى تتجاذبهم تيارات شتى بين الرافضين لوجودهم داخل أراضيهم من التيارات اليمينية المتطرفة، وبين الفتاوى التي تحرم حياتهم مع غير المسلمين والعيش بين ظهرانيهم.. حتى في عيشتهم المستقلة ترفضها القيادات السياسية داخل أوروبا وتطالبهم بالاندماج والانصهار مع مجتمعاتهم!! ومع تزايد أعداد المسلمين في الدول الغربية (بلغ في دولة كفرنسا 5 ملايين مسلم) ينبغي أن نعيد قراءاتنا لواقعهم وحياتهم مع المجتمعات الغربية، وعلينا أن نمد لهم يد العون والمساعدة، على الأقل في الفتاوى التي تعينهم على التعايش مع واقعهم بدلاً من تنفيرهم فيها.. فتلك الأقليات التي بلغت عشرات الملايين في الدول الغربية لم تذهب إلا للبحث عن حياة أفضل بعد أن ضاق رزقهم في بلادهم أو فروا بأجسادهم هروباً من واقع سياسي واضطهاد بوليسي لهم أو الذهاب لبيئة علمية تساعدهم على بلوغ طموحاتهم العلمية. إذاً المشكلة أعمق من أن نصدر لهم فتوى عامة تضيق عليهم حياتهم أو تتجاهل واقعهم ونتركهم يتخبطون بين تيارات شتى داخل المجتمعات الغربية ولا نمد لهم جسور التواصل معهم والتعاطي مع مشاكلهم ، فعلينا أن نكون حاضرين أكثر من ساسة أوروبا الذين يطالبونهم باحترام القوانين والاندماج في مجتمعاتهم وذلك بتبني قضاياهم والتخاطب معهم من خلال مؤسسة ولتكن جامعة الدول العربية ونعمل معاً على أن تكون أقليات أكثر إيجابية للغرب والشرق في آن واحد.